لا أحب البنايات الشاهقة، وأميل إلى جدران لا تفارق الأرض بعيدًا، وتنزل إليها النسائم رضيِّة رخيِّة، ويشعر ساكنها أنه قريب من أصله، وهو التراب.
حل ذلك الشعور برأسي وأنا أمضي في الشوارع الخلفية بعاصمة السودان الخرطوم باحثًا عن "السعوط". كنت قد عرفت اسمه من كتاب أحمد بهاء الدين "أيام لها تاريخ" حين وصف الإمام محمد عبده أستاذه جمال الدين الأفغاني، الذي اختلف معه فيما بعد، بأنه "الرجل الذي يجلس على قهوة متاتيا، يوزع السعوط بيمناه، والثورة بيسراه".
وقت قراءتي تلك العبارة ظننت أن السعوط هو النشوق، أو هو نوع من المعسل الذي تحط عليه جمرات في الأراجيل، لكنني عرفت بعد ذلك بسنوات أنه شيء كالدخان، لدن، يُحضّر من نبات ينمو في غرب السودان، وهو عند أهل ذلك البلد العربي كما القات عند اليمنيين، لكن بيعه مسموح به، كنوع من المزاج المشروع.
رحلة البحث عن السعوط
تعرّفت على السعوط وقت أن كنت أعمل في أبوظبي في التسعينيات، يوم وجدت مترجمًا سودانيًا كبيرًا يخرِج من حقيبته عند الضحى علبة صغيرة، ويقبض بين أصابعه منها شيئًا لدنًا ويضعه تحت لسانه. حين سألته عن اسم ما يتعاطاه أخبرني على الفور، فتذكرت جمال الدين الأفغاني، فقررت تجربته مع ذلك المفكر الثائر الجرئ الملغز، فنبهني إلى أنه ثقيل على من يتناوله للمرة الأولى، وأن عليَّ أن أكون "شبعانًا" حتى لا أصاب بقيء أو إغماء.
لم أطِق رائحته في البداية، فوضعت ما أخذته منه داخل منديل ورقي خفيف، ودفنته تحت لساني، فإذا بي أشعر أن رأسي كبر حتى ابتلع العالم كله. كنت آخذ منه تلقيمة كل يوم، وأستمر ذلك ثلاثة أشهر، قبل أن أغادر المكان عائدًا إلى مصر. لذلك حين ذهبت إلى السودان، قلت أبحث عن السعوط.
قال لي صديق سوداني "سنجده في السوق عند أمير الكيف". وتوقعت أن أجد محلًا كبيرًا مختصًا في بيع الدخان والمعسل والسعوط، لكن حين وصلت إليه، وجدتني أغرق في ضحك مكتوم. بداخل حانوت ضيق، يجلس رجل في وسط العمر فوق حصير، وخلفه أرفف متداعية، وأمامه طاولة، عليها آنيتان كبيرتان من الألمونيوم مملوءتان بالسعوط، واحدة للدن، والأخرى للجاف. فاشتريت مما عرفته فيما قبل، وهو اللدن، وعدت، أرفع بصري إلى بنايات خفيضة، وأنزلها على وجوه سمحة راضية، متفاوتة في السمرة، وحجم الأنوف، وطول القامة، فقدرت أنهم آتون من ربوع السودان كافة، عرب وأفارقة.
عرب من ذوي البشرة السمراء أو البرونزية وأفارقة وجوههم سوداء لامعة، وفي الحالتين أنت أمام صنف واحد من بشر يتمتعون بجمال خاص، تخلقه البساطة والصراحة والشجاعة والتمهل الشديد، الذي يحلو لكثيرين أن يصفوه بالكسل، وفي ذلك ظلم كبير لأناس يصارعون الطقس الحار، وشظف العيش، وتضربهم صراعات السياسة يمينًا ويسارًا، دون أن تمنحهم أي تقدم حقيقي إلى الأمام، يكافئ ما يبذلونه من جهد نبيل. ولكنهم يواصلون طريقهم رغم العنت والعناء، وهم في هذا لا يختلفون كثيرًا عن سائر العرب في زماننا.
لم أذهب إلى السودان لعمل، إنما لظرف كان حافلًا بالسعادة. إذ هي لم تكن زيارة واحدة عابرة، إنما ثلاثًا منهما اثنتان كنت فيها مُكرَّما بالفوز بجائزتي الطيب الصالح، مرة في القصة والأخرى في الرواية، وفصلت بينهما خمس سنوات، والزيارة الثالثة كانت لإلقاء كلمة باسم "الربيع العربي".
كان نجيب جسرًا عريضًا بين مصر والسودان، وكأنه أتى إلى القاهرة صغيرًا سابحًا في مياه النيل
وجوه الناس في الشارع
في السودان لا يجب أن تنشغل بالتفاوت الطبقي بين الذين تراهم من البسطاء، بمن فيهم الكتاب الذين يبحثون عن مكان للنشر أولًا، ثم التواجد فالاعتراف، أو سائر الناس الذين كانوا وقت زيارتي للخرطوم يشتكون من الفساد الناجم عن تحالف بين قادة الجيش وزعماء تيار ديني متطرف، يحدث أصحابه الناس عن استعادة الأمجاد الغابرة، وهم أول من يضعون العراقيل في الطريق إليها، من خلال أفكار وتصرفات لا يمكنها أن تدفع إلى الأمام أبدًا، حتى لو زعم هؤلاء أنهم يفعلون ما يصنع مجدًا وقوة.
لم يكن هذا السجال غريبًا عني، فهو متكرر في أغلب بلدان العالم الثالث، ولا يختلف إلا في الأفكار التي تعتنقها الأطراف المتصارعة على السلطة السياسية والثروة، لكن تبقى دومًا الفجوة التي تتسع بين الناس والملايين الذين يسقطون تحت خط الفقر.
في الفندق رأيت نتاج الثراء الفاحش في صبية عابثين، يرتدون ما لا يعرفه بقية الناس، ويتصرفون على غير ما ألفته الأغلبية الكاسحة من السودانيين وتفعله.
كان هؤلاء ذاهبين إلى صالة رقص في دور علوي، ترى على وجوههم وفي حركاتهم آثار لهو متأصل، بينما رأيت على وجوه الناس في الشارع عوزًا وحيرة وعلامات استفهام مختلفة الأحجام، لكن السودانيين فيهم سماحة، ولديهم قدرة على الجلد والتحمل، فتحسبهم أغنياء من التعفف، وتراهم في تعاون وتلاحم مدهش أيام الشدة.
كنت قد سمعت عن تجاربهم في الغربة، وحكي لي صديق سوداني طرفًا واسعًا منها، فجاليتهم في أي بلد، إن جاء سوداني جديد يحتضنونه، ويوفرون له كل سبل العيش الكريم، إلى أن يجد عملًا، فيسهم بدوره في احتضان وافد جديد.
هذه السمة وجدتها أعلى وأعظم هنا، لأني قابلت وجوهًا أكثر، لا سيما في رحلتي إلى ود مدني حيث كنت سألقي محاضرة عن "الأدب والمجتمع". فعلى الجانبين لاحت لي أرض رحبة، وكنت بصحبة قلوب صافية.
في استراحة بسيطة قريبة من مباني جامعة قابلتنا في الطريق، قام طلاب من الجالسين وتوجهوا إليَّ، وبدا أنهم قد عرفوني، فأيامها كنت دائم الظهور على شاشات التليفزيون للنقاش في قضايا سياسية، لكن ما أسعدني أكثر، أن ثلاثة منهم حدثوني عن رواياتي وكتبي، فتذكرت عبارة قديمة كانت تقال سابقًا "القاهرة تؤلف، وبيروت تطبع، والخرطوم تقرأ"، ومرة قيل "وبغداد تقرأ".
وكانت سعادتي غامرة حين رأيت بيت الرئيس المصري الأسبق محمد نجيب في ود مدني وكذلك مدرسته الإبتدائية. كان الكاتب السوداني مجذوب العيدروس قد أخبرني بأنني سأراهما في رحلة الذهاب، فبقيت مشغولًا بهما، حتى صرت أمامهما، ولاح لي على الجدران القديمة الكالحة وجه نجيب والأسى يسكنه في إقامته الجبرية، ملابسه معلقة فوق مسامير حديد مدقوقة في الحائط، وتاريخه كله يتسطر على الحائط المقابل، يراه حين يحملق في الجدار، فيستعيد كل شيء.
كان نجيب جسرًا عريضًا بين مصر والسودان، وكأنه أتى إلى القاهرة صغيرًا سابحًا في مياه النيل، فسكن ماؤه العذب شرايينه، واستقر طميه بين مسام جلده. هكذا قدرت حين رأيت النيل في الخرطوم.
أتمنى ألا تفسدوا النهر مثلما فعلنا نحن، حين زحفنا عليه بالحديد والأسمنت حتى اختنق
ست الشاي
النيل هناك بكر، يجري في براح، لم يمسسه سوء. ماء عفي، على جانبيه شاطئ هادئ، وجسر عال، يليه شارع واسع، ثم تطل البنايات من بعيد. على مسافات متباعدة يمكن أن تجد بيتًا صغيرًا يريد أن يقترب من الماء، لكن الشجر الذي يكسوه، يجعل بينه وبين المكان ألفة وتراحم.
قلت لأصدقائي من السودانيين "أتمنى ألا تفسدوا النهر مثلما فعلنا نحن، حين زحفنا عليه بالحديد والأسمنت حتى اختنق".
كان ضمن الرحلة أن نتناول الغداء على باخرة نيلية، راحت تجري في ماء رائق، لا تزعجها قوارب ضاجة بالأغاني الهابطة، تقتحم في مصر كل نوافذ العمارات التي تحد من الجانبين مجرى النهر، ولا يثنيها أحد عن سيرها الوئيد المطمئن، الذي يميد أحيانًا حين نتزاحم في مكان ما، ونترك غيره فارغًا.
على الجسر، الذي يعلو الشاطئ، وقبل الشارع وهذا الصف من البنايات الخفيضة القريبة، تجد نسوة، تسمى في السودان كل منهن "ست الشاي". تجلس الواحدة على مسافة من الأخرى أمام نصبة شاي بسيطة، تحيط بها مقاعد بلاستيكية ذات ألوان متنوعة، تغرف من مياه النهر المنسابة، وتحبس ما غرفت فى غلاية كبيرة تتأرجح فوق وشيش وابور الجاز ثم ترمي السيدة ملاعق الشاي في جوف الأكواب وتصب الماء المغلي على مهل حتى يمور ويدور ثم يروق في أحمره الداكن، فتعطيه للجالسين، ظهورهم إلى نهر بكر ينساب في وداعة نحو الشمال.
هن أرامل الرجال الذين أرسلهم البشير إلى الحرب في الجنوب فعادوا في توابيت. وزع النظام الحاكم منفعته القليلة جدًا على نسائهم الباكيات، فسمح لهن ببيع الشاي للعابرين والمتنزهين من فتية وفتيات هاربين من حياة قاسية إلى براح النهر، أو باحثين عن اختلاء في معيته، يسمح للعاشق أن يبث لواعج حبه لمعشوقته.
البشير ورجاله كانوا حريصين على التخلص من كل الذين ينبهون الناس، ويرفعون الالتباس
كل شيء في زمن البشير كان جالسًا مثل تلك النسوة، لكنه يفتقد وداعتهن وطيبتهن ورضائهن بالقليل، كما يفتقد صراحتهن ووضوحهن واستقامتهن وكدحهن بشرف واقتدار، وإن كان لا يخلو من تحايل مثل ذلك الذي تنسجه أمامك "ست الشاى" وهي تحاول أن ترضي زبائنها.
فالنظام كان يرفع في العلن شعارات "إسلامية"، تجلت بوضوح في خطاب البشير الأخير، خطاب ما قبل السقوط، بينما في السر راح يمارس كل ما يجافي الشريعة، من ظلم وقهر وبطش وتقييد وتدخل سافر في حياة الناس، واستعمال من لا جدارة لهم، وتفريغ البلد من مثقفيه وكُتَّابه ومن كل وميض لنور المعرفة والفن.
عقل السودان الجميل كان محاصرًا منذ سنين، فانفرط عقده في بلاد الناس وجعًا وغربة، فالبشير ورجاله كانوا حريصين على التخلص من كل الذين ينبهون الناس، ويرفعون الالتباس، ويقولون غير ما تطلقه أبواق النظام. وتم الاعتداء على قلب السودان، حيث التدين الوسطي المعتدل الذي يمزج الفقه بالتصوف والرواية بالدراية ومقتضى الشرع بالموروث الشعبي المفعم بالقيم الإنسانية والأخلاقية. كان العدوان بالتضييق على المختلفين، وإطلاق خطاب زاعق ناعق يجنح إلى التطرف، وتغشيه قطع الليل المظلمة، والرغبة الجامحة في إيقاف عجلة التاريخ، واصطياد أفئدة الناس وحبسها في صندوق عبأته السلطة بكل أصناف التجارة بالدين.
وانكسرت ذراع السودان في حروب أهلية ونزاعات جهوية معلنة وصراعات طبقية مكتومة وإخفاق اقتصادي واجتماعي جارح وعسس يعدون على الشعب أنفاسه، فلم يعد قادرًا على أن يهش عن جسد البلاد العريض تلك الأيدي التي تتخطف لحمه، فانفصل جزء وتصدعت أجزاء، ولم تنشغل السلطة إلا بما جمعته من ثروات وما فرضته من قيود، ولم تشغلها الأرض التى راحت تنحسر من تحت عجيزتها، فقد كان من يهمها هو أن يبقى رجالها فوق الكراسي الوثيرة أطول فترة من الزمن.
كل هذا كان يدور بين المنازل وينزلق إلى الحارات والشوارع، ثم يندفع إلى شاطئ النيل وما هو أمامه من البيوت الخفيضة الهادئة وأمامه المدى الأخضر الرائق، ليقف هنا عند أطراف أصابع "ستات الشاى"، الساكنات الجالسات على قارعة الزمن، يتابعن المسيرات الحاشدة التي كانت تمر في صخب وتهتف "الشعب يريد إسقاط النظام".
ربما وجد بعض المتظاهرين فرصة سانحة ليجلسوا قليلًا، يرتشفون الشاي الساخن، ثم ينهضون من جديد لينضموا إلى الحشود الزاحفة نحو الحرية والعدل، وكل منهم يساوره سؤال حائر عن مصيره، فمن يدري أن يستشهد بعد قليل برصاص غادر لتأتي أرملته وتصبح "ست شاى" هنا، على الضفة اليسرى للنهر العظيم؟
هذا ما دار في رأسي وأنا أتابع الثورة السودانية، وأتذكر كيف أني رأيت في زياراتي الثلاث للخرطوم أن الأغلبية الكاسحة لأهله من أطيب وأنبل وأوعى العرب، يحبون الحياة، وتنطوي جوانحهم على تسامح، وينصرف سلوكهم دومًا إلى تعاون وتراحم بينهم، عاشرتهم في الغربة حيث منافيهم، وخالطتهم في بلدهم، وسمعت شكواهم من سلطات فاسدة مستبدة تعاقبت عليهم، وحرمتهم من خيرات بلدهم المنهوبة والمنسية.
طلبت مداخلة، وقدمت نفسي قائلًا: عمار علي حسن من وادي النيل، فصفق الجالسون.
مثل شعراء حالمين
أيام ثورتهم كافح السودانيون في عزلة واكتفاء واستغناء عن العالمين، راحوا يتصدون للرصاص بصدور عارية، كشعراء حالمين، بعد أن ضاقوا بسلطة تملك منها شعور زائف بالاستعلاء، ونهم دائم إلى التوحش والاستئثار بكل شيء، والبقاء في الكراسي إلى الأبد.
قديمًا كانوا يقولون إذا اجتمع سودانيان كوَّنا ثلاثة أحزاب، وهي عبارة كانت تطلق على الفرنسيين، لكن هذا لا يعني في كل الأحوال التشتت والتفرق، إنما الاعتداد بالرأي، وربما كان هذا جراء غياب التنظيم المقنع للناس، سواء كان حزبًا أو حركة، لكن هؤلاء أنفسهم حين وجدوا في القرن التاسع عشر رجلًا دخل قلوبهم، ورفع راية استقلال بلادهم، وهو المهدي، انضووا في طريقته الصوفية، وقاتلوا إلى جانبه، وهو يعدهم بتخليص السودان من الإنجليز، ثم السير بجيشه لطردهم من مصر أيضًا.
إنها الروح نفسها التي يحملها السودانيون حيال مصر، ويحملها المصريون حيال السودان، في أيام الشدة، غير منساقين وراء دعايات مريضة، تريد بث الفرقة بين الشعبين، وتصدر صورًا تاريخية مغلوطة. إنها الصورة التي حاول البعض أن يطلقها في فضاء ندوة حاشدة بقصر الثقافة، باستدعاء أفكار متعصبة، ردًا على الأديب المصري الكبير محمد المنسي قنديل، حين تحدث عن العبودية، من واقع روايته البديعة "كتيبة سوداء"، وكيف كان تجار الرقيق يأسرون الناس عنوة من جنوب السودان وأبعد منها في عمق القارة السمراء، ويحملونهم إلى سوق الجلابة بالقاهرة قبل قرون.
قبلها كان قنديل محل حفاوة من كل الذين يقابلونه، مذكرين إياه بكتاباته التراثية في مجلة "الدوحة" القطرية، حين تولى السوداني الدكتور محمد إبراهيم الشوش رئاسة تحريرها بتزكية من الروائي الكبير الطيب صالح.
توالت المداخلات التي تنتقد قنديل، وهو يقابلها بابتسامة، لأنه واثق أنه لم يقصد إساءة لأحد، وأنه ما كتب هذه الرواية إلا لمقت العنصرية، وإدانة تجار الرقيق، وعقلية الاسترقاق، والانتصار لحرية الإنسان، إلى جانب الأهداف الفنية التي دعته إلى إبداعها.
طلبت مداخلة، وقدمت نفسي قائلًا: عمار علي حسن من وادي النيل، فصفق الجالسون.
كنت ذاهبًا لأتسلم جائزة "الطيب صالح" عن رواية "بيت السناري"، وبطلها هو رجل سوادني اسمه "إبراهيم السناري"، بيع في سوق الرقيق، واشتهر بأعمال التنجيم، فتقرب من علية القوم، حتى صار نائب حاكم القاهرة، الذي كان وقتها هو مراد بك، ثم بنى بيتًا فخيمًا بمعيار زمنه. وكان البعض سمع عن روايتي تلك، فقلت حكايتها باختصار، وتحدثت عن سودانيين دخلوا قلوب المصريين وتاريخهم، مثل إبراهيم السناري، ومحمد أحمد المهدي، ومحمد عثمان البرهاني، ومحمد الفيتوري، والطيب صالح، وكان أول رئيس لمصر بعد يوليو 1952 محمد نجيب جسرًا بين البلدين، فأبوه مصري، وأمه سودانية، ثم قلت لهم في بساطة "اعتبروني عضوًا في حزب الاتحاد السوداني".
كنت أعرف طرفًا من تاريخ ذلك الحزب الذي أضعفته الأيام، وكيف تقوم عقيدته السياسية على الدفاع عن وحدة السودان ومصر، فراق قولي للجالسين، فصفقوا مرة أخرى. وبعدها اختلفت لهجة المداخلات، وتحدث الناس عما يجمع بينهم، لا ما يفرق، وتغاضوا، ولو مؤقتًا عن الضغائن التي صنعها نابشو التاريخ، وتجار الأزمات السياسية، ومروجو ثقافة الكراهية، والناظرون إلى الشين في كل شيء.
كان هذا النقاش يجري في قاعة ليس بينها ومجرى النيل سوى شارع غير واسع، تجري عليه السيارات في الاتجاهين، وعلى مقربة منها كان يقع بيت رئيس الجمهورية، وكان في الأصل بيت مهندس الري المصري الذي أقام سنوات طويلة في الخرطوم قبل الانفصال عن مصر عام 1956، ليصبح السودان دولة مستقلة ذات سيادة.
الرئيس في بيت الري، والقاعة إلى جوار النيل، والنهر يجري من هناك إلى هنا. يقطع السودان بطوله، ومصر كذلك، كالأورطي، ذلك الشريان الذي يوصل الدم إلى الجسم كله، إنه جسم كتلة جغرافية واحدة جمعها النيل والتاريخ والهجرات المتبادلة والانشغال والتزواج.