
هندسة الندرة وبيع الانتباه.. كيف تروّض الوفرة الجامحة؟
بشّرت بداياتُ الإنترنت بميلاد حقبة جديدة من الوفرة المعلوماتية، إذ باتت المعرفة في متناول الجميع، وانحسرت الحاجة إلى المِلكية التقليدية بفضل القدرة اللامحدودة على النسْخ الرقمي وإعادة التوزيع الفوري. غير أن هذه الآمال سرعان ما اصطدمت بجدار الواقع الرأسمالي، وسارعت الأسواق إلى ترويض هذه الوفرة الجامحة وتحويلها إلى أداة طيّعة لخدمة مصالح رأس المال.
في الاقتصاد الكلاسيكي، كانت الندرة تلعب دورًا في بعض الحالات، مثل الموارد الطبيعية المحدودة، ويمكن للندرة أن تضفي قيمةً إضافيةً وتتيح تحقيق الربح. أما في العالم الرقمي، فالوضع مختلف تمامًا، أي منتج رقمي؛ كتاب، أغنية، برنامج، يمكن نسخه وتوزيعه بلا حدود وبتكلفة زهيدة.
فلاتر آلية للسيطرة على النسخ
من الناحية النظرية، يُفترض أن الإتاحة تنفي الندرة، وتفتح الباب أمام عالمٍ من الوفرة اللامحدودة. لكن الرأسمالية لم تقف موقف المتفرج، بل سارعت إلى تطوير أدوات تقنية وقانونية لإيجاد ندرة مصطنعة، تُعيد من خلالها فرض منطق السوق والربح، وتحوّل الموارد الرقمية إلى ممتلكات خاصة يُعاد إنتاج قيمتها التجارية بلا انقطاع.
اعتمدت هندسة الندرة الرقمية على توظيف مقصود ومتقن للأدوات التقنية والإطار القانوني لفرض حدود مصطنعة على الوصول إلى السلع والخدمات الرقمية. في طليعة هذه الأدوات تأتي تقنيات إدارة الحقوق الرقمية/DRM، التي تعمل حواجز إلكترونية تمنع المستخدمين من نسخ أو مشاركة المحتوى الذي بحوزتهم.
على سبيل المثال، إذا اقتنيت كتابًا إلكترونيًا أو فيلمًا محميًا بتقنيات إدارة الحقوق الرقمية، ستجد نفسك مقيدًا باستخدامه على عدد محدود من الأجهزة، أو محرومًا من حق نسخه أو مشاركته بحرية مع الآخرين.
وللقوانين دورٌ لا يقل أهمية في تعزيز هذه الندرة، خصوصًا من خلال تمديد حقوق النشر وبراءات الاختراع في العصر الرقمي، لتغطي فترات زمنية أطول ونطاقات أوسع مما كانت عليه في السابق. وبدل أن تنتقل المنتجات الثقافية والمعرفية إلى الملكية العامة بانتهاء مدة الحماية، تُعاد خصخصتها ويُمنع المجتمع من الوصول الحُر إليها.
الاستحواذ في الرأسمالية الرقمية
تكرّر الرأسمالية الرقمية اليوم نمطًا مألوفًا من الاستحواذ، لكنْ هذه المرة على موارد ومعطيات من نوع جديد مثل الأبحاث العلمية والأعمال الثقافية والفنية والبرمجيات والبيانات التي ينتجها الجمهور طوعًا عبر الإنترنت. إذ ينتج ملايين المستخدمين يوميًا كميات ضخمة من المحتوى والبيانات، من منشورات وصور وفيديوهات إلى بيانات الاستخدام، بشكل جماعي ودون ملكية واضحة لحظة إنتاجها.
وجدت الشركات الرقمية الكبرى في هذه الوفرة فرصةً ذهبيةً لتحويل هذه الموارد إلى رأس مال خاص. خلال العقود الأخيرة، شهدنا ما يمكن تسميته الاستعمار الرقمي، حيث استحوذت شركات مثل جوجل وفيسبوك على كميات هائلة من البيانات الشخصية والجماعية، مجانًا أو مقابل أثمان زهيدة.
تعتمد الرأسمالية الرقمية أيضًا على استغلال العمل غير المدفوع للجماهير، فالمنصات مثل فيسبوك ويوتيوب تحول المحتوى المجاني الذي ينتجه المستخدمون إلى سلعة تباع للمعلنين في شكل انتباه وتفاعل.
هنا يصبح المستخدمون منتجين للقيمة دون أي مقابل فعلي، بينما تجني المنصات أرباحًا ضخمةً. ينطبق الأمر ذاته على تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي تُدرَّب على محتوى منشور مجانًا على الإنترنت، ثم تُباع تقنياتها كخدمات مدفوعة من دون تعويض للمساهمين الأصليين.
على صعيد البنية التحتية، طُورت العديد من التقنيات الرقمية الأساسية، كالإنترنت وأدوات الاتصال، بتمويل حكومي أو في الجامعات، لكنها انتقلت لاحقًا إلى أيدي القطاع الخاص. يشبه هذا التحول خصخصة البنية التحتية الرقمية التي موّلها المجتمع، مما يسمح للشركات بجني أرباح ضخمة من موارد عامة الأصل دون تقديم منافع متناسبة للمجتمع.
تخضع الإمكانات والثروة الرقمية لهيمنة نخبة قليلة بدلًا من أن تحرر البشر من قيود الندرة التقليدية
أما في المجال العلمي والثقافي، فرغم وفرة الإنتاج البحثي، تهيمن اليوم شركات نشر عملاقة مثل إلسفير وسبرنجر على معظم الدوريات الأكاديمية، وتفرض أسعارًا باهظةً للوصول إليها، مما يحرم غير المنتسبين إلى المؤسسات المشتركة من الاطلاع عليها. وتسعى شركات الإعلام العملاقة إلى تمديد فترات حقوق النشر لأقصى فترة ممكنة، لضمان احتكارها للأعمال الفنية والثقافية.
على مستوى البرمجيات والتقنيات، نجحت حركة البرمجيات الحرة والمفتوحة في تقديم بدائل تشاركية للبرمجيات المغلقة، مثل نظام التشغيل لينكس. ولكن مع ظهور الحوسبة السحابية، عادت الشركات إلى فرض نموذج الملكية الخاصة، عبر تقديم الخدمات التي تعتمد على برمجيات مفتوحة المصدر لكنها تقدم ضمن نطاق مغلق، كما تفعل منصات مثل أمازون AWS. وأصبحت أي تكنولوجيا مبتكرة هدفًا للملكية الخاصة إما عبر براءات الاختراع أو عبر احتكار السوق.
السيطرة على الوفرة
تُبرز الاقتصاديات الرقمية مفارقةً حادةً بين الوفرة التقنية والإمكانات الهائلة للإنتاج التشاركي من جهة، واستمرارية علاقات الندرة والاستغلال من جهة أخرى. تتجلى هذه المفارقة في ظاهرة ما يمكن تسميته "السيطرة على الوفرة"، حيث تُخضع الإمكانات والثروة الرقمية لهيمنة نخبة قليلة بدلًا من أن تحرر البشر من قيود الندرة التقليدية.
الخوارزميات المصممة لجذب انتباه المستخدمين تستهدف إبقاء الفرد منشغلًا ومستهلكًا مما يؤدي إلى شكل من أشكال الإدمان
يظهر هذا التحكم في ملامح عديدة من حياتنا اليومية. أحد أبرز هذه الملامح يتمثل في اقتصاد الانتباه، حيث تحوّل منصات التكنولوجيا انتباه المستخدمين إلى سلعةٍ نادرةٍ ثمينةٍ تتنافس على استغلالها. تتحكم هذه المنصات من خلال الخوارزميات والإشعارات الدائمة في انتباهنا، الذي أصبح سلعة تُباع للمعلنين، وتحوّلنا إلى أدوات لإنتاج الأرباح بدلًا من أن نكون مجرد مستفيدين من الوفرة الرقمية.
كما تُغرق المنصات الرقمية المستخدمين بفيض من المحتوى الاستهلاكي والترفيهي، ما يعوق قدرتهم على التركيز أو الاستفادة من الوفرة في إثراء معرفي حقيقي. الخوارزميات المصممة لجذب انتباه المستخدمين تستهدف إبقاء الفرد منشغلًا ومستهلكًا، مما يؤدي إلى شكل من أشكال الإدمان، حيث يصبح استهلاك المستخدم خاضعًا لقرارات المنصات وليس ناتجًا عن خياراته الحرة.
على صعيد العمل، أتاحت التكنولوجيا الرقمية وفرة ظاهرية من فرص العمل المرن، كالعمل من خلال التطبيقات الرقمية، لكن هذه المنصات هي التي تسيطر على شروط وظروف العمل بالكامل. العاملون في تطبيقات مثل أوبر أو خدمات التوصيل يعملون في ظروف هشة للغاية، وتتحكم المنصات في أجورهم وأوقات عملهم من خلال خوارزميات معقدة لا تضمن لهم أي حقوق أو استقرار وظيفي، ما يخلق واقعًا أقرب إلى العبودية الحديثة.
في مجال الذكاء الاصطناعي والابتكار التقني، نجد أن القدرات العالية التي يوفرها الذكاء الاصطناعي باتت محصورةً في يد شركات قليلة تمتلك موارد ضخمة. هذه الشركات مثل OpenAI تتيح قدرات محدودة من تقنياتها مجانًا ثم تفرض قيودًا واشتراكات للوصول إلى القدرات الأكثر تقدمًا. وبهذا الشكل، بدلًا من أن يُصبح الذكاء الاصطناعي وسيلة لتحرير المجتمع، تحول إلى مورد محتكر محدود الانتشار، يخدم بالدرجة الأولى مصالح الشركات المهيمنة.
نخبة وجُموع
في ظل الرأسمالية الرقمية المعاصرة، ظهرت بنية طبقية تعيد إنتاج الانقسامات التقليدية بين من يملك ومن لا يملك، ولكن في سياقات اقتصادية واجتماعية جديدة مرتبطة بالبيئة الرقمية. في هذا الإطار، تبلورت طبقتان رئيسيتان: نخبة التكنولوجيا وجماهير المستخدمين.
تضم نخبة التكنولوجيا، أو "التكنورأسماليون"، أصحاب ومديري الشركات التقنية الكبرى مثل تلك الموجودة في وادي السيليكون، إضافة إلى المستثمرين الكبار ومالكي حقوق الملكية الفكرية.
تتحكم هذه النخبة في وسائل الإنتاج الرقمية من الخوارزميات إلى مراكز البيانات والخوادم والمنصات الرقمية الضخمة مثل السوشيال ميديا والتجارة الإلكترونية. سيطرتهم هذه تمنحهم نفوذًا اقتصاديًا هائلًا ينعكس في قدرتهم على التحكم في توزيع المحتوى والوصول إلى الأسواق. ونتيجة لهذا النفوذ الاقتصادي، اكتسبوا أيضًا نفوذًا سياسيًا قويًا، قد يتجاوز في بعض الأحيان سلطة الدول.
في المقابل، تقف "جماهير المستخدمين" أو "الطبقة الرقمية العاملة"، وهم الغالبية العظمى من الناس الذين يعتمدون على التقنيات الرقمية في حياتهم اليومية، سواءً كعمال أو كمستهلكين أو كمشاركين اجتماعيين. رغم تنوع أدوارهم، فإنهم يشتركون في افتقارهم للسيطرة على البنية التحتية الرقمية التي يعتمدون عليها.
يخضع هؤلاء لشروط تفرضها المنصات والشركات التقنية الكبرى. ينتج المستخدمون المحتوى والبيانات التي تستغلها الشركات في تحقيق أرباح ضخمة، دون أن يحصلوا في المقابل إلا على القليل، غالبًا بصورة خدمات مجانية أو مقابل مادي زهيد.
على الرغم من وجود طيف واسع من الفروقات داخل هاتين الطبقتين، يبقى التفاوت صارخًا في توزيع الثروة والفرص. فالدخل يتركز بشدة في يد نخبة تستفيد من هيمنتها على الاقتصاد الرقمي، في حين تعاني الجماهير الرقمية من ظروف عمل غير مستقرة وضعف في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
تحرير الوفرة الرقمية
يعكس هذا الواقع التناقض العميق بين القوى الإنتاجية الرقمية (التي تتيح إمكانات التعاون والإنتاج الوفيرة) وعلاقات الإنتاج الرأسمالية (القائمة على الملكية الخاصة والتبادل السلعي). يؤدي هذا التناقض إلى ظهور أشكال جديدة من الاستغلال والصراعات الاجتماعية، مثل الصراع على حقوق البيانات والمطالبة بأجور عادلة في الاقتصاد الرقمي والنضال من أجل تحرير المعرفة والثقافة من قيود الملكية الفكرية.
يحمل العصر الرقمي في جوهره إمكانات هائلة لتحرير المجتمعات من القيود التقليدية التي فرضتها الندرة الاقتصادية، شرط أن ينجح المجتمع في فرض سيطرته الديمقراطية على التكنولوجيا والبيانات. بدلًا من أن تظل الموارد الرقمية أسيرة لنخبة رأسمالية صغيرة، يمكن للمجتمع أن يعيد توجيه هذه الإمكانات الوفيرة بحيث تخدم البشرية جمعاء وتحقق الصالح العام.
إن المرحلة الحالية من الرأسمالية الرقمية ليست سوى طور جديد ضمن سلسلة من التناقضات والصراعات التاريخية التي ميزت النظام الرأسمالي في مختلف مراحله. هذه التناقضات، إذا أُدركت بعمق، يمكن أن تكون مفتاحًا لفتح الأبواب نحو مستقبل رقمي أكثر عدالة وإنصافًا، يُلغى فيه منطق الندرة المصطنعة، وتتحول فيه الوفرة الرقمية من وسيلة للهيمنة إلى مورد مشترك موزع بشكل عادل يخدم مصالح الجميع.