يرجع دخولي المجتمع الثقافي في القاهرة لعام 1986، بعد أدائي للخدمة العسكرية، ورغبتي في أن أكون صحفيًا. وبالفعل بدأت الرحلة من أسفل باحثًا عن الأخبار وإجراء الحوارات وتتبع أماكن تجمع الأدباء والفنانين. بدأت تتكشف أخلاق مختلفة ومتوارثة في ذلك المجتمع النخبوي، منها تلك الحدة الجارحة في السلوك، التي عايشتها بنفسي، أو سمعت وقرأت عنها أساطير وحكايات؛ مارسها فنانون وكتاب وشعراء، وأيضًا هامشيون دون موهبة، كانوا يعيشون على هامش بريق تلك النخبة.
كنت وقتها شديد الخجل، يمكن أن تجرحني أقل بادرة من التجاهل، ولكن بعد تجربتي في الجيش امتلكت درجة حيية من الجرأة، خصصت جزءًا منها لتمرير تلك المواقف المحرجة دون أن تسيل الدماء النفسية.
نظام طبقي ثقافي
رغم أن غالبيتهم كانوا ينتمون لتيارات يسارية، فإنهم شيدوا نظامًا طبقيًا شبيهًا بطبقية السادة والعبيد، فمنحوا أنفسهم الحق في أن يفرضوا قانونهم الشخصي من جانب واحد في التعامل مع الآخرين، كأن ليس هناك مجتمع يقع خارج دائرتهم. ربما كانت تلك الحدة الجارحة جزءًا من أدوات حمايتهم لموهبتهم، أو تشكل القشرة الخارجية لها، التي ترسّم الحدود بين الخاص والعام، اللذين كانا يحتاجان لتعريف في ذلك الوقت.
كانت الممارسة الطبقية التي أنتجها المجتمع الخارجي، لا تزال تتحكم بشكل ما في ذلك المجتمع النخبوي، وتأخذ أشكالًا غير الرفاهية لكي تعبر عن نفسها، ربما أخذت شكل الرفاهية في الحدة، ومن خلفها تقف الموهبة لتسند ذلك الفراغ الذي يقف عليه صاحبها.
كان المجتمع الثقافي يرشح نوعًا من الطبقية الثقافية، عبر تلك التصنيفات والنماذج الشخصية. فالجميع يريد الحفاظ على الإرث الأدبي والمادي نقيًا وطاهرًا من الدخلاء، فكانت ثرواتهم تتلخص في ألسنتهم الحادة المدربة كالسهم لفضح الدخلاء، وفي ثروة معلومات جُمعت من فوق الموائد المفروشة ليل نهار في المقاهي والبارات وبيوت الأصدقاء.
ربما كان هناك أفراد نوعيون من هؤلاء، عابرون للطبقات، وفرت لهم موهبتهم وانتشارهم الواسع مكانًا بارزًا في كل التجمعات النخبوية وما عداها، فتجاوزوا أعراض ذلك النموذج الثقافي.
لابد للشاعر من أن يعيش
كان شعارهم غير المكتوب "لابد من الشاعر أن يعيش ويحب ويرفه عن نفسه". كانت هناك طبقتان من هؤلاء: عليا تطلب المستحيل، ودنيا من الزهاد تمارس لعبة "الفن للفن"، ولا ترغب من دورها ونباحها الأخلاقي، سوى الإحساس بالرضا عن النفس كمثل أعلى، دون مكاسب. أما المترفون منهم فكانوا أكثر ذكاء لأن موهبتهم كانت طموحة ولها مشروع حتى ولو كان نباحهم ضد الجميع.
كانت الطبقة الدنيا منهم يهيمون في الشوارع والمقاهي، يحظى بالشرف من يدفع لهم ثمن فنجانين القهوة أو زجاجات البيرة. يقترب منك أحدهم بنبرة محايدة تمامًا، نُزعت منها العاطفة، ويأمرك بأن تدفع له الحساب، أو تقرضه مبلغًا لن يُرد، فتفرح بأنك بأموالك البسيطة أصبحت شريكًا في مؤسسة الموهبة، ولو بأسهم قليلة، ولكنها كانت تمنحك صدى من زهوهم بأنفسهم، فهذه التركة الربانية من الموهبة كانت تنشر تقاليدها عبر دوائر واسعة.
عادة كانت هناك في تلك النخب "حيطة مائلة"، تتجسد في أحدهم، يوجد تحتها كنز ما، عبارة عن ميراث لأرض، أو شقة خالية، أو عربة، وجميعها تستخدم لسد جوع ونهم وراحة تلك الموهبة. أحيانًا كانت تلك الحوائط المائلة تكتسب مصداقيتها في الحياة كونها تتغذى على بريق هؤلاء الموهوبين.
بعضهم جاء من خارج القاهرة، ليعيشوا على قفا موهبتهم، وقفا أصدقائهم وعائلات أصدقائهم. كانت الموهبة تسوغ لأحدهم أن يعيش على حساب ذلك المجتمع "العفن"، الذي يفرح بموهبته ويفسح لممثلها مكانًا في حياته. أخذت تلك الموهبة ترشح "فردية" بها قدر من التعالي، كأن صاحبها غير مصدق بأنه يستحق أن يكون مميزًا، وكفى، وإنما يجب أن تعكس تأثير موهبته على وجوه من لا يملكونها.
في الوقت نفسه كانت هناك طبقة اجتماعية أخرى راسخة ولها نفوذ، تقطف تلك المواهب الطازجة لتتصدر بها صالوناتها، وعندها كان هؤلاء الموهوبون القساة يصبحون طيبين ومدجنين. ربما كانت تلك البيوت والصالونات ملاذات لأحلام طبقية سافرت معهم في غربتهم، ولم تبرحهم.
حاسة كلب
كانوا يملكون حاسة كلب في شم رائحة الادعاء وأيضًا في رصد لجلجة لسان الضعيف، يبدأ هجومهم بمجرد أن يستشعروا ضعفًا في محدثهم الذي يتطفل على مجلسهم لينوبه جانبًا من بريق نجوميتهم وتمردهم. كان الجلوس مع الصفوة مكسبًا لا يضاهيه مكسب في تلك السنوات، تنظر لهم من بعيد فتجد السعادة ترفرف على تلك الجماعات المنتخبة من الموهبة. خلَّفت تلك المعارك بين جيش الموهوبين وجيش الهامشيين الذين يجلسون ويقتاتون على حواف الموهبة، الكثير من الجرحى والعقد النفسية.
كانوا، بهجومهم على الحالمين، يبددون وهم الجميل والأصيل الذي يميز المجتمع الأدبي. كانوا يتحركون من ميول يسارية واضحة ولكن موهبتهم الخاصة في الكلام والجرأة أخفت ذلك المرجع الذي كانوا يقرأون منه أحوال وتقلبات الإنسان الحديث. أحيانًا كان لحديثهم طلاوة، ولهجومهم طرافة تلبس ثوب القسوة، وحدثت مفارقات ضاحكة ظلت تتردد وتكون جزءًا من حكايات الجيتوهات الثقافية.
منهم من قضى فترة من حياته مسجونًا سياسيًا، أكسبته شجاعة وجرأة يفوقان، أحيانًا، موهبته الشخصية. كان ذلك السجن بمثابة الموهبة في أحد تجلياتها، والدَين المدين له الجميع به. الضحية التي ستتحول إلى جلاد. قليلون من عاشوا السجن كتجربة وجودية وكثيرون عاشوه كتجربة سطحية ومباهاة. ربما من ذلك السجن المادي أو الرمزي نشأت تلك النزعة الكلبية ورغبة النباح على كل شيء التي وسمت تلك النماذج.
دون كيشوتيون
داخل ذلك الكرنفال الثقافي كانت هناك حقيقة ألمسها في هؤلاء؛ جرأتهم على اقتحام ذلك المجتمع عراة، إلا من موهبتهم، بجانب خبرتهم بالحياة التحتية للمجتمع الثقافي. ليست النميمة ما أقصد، ولكن قدرتهم على تحليل ظواهر ذلك المجتمع، التي كانوا يبرعون فيها، وهو ما كان جديدًا عليَّ، تناول ذلك المجتمع من تلك الجوانب شديدة الذكاء. هناك من يسبقك في فهم الحياة وتوسيع تجربته والتكسب من موهبته، ليس نقودًا بل مكانة، كانت كافية ليعيش عليها هؤلاء الموهوبون.
كانوا دون كيشوتيين، فلم يقدروا أن يثبتوا نموذجهم ليعيش أطول منهم، أو ينقوا المجتمع الأدبي والثقافي من الدخلاء، ولم يقدروا أن يحافظوا على تجانس مجتمعهم، فدخله كل من هب ودب، وذابوا وسط كل تلك التحولات.
ربما ظل هذا النموذج حاضرًا حتى التسعينيات، ولكنه ظل يترنح من تغيرات عميقة في المجتمع من حوله وسيولة مفهوم الموهبة وقدسيتها التي كانت تسيطر على قلوب وعقول أجيال مؤمنة سابقة، حتى اختفى تمامًا ذلك النموذج. ربما عاد بعد ثورة يناير لكنه أصبح موجهًا وفاقدًا لكثير من موهبة وطرافة وصدق السابقين عليهم.
كان التشرد هو القالب الذي يستوعب الموهبة
روبين هود
من الممارسات الهامشية الطازجة لفصيل من ذلك المجتمع هو سرقة الكتب من معارض الكتاب، ثم إعادة بيعها للمهتمين بأسعار أرخص، كأنهم "روبين هود" الكتب والثقافة. يدخل أحدهم المعرض وفي جيبه قائمة بالمطلوب منه من المحرومين ثقافيًا الذين يحتاجون الكتب ولا يملكون المال. وبالرغم من الحراسة المشددة، ينجح أحدهم ويهرِّب بضاعته ليفرقها على قبيلته من الفقراء بسعر الجملة، نظير مبالغ مالية أقل بكثير من السعر الأصلي.
منهم من كان يسرق معاجم وموسوعات، ومنهم من يسرق الأعمال الكاملة لدوستويفسكي، بحرفة وموهبة نادرين، وكانت دارا نشر "مدبولي" و "الشروق"، من الدور التي تم استحلال كتبها. سببَّ لي هذا السلوك في البداية صدمة كبيرة. بالطبع كان مفهوم الحلال والحرام يلبسان وجهًا جديدًا، معاكسًا ربما لما كنت أومن به. ولكن يبدو أن الصدمات ما تخفي تحتها إعجابًا ما سيجد طريقه في التجسد، حبًا فقط في المغامرة، وفتح ثقوب في حائط الأخلاق الصلد.
ذلك الحد من القسوة
كان السؤال الذي يطرح نفسه لماذا تأخذ رغبة التمايز والتمرد ذلك الحد من القسوة أو الفظاظة والاختلاف عن ثقافة "القطيع"؟ هل يقف وراء تلك القسوة والفظاظة عالم مثالي نقي خال من المدّعين مثلا يريدون تحقيقه على الأرض؟ أم أن هناك خبرة تمرد لثقافة أخرى أخذت تطبق نموذجها في الشرق؟
قبل ثورة 52، ربما لم يكن ذلك النموذج حاضرًا، بل كان تجسيده يأخذ شكل "الصعاليك"، أو الهامشيين المطرودين من المجتمع، مثل الشاعر عبد الحميد الديب. كان التشرد هو القالب الذي يستوعب الموهبة، أما بعد انتشار الثقافة اليسارية، ربما أخذ ذلك النموذج في التحول، ربما وجد في مفهوم المساواة ومجتمع الموظفين الفرصة للظهور أو للتمرد والخروج عن ما هو سند له. لقد ترعرعوا وسط ثقافة تسعى للتمرد السطحي، أو وسط مجتمع يشعر بدونية أمام الموهبة، فيقدس صاحبها بدون حساب كأنه بطل ينوب عنه في القصاص من الأدعياء والمزيفين.
بدأ هذا النموذج يأخذ في التسعينيات، بزوال مفهوم المساواة اليساري، روحه التشردية التي كانت له في الأربعينيات، فلم تعد هناك فرصة للصعود بالموهبة لطبقة أعلى فنيًا أو أدبيًا، ففرص الصعود حسمت وزادت الفوارق بين الحرافيش والسادة.
كذب يقترب من أحلام اليقظة
أنظر إليهم الآن، من بعيد، كحالات فنية في مسرح كبير تدار فيه الأدوار، هناك من كان يغالي في أداء دوره كي يحجز موقعًا متقدمًا. كان الكذب أحد أدوات رفاهيتهم في فرض نموذجهم البطولي، كذب يقترب من أحلام يقظة، تجعلك تتعاطف مع ذلك الحلم المغدور الذي يقف وراء هذا النباح المستمر.
بالتأكيد كان هناك استخدام سيئ للموهبة، كونها تُدار داخل تلك المساحة الضيقة من الوجود. أن يكون دورك في الحياة أن تنبح في وجوه الناس والعالم، ولكن هناك أيضًا سؤال: من منح أولئك المشروعية ليكملوا أدوارهم في الحياة حتى جاء عصر جديد بنباح مختلف وأحلام مختلفة؟
في فترة من حياتي أيضًا احترفت النباح، ربما اقتصرته على مجتمع الشعر والأصدقاء، ولكن كان هناك دومًا خط رجعة داخل ذلك النباح.
كان هناك صوت آخر، صوت الذات دون أدوار أو نماذج تحتلها، وهو الصوت الذي تحول إلى "الصمت التام"، حتى اختفت منه نبرة النباح، وذابت داخل صوت النفس، وبدون نموذج خارجي يقود المسيرة والصوت.