برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا
البابا ليو الرابع عشر يحيي جموع الكاثوليك المحتفلين بانتخابه بابا جديدًا للفاتيكان، 8 مايو 2025

ماذا ينتظر العالم من بابا الفاتيكان الجديد؟

منشور السبت 17 مايو 2025

لم تعد للفاتيكان سلطةٌ مباشرةٌ على أي من النخب السياسية في العالم المسيحي، مثلما كان في القرون الوسطى عبر التحالف المتين بين السلطتين الدينية والزمنية. لكنه رغم ذلك، لا يزال قادرًا على ممارسة دور رمزي وأخلاقي واجتماعي لا يمكن إنكاره، بل لا غنى عنه، لدى القاعدة الشعبية العريضة، وبعض الشخصيات التي تصل إلى سدة الحكم حتى لو كانت آتيةً من أحزاب علمانية، أو لا يشكل الدين، بتعاليمه وطقوسه، محورًا لحياتها الخاصة.

لهذا، التفتت الأنظار إلى البابا الجديد الكاردينال روبرت بريفوست، الذي أصبح اسمه ليو الرابع عشر خلفًا للبابا الراحل فرنسيس الثاني. ولم يخلُ الأخذ والرد حول هذا الحدث، بمختلف اللغات وفي كل الثقافات وعند أتباع معتقدات عدة، من جر الفاتيكان إلى "المجال العالمي العام"، إن صح التعبير، لا سيما أن كثيرًا من أصحاب الحكمة والمصلحة معًا في كل مكان، يبدون تخوفًا حقيقيًا من انزلاق العالم إلى حرب عالمية ثالثة.

وما يزيد من هذا أن الإصلاحات التي أدخلها البابا الراحل، طالت بعض أوجه الحياة الاجتماعية على الأرض كلها، ولم تقتصر على المسيحيين، الكاثوليك تحديدًا، من خلال مناقشة قضايا حول حال الأسرة ومستقبلها، والعلاقة بين الرجل والمرأة، والمثلية الجنسية، وسياسات الهجرة، والإجهاض والموت الرحيم.. إلخ.

ربما تكون مصادفة هي التي وحدت بين تنصيب البابا الجديد والاحتفال بذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن هذا لم يكن خافيًا على من انتظموا في التعليق علي أي من الحدثين، إذ جاء الربط بينهما شبه طبيعي، وليس من قبيل أوهام تجمع أشياء متفرقة لا تربطها علاقات منطقية. ولم يكن، في كل الأحوال مجرد نوع من الينبغيات أو التفكير بالتمني، إنما لأن الفاتيكان لا يعدم وسيلة للتأثير في قضايا محددة الآن.

ومن القضايا التي لن يعدم فيها بابا الفاتيكان تأثيره، انتشار الأيديولوجيات النازعة إلى التعصب لعرق أو فكرة، أو مسكونة بالثأر، أو مؤمنة بنظريات توسعية من قبيل "المجال الحيوي"، وهي مسألة يريد بعض أفراد النخب الحاكمة في الغرب من الفاتيكان أن يلعب دورًا ملموسًا فيها، وهناك اتفاق كبير عليها، جعلنا نرى الروس والألمان يحتفلون في وقت واحد بذكرى الانتصار على النازية.

سيكون على بابا الفاتيكان أيضًا الاشتباك مع أزمات الهجرة من الجنوب إلى الشمال

أما القضية الثانية، وهي ترتبط نوعًا ما بالأولى، فتكمن في مواجهة التوحش الرأسمالي، وهي مسألة بات العالم في حاجة ماسة إليها، في ظل نزوع "الترامبية" إلى تعظيم المنفعة المادية واعتبارها معيار القيمة الوحيد أو الأهم. ولعل البابا الجديد يلتفت إلى صاحب الاسم نفسه الذي ارتضاه، وهو البابا ليو الثالث عشر  (1878 - 1903) الذي أبدى مقتًا شديدًا ورفضًا ظاهرًا للرأسمالية المتوحشة، ومعها الشيوعية غير العادلة، ولم يكتف بالتصريحات في هذا الشأن، إنما طرح، مع انحراف الثورة الصناعية وتجبر البرجوازية، بديلًا لهما يقوم على "العدل الاجتماعي" أو هو شيء أشبه بـ"الطريق الثالث" وهو ما كان يمثل لديه الحياة التي يجب أن تنادي بها الكنيسة، لاتساقها مع تعاليم المسيح.

فقد أصدر ليو الثالث عشر عام 1891 تصورًا يحمل وجهة نظر الفاتيكان هذه سمي الإرشاد الرسولي/rerum novarum، ناقش فيه قضايا العدالة الاجتماعية وترتيب علاقات العمل على الكد والعدل، وقدم رؤية الكنيسة بشأن الأفكار الاقتصادية السائدة وقتها وتطبيقها في الواقع، وأثرها على الناس، وما أفرزه من تحولات اجتماعية سادت بشقيها المادي والروحي.

اليوم يواجه البابا الجديد تحديًا مشابهًا تتوحش فيه الرأسمالية بشكل أكثر نعومة لكنه أفدح تأثيرًا، حيث الإفرازات الواسعة للثورة الرقمية، وما يترتب عليها من تغير في منظومة القيم، وأنماط العمل وعلاقاته، حين يزيح الذكاء الاصطناعي البشر تدريجيًا عن العملية الإنتاجية، لتحل محلهم روبوتات في بعض المهن. سيترتب على ذلك أزمات اقتصادية وأخلاقية وروحية، قد يلجأ فيها الناس إلى الدين كنوع من الطبابة، أو يطلبون من القائمين عليه أن يتدخلوا أكثر في سبيل إنقاذ الإنسان من سطوة الآلة.

ويمكن أن يكون البابا الجديد أكثر تفهمًا بالفعل للطبقات العريضة، وهو الذي قضى شطرًا كبيرًا من حياته الكهنوتية بين فقراء بيرو في أمريكا اللاتينية، وخدم الكنيسة مع هؤلاء بعد ترفيعه إلى أسقف، وهي الحالة نفسها التي كان عليها سلفه، الذي جاء من الشوارع الخلفية في الأرجنتين.

ومن الوهلة الأولى، بدا البابا الجديد منحازًا إلى هذا التصور، حين أشاد في كلمته بجهود سلفه في الأخذ بيد الفقراء والمهمشين والمحرومين، وتحدث عن الفروق الطبقية الرهيبة، التي صارت من معضلات عصرنا، وكيف أصبحت أصوات الضعفاء والمضطهدين عاجزة عن الوصول إلى أسماع المتجبرين في الأرض، حيث تحتكر قلة ثروات هائلة، بينما يعاني أغلب البشر من الفقر.

سيكون على بابا الفاتيكان أيضًا الاشتباك مع أزمات الهجرة من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، التي يصحبها نوع من الكراهية، لا يقف طويلًا عند جوهر المسيحية الذي يدعو إلى "المحبة" وحتى "مباركة اللاعنين"، فالبابا الجديد لا تروق لها الترتيبات والإجراءات والقرارات التي اتخذها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومعه بعض زعماء الغرب، حيال المهاجرين.

يعلِّق كثيرون أملًا على أن ينخرط البابا الجديد في جهود استعادة السكينة في ظل تفجر الصراعات في غير مكان من العالم، ومخاوف من تصعيد قد يفجر حربًا عالمية. هنا، يمكن أن يلعب الفاتيكان دورًا في نزع أي شرعية أخلاقية على نوايا النازعين إلى الحروب وتصرفاتهم، ما يؤثر بالطبع على موقف الرأي العام العالمي من هذا.

ورغم التحديات والعقبات الكثيرة أمام الفاتيكان، التي تسعى إلى تهميش دوره، فإنه يستطيع التأثير في هذه القضايا، عبر باب غير مباشر، من خلال التواصل مع الرأي العام الغربي، في ظل سطوة السوشيال ميديا، وعودة سؤال الدين إلى المجال العام، في تعزيز للديمقراطية التشاركية التي تعني الحضور الدائم للجمهور في صناعة القرار، بعد أن دفعت "الديمقراطية التمثيلية" إلى الواجهة من ليسوا الأفضل في المجتمعات الغربية.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.