هل كانت الإمبراطورية الأمريكية عارية أمام أعين المارد الصيني حين دخل الأجواء الأمريكية بمنطاد أو بالون طائر جهارًا نهارًا، بل ومرارًا، كل هذه السنوات الماضية، فيما كان الإمبراطور المتعجرف ترامب وخليفته بايدن يعتقدان أن تكنولوجيا المنظومة الدفاعية الأمريكية قادرة على رصد أي ذبابة إلكترونية؟
منطاد صيني بلغ وزن حمولته في المرة الأخيرة ألف كيلوجرام، طوله نحو ثلاثة أوتوبيسات ملتصقة في طابور، يحمل محركات دفع وتوجيه وأجهزة تجسس واتصالات، ويمر أمام أعين المواطنين الأمريكيين قادمًا من الصين عبر الأجواء الكندية، متسكعًا فوق صوامع الصواريخ النووية القارية في ولاية مونتانا و مواصلًا رحلته لأسبوع فوق رؤوس باقي الأمريكيين صغارًا وكبارًا، عسكريين ومدنيين من الاثنين 30 يناير/ كانون الثاني إلى السبت 4 فبراير/ شباط.
ما حدث في أمريكا الأسبوع الماضي، وهز العالم رغم سلميته دون ضحايا بشرية، كان فيه من الروح الساخرة ما يذكرنا بمفارقات قصة الأديب الدنماركي هانز أندرسون "الإمبراطور العريان" التي تبدو مستوحاة قبل قرون من الأدب المغربي الأندلسي.
إنها قصة الخياطين المحتالين الذين أوهموا الملك أو الامبراطور ووزراءه وحاشيته أنهم يستطيعون حياكة رداء ملكي من خيوط سحرية لا تظهر لعينه ولكنها تستره وتخفيه، وحين يلبس ردائه السحري لن تراه الرعية وهو يتجول بينهم بحصانه. وتنتهي القصة في الرواية الأوروبية بطفل يتجرأ ببراءته فيصرخ بما خافت الرعية والحاشية أن تبوح به موجها كلامه لأمه، قائلًا "الملك عريان".
كل الرؤساء في الهوا الصيني سوا
حين تأخر تنفيذ قرار الرئيس الأمريكي بايدن بإسقاط المنطاد الصيني لأربعة أيام في انتظار وصوله الساحل الجنوبي الشرقي، حتى لا يسقط الحطام فوق مناطق سكنية، وحتى يمكن انتشال أجزائه من البحر سليمة، زايد عليه وقتها سلفه ترامب قائلًا إن هذا التبجح والاختراق الصيني لم يكن ليحدث في عهده.
لكن جيك سوليفان مستشار الأمن القومي للرئيس بايدن لم يسكت على مزايدات الجمهوريين ورئيسهم السابق، فبمجرد إسقاط المنطاد بصاروخ جو-جو من مقاتلة فالكون 22، أعلن أن الصينيين فعلوها بالمنطاد ثلاث مرات على الأقل في عهد ترامب، كما فعلوها مرة من قبل في بداية عهد بايدن.
لم تكتشف الدفاعات الأمريكية هذه الاختراقات من قبل لكنَّ أجهزة الاستخبارات عرفت لاحقًا بطرقها، سواء تنصت أو تجسس مضاد، أن الصينيين فعلوها من قبل بينما كانت الامبراطورية الأمريكية تعتقد أنها مستورة من أعين البالونات الصينية الطائرة المتلصصة!
تزعم إدارة بايدن أنها حسّنت القدرات الدفاعية فتمكنت أخيرًا من رصد المنطاد الصيني هذه المرة! فهل توارت المناطيد الخارجية السابقة وسط غيرها من مناطيد تجارية؟ فكل يوم يوجد في الأجواء الأمريكية أكثر من مائة منطاد على ارتفاعات متفاوتة لكنها أعلى من مسارات الطائرات، سواء لرصد الطقس أو الاتصالات أو حتى لتوصيل الإنترنت لمناطق ريفية نائية.
لكننا لم نسمع عن منطاد يحلق فوق المواقع النووية الأمريكية ودفاعات قيادة المنطقة الشمالية الأمريكية وبارتفاع نحو خمسين إلى ستين ألف قدم بشكل رآه المواطنون العاديون. فهل كانت مهمة منطاد الصين هذه المرة مكشوفة لإحراج الإمبراطورية بطريقة استعراضات صينية مزركشة الألوان، وبحجة استعباطية، حين زعمت الصين أنه منطاد للطقس والأغراض العلمية جرفته الرياح نحو أمريكا!
استفزاز مدروس أم خارج السيطرة؟
هل كانت الصين تشك في أن هذا الإحراج والتحدي للرئيس بايدن سيمر دون إلغاء زيارة وزير خارجيته أنتوني بلينكن إلى بكين كاحتجاج في آخر لحظة، مما عطل اجتماعًا منتظرًا للوزير الأمريكي مع الرئيس الصيني لتخفيف توتر العلاقات بين البلدين؟
لن يفصح الأمريكيون سوى عن الأدلة الدامغة على تجسس الصين عليهم ردًا على زعمها أن المنطاد كان لأغراض الطقس وجرفته الرياح
هناك تفسير أمريكي يحاول فهم اللغز وتوقيته بأنه قد يكون مقصودًا من عناصر متشددة في النظام الصيني لإفساد التقارب أو التصالح، وكأنهم يفترضون أن الرئيس الحالي شي جين بينج ليس منفردًا بالحكم في بكين. أو أنه أسلوب صيني في استعراض القوة بشكل فج قبيل الجلوس للتفاوض!
يستشهد هؤلاء بما حدث في زيارة سابقة عام 2011 لوزير الدفاع الأمريكي آنذاك روبرت جيتس، خلال رئاسة أوباما ونائبه بايدن. فبعد أن وصل الوزير الأمريكي وقُبيل لقائه مع الرئيس الصيني آنذاك هو جين تاو، قامت القوات المسلحة الصينية باستعراض مستفز لطائرتها المقاتلة الجديدة الشبح، فوق سماء بكين التي يزورها وزير الدفاع الأمريكي!
لن يمر وقت طويل حتى يفرغ الأمريكيون من انتشال حطام أجهزة المنطاد المتناثرة بعد إسقاطه فوق سواحل ولاية ساوث كارولينا ومن المياه الإقليمية غير العميقة بتلك المنطقة للمحيط الأطلنطي، ليعرفوا مستوى التكنولوجيا الصينية وسبب اختيار المنطاد للتجسس بدل أقمار الصين الصناعية، التي تزيد عن 600، ترصد وتصور بدقة كل التفاصيل تحتها ولو صفحة كتاب مفتوح. فلماذا النزول للأجواء الأمريكية؟
هل تم إسقاط أجهزة دقيقة أو مواد من حمولة المنطاد على مواقع أمريكية محددة لرصدها؟ أم كانت تختبر سرعة ودقة ردود أنظمة الرصد والدفاع الأمريكية لأي اختراق؟
سيعرف الأمريكيون الكثير، ولا نتوقع أن يفصحوا عن كل شيء، باستثناء الأدلة الدامغة على تجسس الصين عليهم ردًا على زعمها أن المنطاد لم يكن إلا لأغراض الطقس والأرصاد الجوية فجرفته الرياح نحو أمريكا، بل واحتجاج الصين على إسقاط المنطاد رغم أنه حدث في المجال الجوي الأمريكي.
هل يعتذر الرئيس الصيني قبل القمة؟
سبق للأمريكيين "الاستعباط" باستخدام نفس حجة الصينيين وهي قياس الأرصاد الجوية حين ضبطهم السوفيت يتجسسون على أراضيهم وقت الحرب الباردة باستخدام طائرات التجسس U-2 شاهقة الارتفاع.
فقبل أسبوعين من لقاء قمة استضافته باريس في مايو/ أيار 1960 بين الرئيس الأمريكي أيزنهاور والسوفيتي خروتشوف أسقطت الدفاعات السوفيتية طائرة تجسس أمريكية بطيارها. وعلى الفور، أسرع الأمريكيون بادعاء أنها كانت في مهمة علمية للطقس والأرصاد وضلت طريقها في طبقات الجو العليا.
لكن السوفيت لم يعثروا فقط على الحطام وأجهزة التصوير بل قبضوا على الطيار الأمريكي الذي قفز منها بمظلته، وأذاعت موسكو اعترافه علنًا بأنه يعمل مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA.
اضطُّر الرئيس أيزنهاور إلى إعلان تحمله المسؤولية دون تنصل بأنه لم يكن يعرف عنها، وقال إنها كانت في مهمة دفاعية لجمع المعلومات، معتذرًا بصيغة دبلوماسية حتى يتم لقاؤه مع خروتشوف. والتقى الزعيمان في باريس ولكن لجلسة واحدة عاصفة، أصرَّ فيها الزعيم السوفيتي على ألا يدعو أيزنهاور لزيارة موسكو التي كانت مقررة في الشهر التالي إن لم يتعهد بوقف كل طلعات التجسس مستقبلًا فوق الاتحاد السوفيتي، ومعاقبة المسؤولين عن الطلعات السابقة. وهو ما لم يفعله أيزنهاور، فلم يذهب لقمة موسكو بانتهاء السنة الأخيرة له في الرئاسة.
من المقرر أن يحضر الرئيس الصيني شي جين بينج إلى الولايات المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل للمشاركة في القمة الاقتصادية لدول المحيط الهادئ بمدينة سان فرانسيسكو.
فلننتظر لنرى ما إذا كان بايدن سيتصرف مثل خروتشوف المنفعل ويفرض شروطه الصدامية على شي، بعد إعلان الأمريكيين أدلة التجسس الصينية، لمنع حضور الرئيس الصيني إلى أمريكا؟ أم أن المصلحة الأمريكية العليا ستكون في تأجيل الصدام، والمرجح أنه قادم لاحقًا في تايوان، طالما أن المعركة الأمريكية ما زالت مشتعلة الآن مع الروس ولم تنتهِ بعد في أوكرانيا؟
السيناريو الأخير بتأجيل الصدام مع الصين هو الأرجح!