في خريف 2020 وبينما كانت تولي وجهها بعينين مغمضتين وأيدٍ مقيدة جدارًا داخل مقر تابع للأمن الوطني، قررت الصحفية شروق أمجد مغادرة البلاد.
كان الرعب مسيطرًا عليها من أن يكون احتجازها بداية لتجربة حبس جديدة، يُعاد فيها ما مرت به في 2018 عندما حُبست سنة وثلاثة أشهر على ذمة الاتهام بـ"الانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة"، لحقتها بتدابير احترازية استمرت لسبعة أشهر ومنع من السفر، حسبما تروي الباحثة بالجبهة المصرية لحقوق الإنسان، طالبة ماجستير في دراسات النوع الاجتماعي بجامعة وسط أوروبا في النمسا، روضة العسكري.
شروق واحدة من ضمن 30 امرأة مصرية يعشن في الخارج، استعانت العسكري بشهادتهن، في تقريرها الأخير الصادر الخميس الماضي عن الجبهة المصرية لحقوق الإنسان، بعنوان "المنفى أو السجن"، لرصد ما اعتبرته "اضطهادًا جندريًا يُضاف إلى الاضطهاد السياسي الذي تمارسه السلطات المصرية ضد المعارضات بسبب نوعهن، أدى إلى هروبهن وعيشهن بالمنفى".
في مستهل تقريرها، تقول العسكري إنه "محاولة أولى من نوعها لدراسة وضعية المعارضات السياسيات المصريات المنفيات، بالتحديد فئات المدافعات عن حقوق الإنسان والناشطات السياسيات والصحفيات، وبحث التقاطعات بين اضطهادهن على أساس الرأي السياسي وعلى أساس النوع، والذي يحرمهن من حق العودة إلى بلادهن".
وتوزع الباحثة الحالات بين 15 مدافعة عن حقوق الإنسان وسبع ناشطات وثماني صحفيات، تعيش 11 منهن في تركيا، وتسعٌ في كلٍّ من تونس وقطر وألمانيا، بواقع ثلاثة في كل دولة، واثنتان في الولايات المتحدة، ومثلهما في السويد، وواحدة في كلٍّ من بلجيكا والنمسا وإيطاليا وسويسرا وفرنسا وكوريا الجنوبية.
وتفيد الباحثة بأن "تسع من الناشطات طالبات لجوء في دول مختلفة أوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية، و10 منهن مقيمات، بينما الـ 11 المقيمات في تركيا فلهن وضع خاص، فبعضهن معهن ما يسمى بـ (الإقامة الإنسانية)، وأخريات على إقامة سياحية".
لأنهن نساء
في تفسيرها لماذا التركيز على النساء رغم ممارسة القمع على الجنسين، تقول العسكري في حديثها للمنصة "بشكل عام اللي الستات بتتعرض له مهمش مقارنة بالرجالة، ودا مش منفصل عن السياق العام اللي بتهمش فيه قضايا النساء". وتابعت "السبب التاني هو كيفية الانتهاك، والمقصود هنا أن أغلب الانتهاكات للستات بيكون لها بُعد جنسي".
وتضيف أن الانتهاكات يكون لها تأثير مضاعف على السيدات "بحكم إنهم ستات أو المسؤولين الأوائل عن أطفالهم"، مشددة على أن "أسباب انتهاكهم ليس لأنهم عبروا عن رأيهم بس لكن لأنهن سيدات".
وتقارن العسكري بين الخطاب الرسمي من دعم النظام لقضايا النساء، وما تحاول إثباته من وجود "عنف ممنهج" ضدهن، فتقول في تقريرها إن هناك "فجوة واسعة بين مزاعم الدولة محاولتها القضاء على العنف والتمييز ضد المرأة، وما تمارسه بالفعل من سياسات قمعية وعنف ضد النساء المشتبكات في المجال العام". وتبرهن بـ"تزايد أعداد المعارضات اللاتي يضطررن إلى مغادرة البلد هربًا من الاستهداف الأمني".
مفهوم المنفى أوسع من اللجوء؛ لأنه ينطبق على كل من اضطر إلى مغادرة بلده
وتعود الباحثة إلى بدايات حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي عندما نالت قضايا المرأة اهتمامًا، "منذ تولي السيسي الحكم، صدر قضايا المرأة كأداة لترسيخ النظام السياسي واكتساب تأييد أوسع له في حربه ضد الإسلاميين، واستخدم خطاب حقوق المرأة كغطاء للتشويش على سياسات الدولة القمعية".
وتستشهد باستراتيجيتين أصدرتهما المؤسسات الرسمية لدعم المرأة الأولى "الاستراتيجية القومية لمكافحة العنف ضد المرأة 2015-2020" في 2015، والثانية "الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة المصرية 2030" في 2017، متابعة "على الرغم من إصدار هذين الاستراتيجيتين، لا يزال النظام يستهدف المعارضات السياسيات"، وأيضًا "النساء اللواتي تتحدثن عن تعرضهن لعنف جنسي والشهود في قضايا العنف الجنسي ضد النساء".
لماذا "المنفى"؟
تفتتح الباحثة تقريرها بأسباب استخدامها "المنفى" وليس "اللجوء السياسي". وتستعين هنا بما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقية جنيف للاجئين لعام 1951 والميثاق العربي لحقوق الإنسان، واستخدموا جميعهم مصطلحات مثل النفي أو الاستبعاد التعسفي.
وتشير إلى المنفى فتقول "تعتبر الجبهة أن مفهوم المنفى أوسع من اللجوء"؛ لأنه ينطبق "على كل من اضطر إلى مغادرة بلده، سواءً كان لاجئًا أم لا، بسبب اضطهاده على أساس رأيه السياسي أو نوعه أو دينه أو لونه أو عرقه أو أي أسس تمييزية أخرى".
خمسة فقط من الحالات المرصودة من وافقن على الإفصاح عن هويتهن، فبجانب شروق، تأتي الصحفية بسمة مصطفى المقيمة في ألمانيا وسبق أن تعرضت إلى احتجاز تعسفي لثلاث مرات وإخفاء قسري وتحرش جنسي وأعمال انتقامية من أهلها، بحسب التقرير.
كذلك الصحفية سولافة مجدي، التي تعيش في فرنسا، وألقي القبض عليها في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وقضت مدة حبس وصلت لعام وأربعة شهور. أما الشقيقتان الحقوقيتان سارة وشيماء البنا تعيشان حاليًا بالسويد، وخرجتا من مصر قبل صدور حكم غيابي عليهما بالسجن 10 سنوات.
10 انتهاكات
في الجزء الثاني من التقرير حصرت الباحثة أشكال الانتهاكات التي تمارسها السلطات ضد المعارضات في 10 محاور تتنوع بين "الاحتجاز التعسفي والحبس الاحتياطي المطول، والاختفاء القسري، والتعذيب وسوء المعاملة، والانتهاك الجنسي، والتدابير الاحترازية، المتابعة الأمنية، وأشكال أخرى من الاستهداف والتهديد الأمني، والمنع من السفر وترقب الوصول، والأعمال الانتقامية ضد أسر الناشطات، وانتهاك الحق في استخراج أو تجديد الأوراق الثبوتية".
وفيما يخص الاحتجاز التعسفي، يقول التقرير إنه أحد أبرز أسباب سفر الناشطات، و"قالت 9 ناشطات بالمنفى للجبهة المصرية بتعرض غالبيتهن لتوقيف تعسفي تبعه تحقيق غير قانوني، منهن 7 تم توقيفهن في مطار القاهرة، وقالت 15 ناشطة إنهن تعرضن للاحتجاز التعسفي لمدد وصلت في أحيان إلى 18 شهرًا في قضايا سياسية".
أما الاختفاء القسري، فيوضح التقرير أنه مرحلة غير قانونية تنفي فيها السلطات وجود المقبوض عليهن لديها، ثم يظهرن أمام النيابة وتختلف فترة الاختفاء من حالة لأخرى، وتعرضن له 11 امرأة من أصل الثلاثين.
ويفيد التقرير بأن السلطات تمارسه بشكل ممنهج، ويستند هنا على توثيق "فريق العمل المعني بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري في تقريره الصادر عام 2018"، وهو جهة أممية تتحدد مهامه بحسب الموقع الرسمي للأمم المتحدة في "مساعدة الأسر على معرفة مصير أو أماكن وجود أفرادها الذين يُزعَم أنّهم اختفوا"، الذي لفت أن عدد شكاوى الاختفاء القسري في مصر هو الأعلى على الإطلاق منذ بداية الفريق عمله في 1980؛ و"سجل التقرير وجود 189 حالة اختفاء قسري، علاوة على 285 حالة لا تزال قيد المراجعة".
فيما تعرضت 17 ناشطة للتعذيب وسوء المعاملة، الذي تنوع بين تعذيب جسدي كالضرب والصعق بالكهرباء والتعليق والسير على الجسد وإطفاء السجائر، وآخر نفسي ومنه تعذيب الناشطات على مرأى ومسمع من أفراد أسرهن أو تعذيب أفراد الأسر أمام الناشطات أو التهديد بتعذيب الأهل.
ومن جهة، كشف المدير التنفيذي للجبهة المصرية لحقوق الإنسان أحمد نديم، للمنصة، أن الجبهة سترسل "المنفى أو السجن" إلى الأمم المتحدة. وهي "ليست المرة الأولى التي تعرض فيها الجبهة تقريرًا عن مصر على الأمم المتحدة"، مؤكدًا "بنعول على اهتمامهم بالموضوع".
بدورها قالت العسكري إن التقرير سيوجه كذلك إلى الاتحاد الأوروبي ودول أوروبية على حدة، كمحاولة للضغط على النظام، كذلك "لتحميل البلدان دي مسؤولية إقامة علاقات ومنح غطاء قانوني وسياسي لنظام بيمارس انتهاكات ممنهجة ضد معارضيه".
وشمل محور الانتهاك الجنسي روايات 9 ناشطات عن تعرضهن لانتهاكات جنسية كـ"الاغتصاب والتحرش الجنسي، والتعرية والانتهاك الجنسي أمام الأهل وانتهام الأهل جنسيًا أمامهن"، فضلًا عن "التهديد بالاغتصاب والتهديد بفبركة صور جنسية والتفتيش الحاط بالكرامة أو التفتيش العاري".
وتحت محور أشكال أخرى من الاستهداف والتهديد الأمني، أوضحت الباحثة أشكالًا متفرقة من الانتهاكات مثل فصل 3 ناشطات من جامعاتهن لأسباب أمنية، وفصل 3 صحفيات تعسفيًا.
وفي محور المنع من السفر، ذكر التقرير أن "21 ناشطة من أصل 30 أسماءهن على قوائم المطار، 14 منهن على قوائم المنع من السفر وترقب الوصول، و7 منهن على قوائم الأمن الوطني". وأكدت 15 ناشطة تعرض أسرهن لـ"أعمال انتقامية"؛ "بهدف التخويف".
ويتطرق التقرير إلى عدم قانونية "قوائم الأمن الوطني"؛ وهي "قائمة غير رسمية" لا يمكن للمعارضات التأكد من إدراجهن بها، إلا بـ"المخاطرة بالعودة إلى مصر إذا كن في الخارج، أو السفر بشكل قانوني من خلال المطار إذا كن في الداخل".
التضييق يلاحق المعارضات حتى بالخارج. بحسب التقرير فـ"سفارات مصر في بلدان عدّة تنتهك حق المواطنين في تجديد جوازات سفرهن واستخراج أوراق رسمية، كذلك استخراج شهادات ميلاد للأطفال المولودين بالخارج".
كل ما سبق يدفع بالعسكري إلى القول للمنصة بأن أهدافها "نقول إن اللي بيحصل هي سياسات ممنهجة مش مجرد استهداف لحالات فردية، عشان كده حاولنا نوثق مع قدر كبير من الستات المعارضات في المنفى".
وتابعت أن ذلك ينفي أي حديث عن أي انفراجة سياسية مع تدشين لجنة عفو رئاسي والوعد بحوار وطني، قائلة "التقرير يؤكد أن الحل الحقيقي اللي النظام مصمم مايتعاملش معاه هو فتح المجال العام ووقف ماكينة الحبس والإخفاء القسري".
وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي أعلن في أبريل/نيسان 2022 عن بعض الإجراءات من قبيل إطلاق دعوة لحوار وطني وتدشين لجنة عفو رئاسي. وفي مقابل الآراء التي استبشرت بالخطوات، يرى آخرون ومنهم العسكري "مبادرات العفو والحوار الوطني غير جادة".
وإلى أن تكون المبادات جادة، تبقى عودة شروق مستحيلة، إذ لا يمكن عودتها وهي التي وصفت أيامها الأخيرة بمصر قبل سفرها "كنت وصلت لمرحلة إن الهوا اللي بتنفسه بيأذيني مكنتش عارفة أتعامل لا مع أهلي ولا أصحابي ولا مع حياتي، كنت حاسة أن حياتي كلها راحت وادمرت".