أول ما نبدا القول نترحم على الشهيد عبد الله بن المقفع. إلى روحه أهدي هذا المقال، لنفاذ بصيرته، وقدرته على الإيجاز. بكتابين فقط ضَمِنَ الخلود. وبعد الخطابات الرئاسية أراجع "الأدب الكبير". أرجّح أن الأسد الكبير قرأه؛ فلم يُعهد عليه غضب علني ولا انفعال تليفزيوني. قد يقتل، ويبتسم للكاميرا.
تقول في "الأدب الكبير" إن الحاكم "لا علم له بالناس إلا ما قد علم قبل ولايته. أما إذا وليَ، فكل الناس يلقاه بالتزيُّن والتصنّع، وكلهم يحتال لأن يثني عليه عنده بما ليس فيه. غير أن الأنذال هم أشدّ لذلك تصنّعا وأشدّ عليه مثابرة وفيه تمحّلا"، بمعنى التملق والتكلف.
أنت، يا عبد الله، محكوم بحدود الوعي، والإحاطة بأدوات عصرك. الوسائل تتطور. ولم تدرك، يا عبد الله، انفجارًا معلوماتيًا كونيًا يغني الحاكم عن لؤم الأنذال، ويضعه، لو أراد، وسط دخان يتصاعد من اصطدام قطارين في سوهاج.
المتابعة الصفرية ظاهرة في مصر، تشمل الرئاسة، والنيابة العامة، الأزهر
في أوروبا والدول المتقدمة التي عُرفت قديما ببلاد الفرنجة، يا عبد الله، يتولى الحاكم فترة يحددها الدستور. وإذا أخلّ بشروط العقد الدستوري عُزل. وفي فترة "الولاية" تتواصل علاقته بالشعب. الرئيس الأمريكي جو بايدن يتابعه على تويتر 37 مليونًا، ويتابع 47 شخصًا. وسلفه دونالد ترامب يتابعه 87.4 مليون، ويتابع 51 شخصًا، منهم أسرته والفنانة الأيرلندية روما داوني. والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتابعه 9.2 مليون، ويتابع 725 شخصًا، منهم رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، الذي يتابع 266 شخصًا. لا أحد منهم يتابع الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي لا يتابع أحدًا، المتابعة صفر، ويتابعه 5.9 مليون.
أظن، يا عبد الله، أن في العالم شخصًا واحدًا على الأقل، أو مؤسسة مصرية أو أجنبية، تستحق أن يتابع أنشطتها. لكنه يستغني. الحساب على تويتر صفريٌّ. ربما لو تابع رئيسًا في أوروبا والدول المتقدمة، لبادله المجاملة، والرد على المتابعة بمثلها.
المتابعة الصفرية ظاهرة مؤسسية في مصر، تشمل مؤسسة الرئاسة، والنيابة العامة، والأزهر. حساب رئاسة جمهورية مصر العربية يتابعه 90.2 ألف، ويتابع الرئيس وحده لا شريك له. والدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر يتابعه 574 ألفًا، ولا يتابع أحدًا. والحساب الرسمي للأزهر يتابعه 572 ألفًا، ويتابع شخصين هما شيخ الأزهر ووكيله.
لوكيل الأزهر الشيخ محمد الضويني 3454 متابعًا، وهو يتابع اثنين فقط، هما الحساب الرسمي للأزهر الشريف وشيخ الأزهر. ومن الأزهر وشيخه ووكيله، أنتقل إلى دار الإفتاء. الدار يتابعها نحو 750 ألفًا، وتتابع شخصًا واحدًا هو المفتي الدكتور شوقي علام، الذي يعرّف نفسه بأنه رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، ويتابعه 11.2 ألف، لكنه لا يتابع إلا مؤسسة وحيدة هي دار الإفتاء المصرية.
الأزهر ودار الإفتاء مؤسستان دينيتان رسميتان. للأولى شيخ أكبر لا يتابعها، وهي تتابعه. وللثانية شيخ لا يتابع إلا مؤسسته، ولا تتابع إلا هو. كلتا المؤسستين لا تتابع الأخرى، ورأس كل مؤسسة لا يتابع الرأس الآخر.
أوان مستطرقة، يا ابن المقفع، تذكّرني بما كتبه صنع الله إبراهيم في روايته برلين 69. بطل الرواية صادق الحلواني انتقل من العمل في مكتب وكالة أنباء ألمانيا الشرقية بالقاهرة، إلى مقر الوكالة في برلين. صنع الله، الذي أتقن كل رواياته بالتوثيق وتدقيق المعلومات، ذكر جانبًا من طريقة العمل: يرسل مكتب الوكالة في القاهرة خبرًا نشرته صحيفة الأهرام عن قرار الاحتفال بمرور 99 سنة على ميلاد لينين. يتم بثّ الخبر من برلين، فتنشره صحيفة الجمهورية في القاهرة نقلًا عن الوكالة. ثم تعاود الوكالة نشر الخبر عن الجمهورية. هذه أحجية بسيطة، يا عبد الله، والراوي شهد ما هو أكثر التفافًا وإلغازًا.
مثلًا: تنشر صحيفة "تويس دويتشلاند" الألمانية تصريحًا رسميًا عن تواطؤ ألمانيا الغربية مع إسرائيل. الوكالة تبث التصريح. تسارع صحيفة الجمهورية في القاهرة إلى نشر الخبر نقلًا عن الوكالة. إلى هنا تنتهي طبائع الأصول المهنية.
لكن مسلسل الأداء الغرائبي، غير المهني، لا ينتهي: يتلقف مراسل الوكالة في القاهرة ما نشرته الجمهورية، ويرسله إلى مقر الوكالة في برلين. الوكالة تبث أن الصحيفة المصرية نشرت عن صحيفة "تويس دويتشلاند" الخبر المعين. الصحيفة الألمانية تنشر أن الصحيفة المصرية نشرت خبرًا نقلًا عن الصحيفة الألمانية. الوكالة تبث تقريرًا فتتلقفه صحيفة الجمهورية وتنشره. أظنك، يا عبد الله، ارتبكت. أعدت القراءة، ولا تعرف أيهما نقل عن الآخر.
عودٌ، يا عبد الله، إلى تويتر. لم يكن ترامب، وهو يحكم أعظم قوة في العالم، يكتفي بالتغريد. أعاد نشر تغريدات آخرين. تفاعل وانفعل في الرد على انتقادات ميريل ستريب. وصفها بأنها ممثلة مبالغ في تقديرها. هذا رئيس بشر، يأكل الطعام ويرتاد السوبر ماركت. إعادة انتخابه قرار يملكه الشعب وحده، ولا تنتهي ولايته بانتهاء عمره.
وهنا، في حسابات الثلاثة الواردة أسماؤهم: السيسي وشيخ الأزهر والمفتي، تتنزل التغريدات من سماء تويتر، مسار تتدفق فيه التعليمات والنصائح والتوجيهات من مضخّة لا تستقبل. ألم يجد هؤلاء الثلاثة، طوال سنوات، تعليقًا واحدًا لقارئ يستحق المناقشة أو الرد؟
الله وحده، يا عبد الله، هو الذي ينزل آياته محكمات. الله "قد سمع" قول التي جادلت الرسول في زوجها، وأنزل "حكم الظِّهار". قارئ القرآن يجد ثنائية "يسألونك... قل". أما الذي يغلق خطابه ويحكمه بيقين، فيظن نفسه يتلقى إلهامًا إلهيًا. كان الصحابة يسألون والرسول يجيب، ينتظر وحيًا "يشفي صدور قوم مؤمنين". في أيامنا قضايا جديدة، لم تخطر ببال الأئمة الأربعة والإمام الليث بن سعد. ولا تجدي إعادة بث تغريدات تُغترف من مأثورات الوصايا. يغرد المفتي "بسم الله الرحمن الرحيم" ثم لا شيء. هذا فقر، أو فراغ، يفسر قلة عدد متابعيه، مقارنة بملتاث يحرض على القتل، اسمه وجدي غنيم، يتابعه 235 ألفًا.
للمفتي أن يشيد بمشروع "حياة كريمة". من الإنصاف أيضًا نشر تغريدة عن حكم الدين في قتل أبرياء خارج القانون. سيرة القتل، يا عبد الله، مخيفة. أنا خائف. إنهاء المقال أسلم. غدًا يبدأ شهر رمضان. لم تعد عفاريت الإنس تُقيد، بالسلاسل أو بالخشية من الله، وهو خيرٌ حافظًا وهو أرحم الراحمين.