
من NVIDIA إلى الرياض.. شرطي AI في خدمة الاستبداد
لم يغادر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السعودية في إطار جولته في منطقة الخليج، إلا وشركة NVIDIA تعلن عن صفقة لتصدير ثمانية عشر ألف من أحدث رقائق الذكاء الاصطناعي لشركة Humain السعودية، تتجاوز قيمتها عدة مليارات من الدولارات.
أقامت السعودية، منذ سبعينيات القرن العشرين، نموذجها السلطوي على عقد ريعي لدولة ترعى ومجتمع يطيع. يقوم هذا العقد أساسًا على تدفق الريع النفطي وشراء الولاءات عبر الإنفاق الاجتماعي السخي. لكن تقلبات أسعار النفط، وظهور أزمات اقتصادية دورية، دفعا المملكة إلى البحث عن مصادر جديدة لشرعنة سلطتها وتأبيدها.
بدا أن التكنولوجيا عمومًا، والذكاء الاصطناعي على وجه الخصوص، يمنحان النظام أفقًا مريحًا، يستطيع توظيفه في بناء صورة حداثية متطورة أمام الخارج، وفي الوقت ذاته تكثيف قبضته على الداخل، دون الحاجة إلى إصلاح سياسي حقيقي.
هكذا ظهرت مشاريع المدن الذكية، وتضاعفت أموال صندوق الاستثمارات العامة في شركات تقنية عالمية، ونشأت شراكات واسعة مع وادي السيليكون، تُوّجت كلها بصفقة NVIDIA الأخيرة. إذ يبدو أن هناك رأس مال بحاجة إلى فتح أسواق جديدة لتدوير الفائض، يلتقي مع دولة سلطوية تبحث عن وسائل أكثر كفاءة في الضبط الاجتماعي.
شرائح NVIDIAمكوّن أساسي في أنظمة الرؤية الحاسوبية للطائرات المسيَّرة والصواريخ
الشرائح المتقدمة، التي تُعد أساسًا لتدريب نماذج لغوية وصورية كثيفة المعالجة، ستُنقل إلى مراكز بيانات يُخطَّط لإنشائها بطاقة تتجاوز 500 ميجاوات من القدرة الحوسبية.
لن تُستخدم هذه القدرة في دفع عجلة البحث العلمي الحر أو في تطوير برمجيات مفتوحة المصدر لصالح المجتمع، بل على الأرجح ستُستخدم على نطاق تطبيقات المراقبة، وتحليل البيانات الضخمة، وتوقع السلوك العام، ما يفتح الباب أمام قمع وقائي يسبق الفعل السياسي نفسه.
من Pegasus إلى NVIDIA
منذ مقتل الصحفي جمال خاشقجي عام 2018 وما تلاه من حملات اعتقال لناشطات ونشطاء حقوقيين، بات واضحًا أن أي أداة تكنولوجية تقع في يد النظام تُستخدم لتعزيز الرقابة والقمع. والشرائح الجديدة ستعطي سلطات الرياض قدرة تطوير أنظمة تعرف على الوجوه تتفوق دقةً وسرعةً على الأنظمة القائمة، وعلى رصد وتحليل المحتوى النصي والمرئي على السوشيال ميديا في الزمن شبه الحقيقي.
وإذا كان الباحثون قد وثقوا سابقًا استخدام السلطات السعودية لبرمجيات تجسس مثل Pegasus من شركة NSO الإسرائيلية، فإن الصفقة الراهنة قد تعني الانتقال من شراء الحلول البرمجية الجاهزة إلى امتلاك البنية التحتية اللازمة لتطوير حلول محلية، مما يعني تعرضًا أقل للمحاسبة الدولية.
تكتسب صفقة NVIDIA بُعدًا جيوسياسيًا إضافيًا، إذ تشير بعض المؤشرات إلى انخراط المملكة في مشروعات رقمية واسعة النطاق تُتيح لشركات التكنولوجيا العمل ضمن بيئة سياسية مغلقة، وهو ما يمكن اعتباره مجالًا محتملًا لاختبار تقنيات المراقبة والسيطرة، خاصة في ظل غياب رقابة قضائية فعالة وإعلام مستقل وقوانين تحمي الخصوصية.
أيضًا يُضاف بُعد عسكري قلّما يُعلَن في البيانات الصحفية، فشرائح إنفيديا المتقدّمة ليست مجرد معالجات رسومية لتدريب نماذج دردشة، بل تُعدّ مكوّنًا محوريًا في أنظمة الرؤية الحاسوبية للطائرات المسيَّرة والصواريخ الموجَّهة. وعند دمجها مع حزم تطوير مثل CUDA، وهي منصة برمجية طوّرتها شركة NVIDIA تتيح استخدام وحدات المعالجة الرسومية/GPU لتنفيذ عمليات حسابية معقّدة بسرعة عالية، تصبح هذه الشرائح قادرةً على معالجة صور الفيديو آنيًا وتوجيه المقذوفات بدقّة متناهية، ما يجعلها أداة حاسمة في تطوير الأسلحة الذكية والأنظمة القتالية المستقلة.
وعندما نضع ذلك بجوار مشتريات الرياض الأخيرة من المسيَّرات، يتضح أن الذكاء الاصطناعي يتحول إلى امتداد عضوي للمجمّع الصناعي‑العسكري الخليجي‑الأمريكي.
الذكاء الاصطناعي والقمع المنهجي
تثير صفقة الشرائح أيضًا مخاوف حقوقية متزايدة، تتجاوز نطاق الاستخدامات التقنية المعتادة. في هذا السياق، يمكن رصد ثلاثة مستويات رئيسية للتداعيات الحقوقية: أولها، التصعيد المتوقع في أدوات المراقبة والرصد داخل السعودية، إذ ستمكّن الشرائح المتقدمة السلطات من أرشفة واسعة النطاق لاتصالات الأفراد، وتوسيع قواعد البيانات البيومترية، وتحليل أنماط الشراء والتنقل، بما يُتيح توقع سلوك الأفراد السياسي والاجتماعي قبل وقوعه، في نمط يُقارب ما يُعرف بممارسات الشرطة التنبؤية.
ثانيها، التأثير على الجاليات السعودية في الخارج وعلى المعارضين في المنفى، فمن خلال القمع العابر للحدود، ستساعد تقنيات التحليل اللغوي والحوسبة الفائقة على تعقب الأصوات المعارضة في الشبكات الاجتماعية أينما وجدت.
وثالثها، التأثير الإقليمي الأوسع، لأن القدرات التي سيطورها المهندسون في الرياض لن تبقى حبيسة الحدود؛ ستعرض لاحقًا كمُنتج تصديري لإخوتها في الخليج، وربما لحكومات عربية أخرى، فيكون إقليمنا أمام مجمع صناعي-رقمي جديد يتاجر بالخوارزميات كما يتاجر بالسلاح التقليدي.
لا يقتصر التحدي على انتهاك الخصوصية الرقمية. فالسلطات تسعى كذلك إلى إعادة تشكيل المجال العام الرقمي من خلال ما يُعرف بتقنيات تلويث المعلومات. بدلًا من حذف المحتوى المعارض، تُغرق المنصات بحسابات آلية مدعومة بنماذج لغوية تنتج آلاف الرسائل المتكررة والمضللة. هذا الأسلوب، المعروف بتضخيم الضوضاء، يؤدي إلى تشويش الخطاب العام وتقويض قدرة المستخدمين على التمييز بين المعلومة الدقيقة والمحتوى المضلل، مما يجعل القمع أكثر كفاءة وأقل وضوحًا.
ومن الزوايا التي تثير قلقًا متزايدًا، يبرز خطر استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لاستهداف الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية، فأنظمة التصنيف البيومتري، التي تستند إلى تحليل ملامح الوجه والبيانات البيولوجية، قد تُبرمج لاكتشاف أنماط تشير إلى الانتماء الطائفي أو القبلي.
وعندما تُربط هذه الأنظمة بقواعد بيانات رسمية تشمل معلومات الهوية والسجلات الجنائية والطبية، يصبح من الممكن تطبيق سياسات تمييزية في التوظيف والخدمات، ما يشكل تهديدًا مباشرًا لمفهوم المواطنة المتساوية.
تفكيك السيطرة الرقمية
صفقة الشرائح ليست حالةً معزولةً، بل تمثل جزءًا من مسار أوسع يعكس تحولات في بنية النظام الرأسمالي العالمي. يبقى الأمل في المبادرات التي تكشف ممارسات القمع الرقمي، وفي شبكات التضامن العابرة للحدود، وفي الحركات الاجتماعية التي تُعيد توظيف التكنولوجيا لصالح مقاومة الاستبداد. هذه القوى، إن امتلكت المعرفة والموارد، ستكون قادرة على كسر احتكار السلطة للخوارزميات.
فمن وادي السيليكون إلى الرياض، ومن الخادم الرقمي إلى الزنزانة الإسمنتية، تمتد شبكات غير مرئية من السيطرة تعيد تشكيل العالم بحيث تُدار العقول قبل أن تُدار الأجساد. وبهذا المعنى، لا تُمثّل الصفقة مجرّد علاقة بين شركة وسلطة، بل هي حلقة في سلسلة أوسع من إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة. ومواجهة هذا الواقع تقتضي بناء تضامن يتجاوز الاحتجاج الرمزي، ويسعى عمليًا إلى تفكيك بنية السيطرة الرقمية.