
مجمّع أبوظبي للذكاء الاصطناعي.. 5 جيجاوات من السيطرة
في السادس عشر من مايو/أيار الحالي، أعلنت الولايات المتحدة والإمارات عن مشروع ضخم لبناء مجمعٍ للذكاء الاصطناعي في أبوظبي، بقدرة تشغيلية هائلة، تبلغ 5 جيجاوات، ما يجعله الأكبر خارج الأراضي الأمريكية.
على الرغم من الخطاب الرسمي الذي يقدّم المشروع بوصفه نقلةً اقتصاديةً وإنجازًا تقنيًا، فإن المقاربة النقدية تقتضي تأطيره ضمن سياقه الاجتماعي والسياسي والحقوقي، فهذا المجمع ليس كيانًا معزولًا، بل هو امتداد مادي لعقود من التراكم الرأسمالي العالمي، وقد نعتبره نتيجةً مباشرةً لمسار التطبيع بين الإمارات وإسرائيل.
بيانات ضخمة وطاقة هائلة
عند الحديث عن قدرة تشغيلية تبلغ 5 جيجاوات، فإننا نتعامل مع مستوى ضخم من الاستهلاك الطاقي لا يُفهم إلا في سياق البنية الصناعية الكبرى. خمسة جيجاوات توازي إنتاج محطة نووية ضخمة، أو ما يكفي لتشغيل ملايين المنازل في لحظة واحدة.
في بيئة الذكاء الاصطناعي، يُستخدم هذا الحجم من الطاقة لتشغيل مئات الآلاف من وحدات المعالجة الرسومية/GPUs والخوادم العملاقة وأنظمة التبريد كثيفة الاستهلاك، إضافةً إلى شبكات الربط عالية السرعة.
بهذه المواصفات، لا يمكن اعتبار المجمع مجرد مركز بيانات تقني، بل هو بنية مادية ضخمة تستهلك موارد كهربائية وبيئية هائلة، وتشكل مركز ثقل استراتيجي في التحكم بتدفق البيانات والمعرفة، وهي بنية لا تنفصل عن منطق السيطرة والهيمنة، بل تُعيد إنتاجها من خلال تحويل البيانات إلى سلعة، والمعرفة إلى احتكار، والحوسبة الذكية إلى أداة للضبط الاجتماعي والسياسي.
ومن هذا المنظور، فإن الشراكة بين واشنطن وأبوظبي لا تُقرأ باعتبارها مجرد نقل للتكنولوجيا أو استثمار في البنية التحتية، خصوصًا مع انخراط شركة G42 الإماراتية، إحدى الجهات المنفذة للمشروع، في شراكات استراتيجية مع مؤسسات إسرائيلية، ما يكشف عن طبيعة التحالف الجديد بين التقنية الأمريكية والمال الخليجي وربما الخبرة الإسرائيلية.
G42 والتطبيع مع إسرائيل
تقف شركة G42 الإماراتية التي تأسست عام 2018 في قلب هذا المشروع، ويرأس مجلس إدارتها الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن الوطني لدولة الإمارات، ليس فقط باعتبارها إحدى جهات التنفيذ، بل فاعل سياسي واقتصادي محوري في إعادة تشكيل البنية الإقليمية للرقابة والتحكم. فارتباطاتها بإسرائيل ليست مجرد تعاون تقني، بل لها بُعد في منظومة التطبيع الأمني.
G42 الإماراتية تتعاون مع رافائيل الإسرائيلية المعروفة بتطوير أنظمة عسكرية تستخدم ضد الفلسطينيين
تشير أخبار الصفقة إلى تخصيص 20% من رقائق الذكاء الاصطناعي، ما يعادل 100 ألف رقاقة سنويًا، لصالح G42، بينما تُوزع البقية على شركات أمريكية كبرى مثل مايكروسوفت وأوراكل، في مؤشر واضح على مدى اندماج G42 في شبكة الإنتاج التكنولوجي العالمي.
في سبتمبر/أيلول 2020، أصبحت G42 أول شركة خليجية تفتتح مكتبًا مملوكًا بالكامل في إسرائيل، ما شكل إعلانًا صريحًا عن دخولها في منظومة التطبيع التقني الكامل، مع ما يحمله ذلك من تبادل معلوماتي يصب في مصلحة الطرف الأقوى؛ إسرائيل بوصفها قوةً استعماريةً تستثمر التكنولوجيا في تعميق مشروعها الاستيطاني.
لاحقًا، دخلت G42 الإماراتية في مسار تطبيع نشط ومكثف مع كيانات إسرائيلية على مستويات متعددة. ففي أبريل/نيسان 2021، أُعلن عن مشروع مشترك مع شركة رافائيل للأنظمة الدفاعية المتقدمة /Rafael Advanced Defense Systems الإسرائيلية.
وتُعد شركة رافائيل إحدى الشركات الإسرائيلية الرائدة في مجال الصناعات الدفاعية، وتُعرف بتطويرها لتقنيات متقدمة في الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، تُستخدم في تطبيقات عسكرية وأمنية. ومتورطة في تطوير أنظمة تجسس ومراقبة تُستخدم ضد الفلسطينيين، ما يجعل الشراكة معها امتدادًا ضمنيًا لمنظومة التطبيع الأمني.
لم تكتفِ G42 بذلك، بل تعاونت أيضًا مع مجموعة Viola الإسرائيلية في مبادرة Global Valley، التي تهدف إلى خلق مراكز بحث وتطوير واحتضان تقني مشترك بين الإمارات وإسرائيل.
كما عقدت شراكة استراتيجية في مجال الرعاية الصحية مع مركز شيبا الطبي/Sheba Medical Center، إحدى أبرز المؤسسات الإسرائيلية المرتبطة بالأبحاث العسكرية والتجارب السريرية ذات الأبعاد الأمنية، خصوصًا في مجال تقنيات التحليل الجيني والمراقبة البيومترية. وفي ذروة جائحة كوفيد-19، أعلنت G42 عن مشروع مشترك مع شركة Nanoscent الإسرائيلية لتطوير جهاز للكشف عن الفيروس عبر تحليل جزيئات الهواء.
التكنولوجيا أداةً للقمع
لا يمكن إغفال البعد الحقوقي في مشروع بهذا الحجم، خصوصًا في سياق تُعرف فيه الإمارات ساحةً مغلقةً تفتقر للضمانات الدستورية الأساسية المتعلقة بحرية التعبير والخصوصية والمراقبة. إن نقل البنية التحتية لأحد أعقد أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى أرض غير خاضعة للمحاسبة البرلمانية أو المجتمعية يفتح الباب واسعًا لاستخدام هذه الأدوات في تعميق أنظمة المراقبة والتحكم الاجتماعي.
التجربة الإماراتية في استخدام تقنيات المراقبة الرقمية، بما فيها نُظم التعرف على الوجه ومراقبة الإنترنت، تشير إلى استعداد الدولة لتسخير التكنولوجيا في خدمة سياسات الضبط والسيطرة، لا في تمكين الحقوق. إن دمج الذكاء الاصطناعي في هذا السياق لا يُعد تطورًا محايدًا، بل هو تهديد مباشر للحقوق الرقمية.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن القوى العاملة التي ستُشغّل هذا المجمع، سواء في مجالات الصيانة أو الدعم التقني أو الخدمات المساندة، ستكون في الغالب من العمالة الوافدة ذات الأجور المنخفضة. هذه العمالة تعمل غالبًا في ظروف تفتقر إلى الحد الأدنى من الحماية النقابية والأمان الوظيفي، ما يعني أن المشروع يعيد إنتاج علاقات عمل قائمة على ضعف الحقوق والتفاوتات الاجتماعية، ولكن في بيئة عالية التقنية.
بنية تحتية للهيمنة
من خلال المجمع المزمع بناؤه، تحاول الإمارات الانتقال تدريجيًا من دولة تعتمد على النفط والعقار والخدمات اللوجستية إلى مختبر إقليمي لتجريب أبشع نماذج الرأسمالية الرقمية؛ دولة مركزية القرار، غائبة المحاسبة، تستثمر في الذكاء الاصطناعي لا بهدف تمكين الإنسان أو تعزيز العدالة الاجتماعية، بل لتوسيع أدوات السيطرة، وإعادة توظيف الموارد العامة في خدمة شبكات النفوذ والتحالفات العابرة للحدود.
هكذا يظهر النموذج الإماراتي لا نموذجًا للتقدم، بل نسخة مطورة من دولة قوية خارجيًا بمواردها المالية، وبتحالفاتها الأمنية والتقنية، ضعيفة داخليًا في بنيتها التمثيلية، تستدعي التكنولوجيا لتدعيم سلطويتها بدلًا من استخدامها لبناء مجتمع ديمقراطي وشفاف.
الذكاء الاصطناعي، الذي يُفترض أن يكون حقلًا للتمكين المجتمعي، يتحول في هذا السياق إلى أداة لاستخلاص أقصى طاقة إنتاجية من البشر والموارد والطاقة، لصالح شبكات مالية وتقنية وسياسية تملك القرار وتوجه الموارد.