منذ اندلع القتال في السودان صباح السبت، يتابع المصريون بقلق بالغ تطورات الوضع هناك، ليس فقط بحكم الجيرة والتاريخ المشترك الطويل، ولكن أيضًا بعد انتشار صور وفيديوهات لجنود وضباط مصريين يُعاملون مثل أسرى الحرب من قبل جنود تابعين لقوات الدعم السريع التي يترأسها محمد حمدان دقلو، الشهير بـ"حميدتي"، وهو الاسم الذي يستخدمه السودانيون لتدليل الأطفال الذين يحملون اسم النبي محمد، عليه الصلاة والسلام.
الفيديوهات المنتشرة أعطت انطباعًا أن قوات حميدتي تعتبر القوات المصرية طرفًا في الحرب التي اشتعلت بينه وبين رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، خاصة بعد أن وصفها مقربون منه في تصريحات صحفية بالقوات "المستعمرة" و"المحتلة".
كما تحدثت التقارير عن استيلاء قوات الدعم السريع على عدة طائرات حربية مصرية رابضة في "قاعدة مروي" التي تبعد عن العاصمة الخرطوم نحو 300 كيلومتر.
بعد ساعات انتظار طويلة، أصدرت القوات المسلحة المصرية بالفعل في مساء اليوم نفسه بيانًا مقتضبًا للغاية اكتفى بالقول إنها "تتابع عن كثب الأحداث الجارية داخل الأراضي السودانية، وفي إطار تواجد قوات مصرية مشتركة لإجراء تدريبات مع نظرائهم في السودان، جاري التنسيق مع الجهات المعنية في السودان لضمان تأمين القوات المصرية. وتهيب القوات المسلحة المصرية الحفاظ على أمن وسلامة القوات المصرية".
لم يشر البيان إلى واقعة احتجاز الجنود والضباط من الأساس، ولم يوفر أي معلومات بشأن أعدادهم أو رتبهم العسكرية، مما ترك الباب مفتوحًا أمام الكثير من الشائعات، وترك المصريين فريسة للسوشيال ميديا ومحطات التلفزيون العربية والدولية لمحاولة الحصول على أية معلومات.
كما تجاهلت وسائل الإعلام التابعة للدولة الخبر وكأن مجرد عدم الحديث عنه ينفي حقيقته. التزمت نشرات الأخبار بالترتيب التقليدي في تغطية نشاط الرئيس وبقية الأخبار المحلية ثم تناول الشأن السوداني بشكل محايد وكأنه يحدث في بلد بعيد، وسط مناشدات عامة لكل أطراف الصراع في السودان بتغليب مصلحة الشعب السوداني.
الموقف الأمريكي
في نفس يوم اندلاع الاشتباكات غير المسبوقة في العاصمة الخرطوم، نشرت وزارة الخارجية الأمريكية بيانًا أفاد بأن وزير الخارجية أنتوني بلينكن أجرى اتصالات هاتفية مع نظيريه في السعودية والإمارات لمناقشة الوضع في السودان.
ورغم أن مصر هي الجارة الشمالية للسودان وتربطها بها علاقات تاريخية ومصالح استراتيجية ممتدة تزايدت اهميتها في السنوات الأخيرة مع بروز قضية سد النهضة الإثيوبي، لم نقرأ أي بيان حتى وقت كتابة المقال عن اتصال رسمي جرى بين الوزير الأمريكي ونظيره المصري لمناقشة تطورات الوضع في السودان والموقف الخاص بالقوات المصرية المحتجزة هناك.
وبينما كانت القنوات الإخبارية تبث أنباءً متواترة عن اتصالات تجريها أطراف عدة، على رأسهم وزيرا خارجية السعودية والإمارات وقادة دول إفريقية، مع البرهان وحميدتي لحثهما على وقف القتال الذي يهدد باندلاع حرب أهلية وربما المزيد من مشاريع التقسيم في الجارة الجنوبية، لم ترد أية تقارير رسمية عن اتصالات أجراها الرئيس المصري أو وزير خارجيته مع رئيس مجلس السيادة السوداني ونائبه.
التقارير الإخبارية تتحدث على أن علاقة مصر أقرب إلى البرهان، ولكن ذلك قد لا يكون دقيقًا بالضرورة
بالفعل أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي مع رئيس جنوب السودان سلفا كير نداءً مشتركًا للأطراف المعنية في السودان لوقف القتال، ودعت مصر المندوبين الدائمين لجامعة الدول العربية لاجتماع عاجل لمناقشة الوضع هناك، ولكن وفدًا إفريقيًا هو الذي توجه للعاصمة الخرطوم للقيام بجهود للوساطة، وليس الوزير سامح شكري أو أي مسؤول مصري رفيع المستوى.
لا تنقص مصر بكل تأكيد قنوات اتصال مفتوحة مع الفريق البرهان رئيس المجلس السيادي، الذي يزور القاهرة بشكل منتظم، ولا مع نائبه حميدتي الذي سارع فور تسريب الفيديوهات الصادمة الخاصة باحتجاز القوات المصرية في قاعدة مروي إلى الاعتذار والقول إن هذه تصرفات من صغار الجنود وأن مصر ليست طرفًا في الصراع، مؤكدًا أن الجنود والضباط المصريين بخير وسيتم تسليمهم إلى دولتهم فور استقرار الأوضاع.
ولكن الأوضاع لم تستقر، وفي اليوم الثالث للقتال، الاثنين، وردت تقارير جديدة عن هجوم يشنه الجيش السوداني بقيادة البرهان ضد قاعدة مروي حيث كانت تجري التدريبات العسكرية المشتركة بين مصر والسودان "نسور النيل-2".
وأضافت التقارير أن قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي أحرقت طائرة مصرية وفرَّت من هناك وبصحبتها "الأسرى المصريين". وأثارت تلك التقارير التساؤلات مجددًا حول نوايا حميدتي وسبب التأخر في تسليم الجنود والطائرات إلى مصر، حتى في ظل استمرار القتال. وذكرت صحيفة النيويورك تايمز الاثنين أن عدد القوات المصرية المحتجزة يبلغ ثلاثين، بجانب سبع طائرات حربية في قاعدة مروي.
موقف معقد
ولكن المؤكد أن مصر موقفها شديد الحساسية في التعامل في كل ما يحدث في السودان من تطورات متسارعة، سواء بسبب احتجاز الجنود والضباط المصريين، أو في ضوء علاقتها التاريخية المعقدة مع السودان وأطراف الصراع الحالي، البرهان وحميدتي.
ومن المعروف أن هناك أطرافًا سودانية لا تقبل تدخل مصر الرسمي في الشأن السوداني لأسباب تاريخية، وتتحدث عن تعامل المصريين بعنصرية مع ملايين السودانيين المقيمين في مصر منذ عقود طويلة. وهذه الأطراف تعتبر رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أقرب لها من مصر، وقبلت قيامه بجهود الوساطة مع الجيش السوداني في أعقاب اندلاع الثورة ضد البشير، ورفضت أي تدخل مصري.
التقارير الإخبارية تتحدث على أن علاقة مصر أقرب إلى البرهان، ولكن ذلك قد لا يكون دقيقًا بالضرورة، وفقًا لخبراء مصريين في الشأن السوداني. فحميدتي في تصريحاته النارية منذ اندلاع القتال في الخرطوم، يتهم البرهان أنه استسلم لنفوذ قادة الجيش من الإسلاميين الذين يدينون بالولاء للرئيس السابق عمر البشير، والذي لم تربطه بمصر علاقة جيدة طوال سنوات حكمه الثلاثين، منذ 1989 وحتى الإطاحة به في 11 أبريل/نيسان 2019، خصوصًا بعدما فتح أبواب بلاده للجماعات الإسلامية المتشددة والإرهابية والتي تورطت في محاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995.
حميدتي تربطه علاقات قوية للغاية بالإمارات التي تساهم في تسليح قواته
كما تمتعت جماعة الإخوان المسلمين بنفوذ كبير في السودان طوال حكم البشير، واستقبلت الخرطوم المئات من الفارين من جماعة الإخوان بعد ازاحة الرئيس الأسبق محمد مرسي من منصبه في يوليو/تموز 2013.
وفي ضوء الكثير من التطورات المتلاحقة التي شهدتها السودان منذ الإطاحة بالبشير وفشل القوى المدنية بقيادة "قوى الحرية والتغيير" في الانتقال نحو دولة مدنية ديمقراطية، وسريان حالة من الفوضى في مختلف الأقاليم السودانية بسبب غياب سلطة مركزية قوية، تتحدث التقارير عن تغير الخريطة السياسية والتحالفات القائمة.
ويتهم البرهان "قوى الحرية والتغيير" التي قادت ثورة 2019 بالتحالف الآن مع حميدتي رغم موقفهم العدائي منه واتهامهم له بتدبير القمع الدموي للتظاهرات السلمية أمام مقر قيادة الجيش في يونيو/حزيران 2019، وهو ما دفع البرهان للعودة للتحالف مع الإسلاميين ورموز النظام القديم الذين تبدو احتمال عودتهم للحكم في ظل نفوذ البرهان أقوى من أي وقت مضى.
وفي الوقت نفسه، فإن حميدتي تربطه علاقات قوية للغاية بالإمارات التي تساهم في تسليح قواته وجعلت من مقاومة سيطرة الإسلاميين على الحكم في مختلف الدول العربية أولوية بالنسبة لها. كما أن حميدتي ساهم بقواته في دعم القوات الإماراتية في حرب اليمن، بشكل أكبر من البرهان الذي قاد قوات سودانية في اليمن كذلك ولكن تحت سيطرة المملكة السعودية.
وأدى تدخل الإمارات في الشأن السوداني إلى تراجع نفوذ قطر التي كانت لها الحظوة في أيام حكم البشير والإسلاميين في السودان. وتشير التقارير الغربية إلى أن الإمارات هي التي تمول تواجد قوات فاجنر الروسية في السودان والتي تقدم الدعم لحميدتي وتستثمر في مناجم الدهب الواقعة في دارفور، حيث منطقة النفوذ الأساسية لقائد قوات الدعم السريع.
ولا يخفى على أحد متانة العلاقات بين مصر والإمارات، وكذلك مع المملكة السعودية، وإن بدرجة تبدو أقل حميمية خاصة في الفترة الأخيرة. ولكن ما يجري في السودان الآن يعكس إلى درجة كبيرة كيف تغيرت الخريطة السياسية في المنطقة العربية، بحيث أصبحت السعودية والإمارات، وكذلك قطر، هم اللاعبين الرئيسيين في ملعب واسع وممتد من العراق واليمن ولبنان إلى ليبيا والسودان، مقابل تراجع ملحوظ للدور المصري الإقليمي والدولي.
انهار العراق وليبيا وسوريا، وانشغلت مصر بمشاكلها واستقرارها الداخلي وتدهور الوضع الاقتصادي منذ العام 2011، وهو ما عزز موقف الدول الخليجية النفطية التي يبدو أنها أصبحت لها اليد العليا الآن في عدة دول عربية تبعد عنها آلاف الأميال.
وفي الوقت نفسه، سيبقى المصريون حائرون غالبًا بشأن كل ما يجري في السودان، ومصير قواتنا هناك، وإذا ما كنا نساند البرهان أم حميدتي، أو لا نساند أحدًا على اعتبار أن تدخلنا لصالح أي طرف سيضر بالمصالح المصرية على المدى الطويل. من حقنا أن نعرف ما يجري في السودان في بيانات ومواقف مصرية واضحة لا لبس فيها، وألا ننتظر القنوات العربية والدولية لكي تكشف لنا مصير قواتنا المحتجزة هناك.