أعد نفسي كاتبًا هاويًا. حتى بعد أن بلغت الثالثة والستين. أنا مدين لفترة الهواية الخالصة في بدايات الكتابة في التسعينيات. كانت فترة مشمولة بالتضحيات من أجل ما نكتب. الصورة الداخلية عن أنفسنا أهم من الخارجية. ربما المكسب الوحيد هو الفرح وسط قلة من الأصدقاء، تشبه "الأخوية"، ودون أي جمهور يسكن مستقبل المخيلة.
كانت الفرحة بأن يخبرك أحدهم بأن القصيدة جميلة تجعلك تتسامى فوق عالمك المليء بالتناقضات، وتقف في نقطة عالية بجسد أثيري تراقب الحياة.
تلك الفترة التي يتم فيها بناء النفس وتقويتها في الظلام، ووضع قواعد صارمة لنموها في المستقبل. من داخل ذلك الظلام ينمو "الآخر" أيضًا بالشروط والتقشف نفسهيما، بحواف حادة كرمح مسنون، قابل أن يتوجه للخارج، أو يجرح الداخل. ربما خطورة الهواية، أنها معرضة دائمًا أن تنقلب على صاحبها.
الحاضر المقيم
كانت المخيلة وقتها موجهة كلية للحاضر، لاصطياد الجانب اللا مرئي من الحياة، وتعرية تلك الطبقات التي تسكن بداخلها. كان الشكل "الاحترافي" الوحيد، آنذاك، هو الإحاطة بتعددية المعنى، بسطحه الخشن المليء بالنتوءات والخبايا، بالصدق الذي يكتنفه، ويكتنفنا.
كنت عاملًا أجيرًا باليومية في مؤسسة الكتابة، لا أرغب في أي مديح سوى الحصول على ما يشبعني نفسيًا في نهاية يوم طويل وممتد من العمل والسعي، لا حدود فيه بين ليل ونهار. ربما يتغير الضوء، ولكن لا يتغير السعي.
كان الزمن مفتوحًا من الجانبين، لا بداية أو نهاية. حاضر مقيم كجنة أبدية. الغوص في طبقات ذلك الحاضر، حتى الوصول للجانب اللا مرئي منه. اللا مرئي كان الحد، وليس الزمن.
كان مكان المستقبل فارغًا، وأيضًا مكان الماضي، حتى ولو كنت أقتاتُ على أحداثه، ويقتات عليه "حس الهواية"، ولكنه كان قد مضى، وما تبقى منه صورة تكونت بالقصور الذاتي. كان الماضي خفيفًا رغم ثقل أخطائه، ولكن للأسف كان الآخرون يعيشون داخل زمن الأخطاء ذلك.
زمن الهواية هو زمن الأخطاء. الذات الهاوية تريد أن تفجر كينونتها وتنثرها باتساع الأرض، لتصل للحافة، للحد اللامرئي للإقامة، التي تسيطر عليها، حتى تتحول لذات كلية داخل ذلك الجسم الصغير، وهو أحد أهداف الهواية، امتلاك "كلية" قابلة للتحول. ربما أيضًا هي رغبة الحياة فينا، أن نحتوي حقائقها، ومادة خلقها، داخل أجسادنا الهشة.
داخل الهواية تتكثف مادة الخلق، وتكشف عن نفسها كرغبة خالدة. يدفعك حس الهواية لتأخذ جانب المخاطرة والتضحية بالنفس من أجل الحب. تحرق مسافات جغرافية ونفسية، كانت ساكنة بداخلك. مسافات بعيدة عن حياتك نفسها، فلا أحد يقف أو يسند جدار الحياة، في تلك اللحظة، سوى تلك الحافة وليست الذاكرة.
للهواية وجه عنيف، تسرب إلى النفس إحساس الترفع والزهد وأيضًا القسوة
أعيش، حتى الآن، وأنا في الثالثة والستين، بالقصور الذاتي لتلك الفترة الخصبة. تآزر فيها الكشف عن الآخر اللا مرئي سواء في الكتابة والنفس معًا. الكتابة والنفس، كانا وجهين لعملة واحدة، فالهواية لم تكن مقصورة على الكتابة، بل أسلوب حياة، التمسك بالحس اليدوي للأشياء بعيدًا عن استنساخ الآلة. كان أهم ما تعلمته في تلك الفترة، أن تعلم نفسك بنفسك، ولا تترك عمل اليوم إلى الغد، وأن تكون مسؤولًا عن أخطائك حتى ولو لم تكن سببًا فيها.
درجة متطرفة من الكبرياء
منحتني الهواية درجة عالية، وربما متطرفة، من الكبرياء الحاد. للهواية وجه عنيف، تسرب إلى النفس إحساس الترفع والزهد وأيضًا القسوة. تتحول الذات إلى قطعة زجاج حوافها مكسورة، أمام الخارج/ الفريسة.
كبرياء لا يستند على أي ملكية سوى الحاضر، وفعل "التسامي" الذي يغير من كتلة الأشياء ومعناها. تولِّد الهواية التسامي وليس التعالي، تتغير كتل الحياة، حتى تعوض ميزان عدالتها المائل. أما التعالي فحالة تجمد مفاجئ لسيولة طبيعية.
داخل زمن الهواية تتسامى صور المخيلة، تعلو فوق النقائض، لأن زمنها مفتوح، وأبدي، هناك تحول ضمني لأي سلطة، إلى علاقة، كون الهواية تبحث عن المطلق، وداخل ذلك الزمن المطلق، تذوب كل السلطات وتعود لصورتها الأولى، كأحجار تتخلل نهر للحياة ولكنها لا تعوق تدفقه.
يساري دون أن أدري
أي فعل هواية له علاقة بالسياسة من ناحية الحفاظ على الجانب الهامشي من النفس والحياة معًا. حس الهواية جزء من بناء أي "هامش". تتكون أخويات سلاحها الوحيد الاستغناء، ضد رأسمالية المجتمع ونظام استهلاكه وآلية استنساخه لكل قيمة واللعب بها ومسخها.
كنت يساريًا دون أن أدري، بزهد اليساري وحدَّتِه. ترتبط الإيديولوجية بالنقائص الشخصية، تصبح لحمتها وسداها، وعند نقطة يصعب فيها الفصل بين الاثنين، بين نقائص وتناقضات النفس، والاتجاه العقائدي المختار.
ربما هناك نموذج سابق يوجه إحساس الهواية ويتحكم في زمنه. بدأت أدخِل على هذا الحس اليساري المتقشف، بعض الرفاهية التي ستؤدي إلى ممارسات جانبية بها ترف واستهلاك. كأن هناك أيضا نموذج رأسمالي شبحي يحارب نموذجي السابق، في الظلام، ويحاول أن يجذبه إليه. لا ضير، ففي النهاية صراعنا يكون مع نماذج حتى نحسن من قسوتها وحدتها ورغبتها سواء في الفناء أو الاكتناز.
ميزان العدالة المختل
ربما وظيفتنا المؤقتة في الحياة ألا نخترع نماذج جديدة؛ بل نكتشف القديمة التي تتحكم في مسار حياتنا وبقدر الإمكان نحاول أن نحسن منها بإضافة لمستنا الخاصة، التي لا تقبل الشك أو الزيف أو الاستنساخ، إلى تلك النماذج حتى تذوب وسط إنسانيتنا ولا تعدو فقط نماذج مسيطرة.
كان يتملكني خوف من التخلي عن نموذج "الهاوي"، والعيش في الحياة بلا ضفاف. ربما الخطأ في تطبيق أي نموذج، وأن ترث أخطاءه، سببه أزمة أكبر، ألا وهي انتفاء العدالة، التي يمكنها أن تعالج تطرف أي نموذج. تطرف النموذج، يساريًا أو يمينيًا، هاو أو محترف؛ يأتي من ميزان العدالة المختل الذي يدفع صاحبه للمزيد من الحدة، والتمسك بالنموذج كأنه ديانة جديدة.
ربما لن يعود لأي نموذج إنسانيته إلا بعد إعادة تعديل نموذج الحياة ككل، وهذا مستحيل فمنذ البداية هناك دومًا "سابق"، سيظل له السطوة، إما أن نتصالح معه، أو نقتله، وفي قتله هلاك لنا. السابق جزء أصيل من أي مستقبل، لذا أي زمن مستقطع ومفتوح من الجانبين، كزمن الهواية، يعيش داخل تجاذب السابق واللاحق.
تتكون داخلنا النماذج، ومنها "نموذج الهاوي"، قبل أن ندرك ما وراءها، من تصور مثالي عن الحياة. المثالية نفسها نموذج كلي لم نوجده أو توجده الأديان إلا للحفاظ على الحياة نفسها، عن نموذجها الأعلى، بوضعها في الحد الأقصى ولكنها خدعتنا وعاشت بعيدا عن فكرة الحفاظ على الحياة، وتفرعت في مسارب جانبية تغذي الشهوة والنفس المتعطشة لالتهام الحياة أو قتلها، بالاستغناء عنها، وفي كلتا الحالتين هناك فناء لمفهوم الحياة كما نريد أن نعيشه.
تدفعنا الحياة الاستهلاكية أن نتخلى تحت شعار "الاحتراف"، عن ممارسات يجب أن تحافظ فيها على قبس الهواية
الاحتراف شكل استهلاكي
أحيانًا يأخذ مفهوم الاحتراف شكلًا استهلاكيًا بعيدًا عن مفهوم التخصص الواجب في مثل هذه الحالات لكني في الوقت نفسه لا يعتبر "الهاوي" غير متخصص، لكن معرفته لم تدخل في نهر الاستهلاك، أو على الأقل تقف على حوافه وهوامشه. لولا الهامش لماتت الأخويات التي كونتها الهواية. ربما الهواية، برغم تطرفها، واختياراتها القصوى، تملك داخلها إمكانية التعدد كونها تنظر إلى الحياة من على الهامش بينما الاحتراف معرض دوما للنفي أو الثبات كونه يقف في مركز الحياة، لا ينظر إلا لنفسه.
أشعر بأني أكتب على حافة عصر سيتحول كل ما فيه، وتختفي تلك المقولات الثنائية التي صنعتها العصور السابقة جغرافيًا أو نفسيًا. حتى عامي الثالث والستين أقف في مكان وهمي بين الهواية والاحتراف. ليس مكانًا طبقيًا، أو جغرافيا، بل ملاذًا نفسيًا.
أصبح "زمن الهواية" من تراث الماضي، لم يعد هناك "حاضر مقيم"، بعد أن انزلقنا، بإرادتنا، ومن دونها، وسط موجات من التحلل والصور المزيفة. كلما شعرت بوطأة تلك الصور والممارسات، وبجرح في كبريائي، أعود بصرامة لملاذي النفسي، لطفولة زمن الهواية. ولكن بعد أن فقدتُ شعور الفرح القديم بالاستغناء، فالاستغناء مثله مثل أي شيء مؤقت وقابل للاستهلاك، وفي النهاية يتحول إلى مادة مصمتة بدون رنين، لا تولد إلا المرارة.
روح كلية بديلة
منذ التسعينيات وحتى الآن، تقع نقطة تحول مؤلمة في نظرتنا للحياة. كانت فترة انزلاق ورمال متحركة ومن الصعب الثبات على موقف محدد لأن الرمال تتحرك ومعها يتحرك العالم، والذوات، والأفلاك، لاشيء ثابت، ومن الصعب قياس أي حقيقية بمفهوم التضحية، أو الزهد، أو الاستغناء، كونها في النهاية أدوات اخترعتها الذات للحماية، ولكنها ليست جزءًا منها. بجانب أن التضحية والزهد، يحتاجان لوفرة ونور داخلي يعوض أضواء صور تلك الفراديس الاصطناعية التي أوجدها "الاحتراف".
تدفعنا الحياة الاستهلاكية أن نتخلى تحت شعار "الاحتراف"، عن ممارسات يجب أن تحافظ فيها على قبس الهواية. الخوف يتهددنا من الاستسلام للاحتراف بكل استهلاكيته، بتقسيم العمل وسطوة الآلية، اللتين يتحكمان في صناعة أسطورته، والدخول في صراع لم نصنعه، لكن صنعه شكل مجتمعات، انسدت الطرق أمامها لتختار طريقة عيشها وهوايتها واحترافيتها بنفسها. في كلتا الحالتين؛ الهواية والاحتراف، هناك شيء ناقص، ولم يكتمل.
بسبب التخصص انفصل الساحر، عن العراف، عن الكاهن، عن الطبيب، كما عند الشامان. كل ذهب في طريق. بسبب ضبط الحياة ونشأة العلوم تم القضاء على "الروح الكلية" التي كانت تحوط الهواية وهدفا لها في آن. ربما وسط هذه الخريطة المتشابكة، يمكن أن نختار لنا طريقًا، بحثًا عن روح كلية بديلة.