بينما تقرأ هذه السطور، تنظر نيابة أمن الدولة أمر تجديد حبس سبعة من عمال النقل العام، على خلفية اتهامهم بالدعوة لإضراب العاملين بالهيئة عن العمل يوم السبت 24 سبتمبر/ أيلول الماضي، مع بداية العام الدراسي الجديد، للمطالبة بعدة مطالب منها عودة تبعية هيئة النقل العام إلى وزارة النقل بدلا من محافظة القاهرة، وزيادة مكافأة عائد الإنتاج وبدل العدوى والمخاطر والحافز الإداري، والحصول على أجل كامل عن أيام الإجازات الرسمية.
أُلقي القبض على العمال السبعة في أيام مختلفة بدءًا من الجمعة 23 سبتمبر، ولم يُعلن عن مكان احتجازهم ولم يسمح لهم بالاتصال بذويهم، وتم عرضهم على نيابة أمن الدولة بشكل سري. واعتُبِر بعضهم مختفين قسريا أو محتجزين بدون وجه حق -على أفضل تقدير- لعدة أيام، حتى علم ذويهم بالصدفة أنهم عُرضِوا على النيابة وتحدد موعد جلستهم القادمة.
ليست هذه المرة الأولى التي يُعلن فيها عمال النقل العام الإضراب، وليست المرة الأولى كذلك التي تعاملهم فيها الدولة بعنف، وإن كان العنف قد ازداد، وصار أسرع وأكثر ضراوة. فالتهم الموجهة إليهم وفقا لتسريبات الصحف تتجاوز تعطيل العمل والتحريض على الإضراب، لتصل للانضمام لـ"خلية إرهابية".
الإضراب حق للعاملين وفقا للمواثيق الدولية التي انضمت إليها مصر، وبالتالي صارت لها قوة القانون. فالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، والميثاق العربي لحقوق الإنسان، ومعايير الحريات النقابية الصادرة وفقا لاتفاقيات منظمات العمل الدولية 87 و98، كلها وقعت عليها مصر. والآن تعترف مصر رسميا بالإضراب كحق للعاملين في التشريع والدستور، بعد سنوات طوال من التجريم ومحطات كفاح عمالية وقانونية عديدة.
لكن قانون العمل المصري (12 لسنة 2003) ينظم الإضراب بطريقة تعجيزية في المادة 192، حتى أنه يندر أن يتم في مصر إضراب قانوني وفقا لهذه الإجراءات. فعلى سبيل المثال، يشترط القانون لإتمام الإضراب أن تتم الموافقة عليه بأغلبية ثلثي النقابة العامة (نقابة القطاع)، وليس نقابة المنشأة التي ينتمي لها العمال العازمون على الإضراب.
وبالطبع؛ العمال الذين يُضربون دون الالتزام بهذه الشروط التعجيزية يتعرضون لمخاطرة الفصل من العمل، باعتبارهم قد انتهكوا عقد العمل. الأخطر من هذا؛ أن القانون يحظر الإضراب في المنشآت الاستراتيجية والحيوية، وقرار رئيس الوزراء المحدد لهذه المنشآت (1185 لعام 2003)، يعتبر وسائل نقل الركاب الجماعية ونقل البضائع والمؤسسات التعليمية، من ضمن المنشآت الاستراتيجية المحظور فيها الإضراب، باعتبار أنها "تُسبِّب اضطراب في الحياة اليومية لجمهور المواطنين، أو الإخلال بالأمن القومي والخدمات الأساسية التي تُقدم للمواطنين".
بالمنظور القانوني العادي، فإن الامتناع عن العمل هو انتهاك لعقد العمل، وبالتالي هو مخالفة. والإضراب العمالي هو فعل يُحْدِث بالضرورة قدر من الاضطراب في الحياة اليومية للمواطنين أو المستهلكين، أو خسارة لأصحاب العمل. لكن الإضراب كحق عمالي اكتسب الاعتراف في التشريعات حول العالم وفي مصر، باعتباره السلاح الأخير بيد العمال لتحقيق مطالبهم، فقد صار هو الإجراء الوحيد القادر على دفع صاحب العمل للجلوس معهم على طاولة المفاوضات للنقاش حول هذه المطالب، باعتبار العمال هم الطرف الأضعف في علاقة العمل، ولا يلجأون للإضراب إلا للضرورة.
منظمة العمل الدولية ترى أن التشريعات مثل قانون العمل المصري تضع تعريفًا متعسفًا جدًا للخدمات الأساسية أو الحيوية التي يجوز فيها حظر الإضراب، فلا تقصرها على الخدمات التي يؤدي "توقفها إلى تهديد حياة كل السكان أو جزء منهم أو سلامتهم الشخصية أو صحتهم". بل تضع التشريعات المصرية تعريفًا يَعُد مجرد إحداث "اضطراب في الحياة اليومية للمواطنين"، أو إخلال بمفهوم غامض اسمه الأمن القومي سببا لحظر الإضراب في قائمة طويلة من الخدمات والصناعات.
بالتالي، لا تعتبر معايير منظمة العمل الدولية أن قطاعات مثل النقل الجماعي للركاب ونقل البضائع والمنشآت التعليمية وسك العملة "خدمات أساسية بالمعنى الدقيق للكلمة" يمكن حرمان العمال فيها من سلاحهم الأخير.
ووفقا لنفس المعايير، حتى الخدمات الأساسية التي يشكل توقفها خطر مباشر وداهم على حياة الناس، مثل عمل الأطباء والمسعفين والمراقبين الجويين؛ يجب أن يتم إعطاء العمال فيها ضمانات تعويضية مثل: آليات الوساطة والتسوية وصولاً لآليات التحكيم، التي تعتبرها أطراف علاقة العمل (العمال وصاحب العمل) جديرة بالثقة، ويمكن لهم المشاركة في تشكيلها وتنفيذها.
أما في مصر فالإضراب العمالي ليس فقط مُقيَّد ومشروط بإجراءات متعسفة، وتُحرم منه فئات كبيرة مثل عمال النقل العام بدون وجه حق، كما تُحرَم الفئات المحظور عليها الإضراب نفسها من الضمانات التعويضية؛ وإنما أيضا تتم مواجهة الإضرابات العمالية بطرق إجرامية وصلت تاريخيا للإعدام شنقا (خميس والبقري 1952) وتضمنت كثيرًا الخطف والترهيب والتهديد بطرق غير قانونية لإجهاض أي محاولة للإضراب، أو حتى التلويح بها كما حدث مع عمال النقل العام مؤخرا.
إن أتوبيسات النقل العام في مصر لم تعد وسيلة المواصلات العامة الوحيدة المتاحة للناس، والدولة - إن كانت مصرة على عدم الجلوس على طاولة المفاوضة الجماعية مع العمال - كان بإمكانها أن تقلل من أثر إضراب النقل العام بالقاهرة بوسائل التفافية كثيرة، لجأت إليها سابقًا كاستخدام أتوبيسات القوات المسلحة، أو تحريض المواطنين على السائقين. لكنها فضلت إجهاضه بوسائل أكثر وحشية: الخطف وتلفيق التهم بالإرهاب، كي تُرسل رسالة بأن الإضراب خط أحمر، حتى لو كانت مطالبه مجرد تحسينات بسيطة في ظروف المعيشة والعمل.