اختلطت الأوراق والدوافع ووجهات النظر، وانتزع الموقف من السياق العام للسينما والتليفزيون في مصر والعالم، أثناء النقاش الذي أثاره خلاف الموسيقار راجح داود مع المخرج خالد يوسف، على الرؤية الموسيقية التي ظهرت من خلال النسخة المعروضة من مسلسل "سره الباتع".
عندما أعلن داوود عبر صفحته على فيسبوك عدم مسؤوليته عن الموسيقى التصويرية للمسلسل، لأن المخرج أضاف لها مقطوعات موسيقية أخرى، بعضها لموسيقيين آخرين، خرج خالد يوسف ليبرر موقفه بأن داوود سلمه موسيقى المسلسل قبل رمضان بأيام، وأنه وجد أثناء المونتاج الكثير من المشاهد التي تحتاج لموسيقى إضافية مختلفة التأثير والنبرة، وأنه طلب من راجح مقاطع إضافية لتلك المشاهد، فرفض مكتفيًا بما أرسله، متعللًا بأنه ليس من المنطقي أن يؤلف موسيقى لمشاهد تفصيلية لمسلسل مدته 30 حلقة.
وهو ما دفع يوسف، حسب قوله، لاستخدام مقطوعات أخرى يملأ بها فراغات تلك المشاهد، فلجأ إلى مقطوعة لراجح من فيلم "الريس عمر حرب" ومقطوعات لأحمد سعد من فيلمي "دكان شحاتة" و"كف القمر"، والأفلام الثلاثة من إخراج يوسف نفسه، وفيما يتعلق بالحقوق الفكرية أضاف يوسف أنه أخبر راجح بشأن استخدام مقطوعة "عمر حرب"، وأنه كتب ضمن عناوين المسلسل شكرًا خاصًا لأحمد سعد على سماحه باستخدام موسيقاه.
كان يمكن أن ينتهي الموقف عند هذا الحد بعد أن أوضح كلا الطرفين موقفه، وأن يحل بكتابة مزيد من التفاصيل على "تترات" المسلسل منعًا للالتباس، ولكن الغضب ضد خالد يوسف تصاعد بسرعة حتى وصل إلى إصدار بيان تضامن مع داوود وقعه عدد من مؤلفي الموسيقى التصويرية من أعضاء جمعية المؤلفين والملحنين، ينتقدون فيه ما فعله مخرج المسلسل وينعون الحال الذي آلت إليه الموسيقى التصويرية في مصر.
وبغض النظر عن تقييمنا النقدي لمسلسل "سره الباتع" ورأينا في خالد يوسف وأعماله (ورأيي الشخصي في العمل سلبي)، فإن أولى البديهيات التي غابت عن النقاش، هي أحقية المخرج في اختيار ما شاء من مقاطع موسيقية، سواء من الموضوعة خصيصًا للعمل أو غيرها، شرط مراعاة حقوق الملكية وسداد مستحقات المؤلفين الآخرين والإشارة إليهم في التترات؛ وهو ليس ملزمًا بأخذ الموسيقى التي وضعت خصيصًا للعمل.
وهناك عشرات ومئات الحالات لمخرجين كبار لم يلتزموا بالاقتصار على ما وضعه المؤلف المتعاقد على العمل، والأمثلة أكثر من أن تحصى. مخرجون مثل ألفريد هيتشكوك ويوسف شاهين، استغنوا عن موسيقى وضعها كبار المؤلفين أو غيّروا أجزاءً منها، أو استخدموا مقاطع موسيقية أخرى لمؤلفين معروفين. بل يمكن أن نجد أعمالًا شارك فيها راجح داود نفسه، فمثلًا فيلم أرض الخوف يحتوي على مقطوعة تنسب لراجح وهي مقتبسة من موسيقى وضعها المؤلف العالمي إنيو موركوني لفيلم Once Upon a Time in America (حدث ذات مرة في أمريكا) إخراج سيرجيو ليوني، 1984.
ولو نظرنا إلى فيلم مواطن ومخبر وحرامي سنجد اسم راجح داود على العناوين كمؤلف موسيقي، لكن الفيلم يحتوي على أغانٍ كثيرة بصوت شعبان عبد الرحيم لملحنين آخرين موضوعة خصيصًا للفيلم، وهي تساهم بقوة في تشكيل البناء الإيقاعي والموسيقي له، وبالتالي فإن الحديث عن وحدة البناء الموسيقي وكون المؤلف الموسيقي هو المسؤول عن ذلك أمر غير صحيح بالمرة، لأن المخرج هو المسؤول.
من شاهين لكوبريك
لو مددنا الخيط أكثر سنجد أن معظم الأفلام والمسلسلات تضم إلى جانب الموسيقى التصويرية الموضوعة خصيصًا لها، مقطوعة أو أكثر، موسيقية أو غنائية، يستخدمها المخرج في المشاهد التي يشعر أن الموسيقى الأصلية لا تعطي التعبير الأفضل، وأي مراجعة لعناوين (تترات) بعض الأفلام العالمية يمكن أن تكشف لنا العدد الهائل من المقاطع الموسيقية والغنائية التي يستخدمها المخرجون بجانب الموسيقى الموضوعة للعمل.
ومن المواقف متكررة الحدوث أيضًا قيام المخرجين بتعديل الموسيقى الموضوعة، ومن القصص المتداولة ما فعله يوسف شاهين في أغنية "حدوتة مصرية" تلحين أحمد منيب، وأغنية "علي صوتك بالغنا" تلحين كمال الطويل، أو استخدامه الحر للموسيقى في أفلامه، كما حدث مثلًا في "عودة الابن الضال". ومن المخرجين العالميين يكفي أن نشير إلى كوينتن تارانتينو الذي يعتمد اعتمادًا شبه كلي على استخدام موسيقات وأغانٍ معروفة.
ويروي المخرج الياباني أكيرا كوروساوا في مذكراته كيف قام باختيار مقطوعة موسيقية معروفة لأحد مشاهد أفلامه رغم تحفظ المؤلف الموسيقي للفيلم عليها في البداية، ولكن بعد وضعها تبين له مدى عمق وحسن اختيار كوروساوا للمقطوعة، وطبعًا ما فعله ستانلي كوبريك في فيلم "أوديسا الفضاء 2001" مثل واضح، حيث أطاح بالموسيقى الموضوعة خصيصا للفيلم من قبل المؤلف الكبير ألكس نورث ولم يستخدم منها سوى أقل القليل، لصالح عدد من المقطوعات الكلاسيكية الشهيرة بدلًا منها. ولا أحد يلوم كوبريك على ذلك، بل يعتبرونه من أعظم المخرجين استخدامًا للموسيقى التصويرية وأكثرهم ابتكارًا.
نزاع أبدي
من أشهر الحالات على التغيير الذي يمكن أن يقوم به المخرج للموسيقى الموضوعة للعمل ما فعله شادي عبد السلام مع موسيقى ماريو ناشيمبيني في فيلم المومياء، التي ظلَّ يُجرّدها حتى أصبحت أشبه بأصوات الطبيعة.
ومن النزاعات الحديثة فيما يتعلق بشكوى المؤلفين الموسيقيين مما يفعله المخرجون بموسيقاهم، حادث يخص فيلم "Blackhat" (القبعة السوداء)، أحدث أفلام المخرج الكبير مايكل مان، الذي أعلن مؤلف موسيقاه هاري جريجسون ويليامز تبرؤه موسيقى الفيلم و"صدمته ومفاجأته" مما فعل المخرج بموسيقاه، وأن ما سمعه لا يحمل شيئًا تقريبًا مما قام بتأليفه. وبالمناسبة فقد محا ويليامز منشوره بعد ساعات، إذ أدرك على ما يبدو أن ما فعله مان حق أصيل له.
هناك بالطبع الكثير من الاعتراضات على ديكتاتورية المخرجين، ليس فيما يتعلق باستخدام الموسيقى فقط ولكن في استخدام معظم العناصر الفنية، وتبدو المشكلة أكثر وضوحًا فيما يتعلق بالسيناريو والتمثيل. ودائمًا ما يخرج علينا كاتب سيناريو ليعلن تبرؤه من فيلم أو مسلسل ما، أو يخرج علينا ممثل أو ممثلة ليكشف أن المخرج حذف نصف مشاهده أو ربما كلها، وحتى في تخصص صغير مثل تصميم الملابس فقد يطيح المخرج بالملابس التي اختارها المصمم ويستبدل بها أخرى.
ومع ذلك تبقى أسماء كل هؤلاء على عناوين الأفلام، وأحيانًا يحصلون على جوائز عن عمل ساهم فيه المخرج بدور كبير أو بالدور الأكبر، أو ربما صنعه بالكامل.
الفشل لقيط
المشكلة تبدأ في الحقيقة عندما يفشل العمل أو يتعرض للهجوم، فالنجاح له ألف أب، أما الفشل فلقيط يتبرأ منه الجميع. ويعترف راجح داوود في البوست أنه كان على تواصل مع خالد يوسف خلال الحلقات الأولى عندما اكتشف أن يوسف استخدم موسيقى له من فيلم الريس عمر حرب، وأنه تغاضى عن ذلك، ولكن عندما بدأ البعض يتهمه بأنه يكرر نفسه ووجد أن يوسف استخدم مقطوعات لمؤلف آخر قرر أن الإعلان لتوضيح الحقائق بالأساس، ولم يذكر شيئًا عن مدى أحقية خالد يوسف فيما فعله، لأنه مؤلف موسيقى محترف ويعرف أن المخرج هو صاحب الحق الأول والأخير في استخدام العناصر التي تناسبه.
العاطفة تحكم
للأسف وكعادتنا، فإن الموقف من العمل وشخصية مخرجه يدفع الكثيرين لتجاهل البديهيات (أو ربما نتيجة جهل بتلك البديهيات من الأصل). وأعتقد أنه لو كان هناك إعجاب عام بـ"سره الباتع" ومخرجه، لما ظهر ذلك الاحتجاج حتى من قبل راجح داود نفسه. ولكن العواطف تقود أحكامنا كالعادة.
أخيرًا لا بد من التأكيد على وجود فوضى ومشاكل هائلة في مجال الموسيقى التصويرية في مصر، لعل أبرزها دأب صغار وكبار المؤلفين على "الاقتباس" بلا رادع من أعمال الآخرين، أو إعادة "نحت" أعمالهم السابقة، بجانب العديد من المشاكل الأخرى، مما يحتاج إلى مقالات أكثر استفاضة.