في طفولتي، إذا أرادت والدتي شتمي كانت تنعتني بالكردي، لشدة عنادي وتشبثي برأيي، والأنكى من ذلك عدم تنفيذ أوامرها. كان ذلك في نهاية ستينيات القرن الماضي في ريف طرطوس. وتضيف أمي بأنني كالكردي غبي؛ "لو رسموا حول قدميك دائرة لن تعرف كيف تخرج منها".
وحينما كانت تناديني باسمي "يا علي". كنتُ وأكثر أطفال ضيعتي نلتفت نحو مصدر الصوت، لأن أغلبنا كان اسمنا علي، ولتشابه الأسماء بدأوا ينادونني بـ "علي هاجر" نسبة لاسم أمي. وبدوري أنادي رفيقي بـ "علي زهرة" نسبة لاسم أمه. هكذا دواليك، صرنا ننادي بعضنا بأسماء أمهاتنا، لدرجة أننا نسينا اسم والدنا وجدنا وجد جدنا.
ومع ازدياد شيطنتي بدأت أمي تناديني باسم لم أسمعه من قبل. "لك عُمر ابتبطل شيطنة". هنا ترسخ في طفولتي أن اسمي الكردي العنيد، وعُمر الشقي، ونسيت علي. وكما نسيت صقر اسم عائلتي، لأن الكل يناديني علي هاجر. وترسخ أكثر في ذهني أنني علي الكردي، وما زلت أتساءل عن معنى "الكردي" و"عُمر"؛ كلمتان غريبتان عن بيئة طفولتي.
في المرحلة الابتدائية، ومع انتقالي مع عائلتي لمدينة طرطوس، صار لدي أصدقاء في الحارة والمدرسة، وحينها سمعت بأسماء، مثل جورج وعثمان وجيفارا وخالد. وكانت أمي دائمًا ما تسألني عن رفيقي عمر بالمدرسة، وعندما يتأخر بالمجيء لبيتنا تطالبني بالاطمئنان عنه.
ليش عمر؟
من يومها وحتى الآن، ما زالت جملة أمي ترن بأذنيَّ؛ أن رفيقي عُمر طيب وشهم، بس ليش سمُّوه عمر؟ مع معاشرتي لأصدقائي بتلك المرحلة؛ جهاد ونضال وكفاح وناصر وحافظ، وغيرها من الأسماء الثورية الرائجة في تلك المرحلة، علمت أن آباءهم كانوا ممن تأثروا بمرحلة الكفاح الثوري غير الديني، لكن ذاكرتي الشقية في طفولتي ظلت تذكرني بأمي، التي كانت تنعتني بالكردي، وبعلي صقر عمر، وهمسها لا يزال يرن في أذني.. بيقولوا "عدو جدك ما بودك".
فيما بعد، في منتصف ثمانينيات القرن المنخلع، ومن خلال اقتيادي جبرًا لخدمة العلَم بالجيش، التي استمرت لأكثر من أربع سنوات، تعرَّفت على أعداء أمي الأكراد، وكانوا الأقرب لذهني وثقافتي وطقوسي. بررت وقتها لأمي نعتها لي بالكردي العنيد، لأنها كانت تحب جمال عبد الناصر، لأنه أراحها من تربية الماعز، بحجة أن الماعز يقضم الأشجار ويعذب المرأة بتربيته لها، وأعطاها القليل من الحريات، كحقها بانتخاب جمال عبد الناصر.
في إجازتي القصيرة، دعوت صديقي خالد زميل الخدمة العسكرية، الذي استضافني في بيته في داريا لمرات ومرات. أحبته أمي وأبي، وحمَّلاه بالتين والعنب وحلويات التلاج المشهورة بها مدينتي، كما كان يحمّلني من منتوجات داريا. وبعدها همست لي والدتي "دير بالك لرفيقك خالد باين عليه ابن عيلة"، وتابعت بصوت خفيض "انتبه. عدو جدك ما بِودَّك".
والده سماه ناصر كي يحصل على الجنسية ويرضي عنه كاتب النفوس، وبمجرد حصوله عليها ساقوه إلى الجيش
وقعت تلك الأحداث قبل انتشار فيسبوك ونشره لثقافة العنف واللا عنف أيضًا. إلا أن ثقافة العنف طغت على ثقافة التسامح التي نشرها الراحل نيلسون مانديلا، ومن قبله سبينوزا وطاغور والأم تيريزا، وغيرهم من مبشري ثقافة التسامح واللا عنف.
ومع الاستمرار بحديثي مع صديقي في المهجع واسمه ناصر، ويا لمفارقة الأسماء، أباح لي أن اسمه الحقيقي بالكردي آزاد، أي الحرية. وعند استفساري أجابني بأن شقيقه الأكبر رازبا، واسمه بالدولة محمد، ورازبا تعني بالكردي عازف الهواء. وأن والده سماه ناصرًا كي يحصل على الجنسية السورية ويرضي عنه كاتب النفوس، وكان له ذلك. وبمجرد حصوله على الجنسية ساقوه إلى الجيش وبقي شقيقه المكتوم خاليًا من الحقوق المدنية وأهملت خدمة الجيش عنه.
وتحدث مطولًا وبغصة عن الأكراد وحرمانهم من حق التجنيس ومن أبسط حقوقهم؛ من اللغة وممارسة طقوسهم الثقافية والدينية حتى أنهم منعوا من التكلم بلغتهم. وجرى تعريب أسماءهم كذلك تعريب أسماء مناطقهم وحتى أعيادهم، كما حدث بعيد النيروز وتحويله إلى عيد الأم. وحدث ذالك ببداية الثمانينيات من القرن المنصرم.
وهنا سألت صديقي آزاد/ناصر سابقًا "لماذا إذًا تخدمون الوطن وأنتم محرومون من أبسط حقوقكم؟"، تنهد وعطس وقال "ليس كل الأكراد مكتومين، أي لا هوية لهم". وتابع بغصة، "علينا أن نخدم دون أن يخدمونا".
بعدها بسنوات حضرت فيلمًا، ربما كان جزائريًا، لا أذكر اسمه، ضمن فعاليات مهرجان السينما في دمشق نهاية الثمانينيات. يحكي عن قرى منسية بريف الجزائر من البدو غير المسجلين بالدولة. تقوم الدولة بتجنيس الشباب ثم تسوقهم للجيش، وبنهاية الفيلم يعودون إلى قراهم في نعوش مغلقة بإحكام، أي شهداء.
طبعًا معرفتي الأكبر بالأكراد كانت قراءتي لرواية "صالبا" للكردي العظيم المرحوم يلماز غوني، الذي تابعت أخباره حين نال جوائزَ لأفلامه وهو في السجن. وفيما بعد تابعت دراسات صبحي حديدي ورياض الحسين. وحديثًا تعرفت عن قرب بالساخرين الساحرين أحمد عمر ولقمان ديركي وغيرهما. ثم جاءت السوشيال ميديا، التي كان لها الدور الفعال في تعريفي أنا وغيري بالقضية الكردية، وكتابها الكبار مثل محمد زادة والكثير من الكتاب والإعلاميين، وأجملنا روحًا وقلبًا ونبضًا جوزيف ناثان.
أعود إلى أمي وعلاقتها مع الكرد حديثًا، أي مع التهجير الذي حصل للكرد كما لغيرهم من السوريين. كانت جارة أمي بطرطوس كردية مهجّرة من عفرين، وأحبتها أمي وكانت دومًا تقول لها "ما أحلاكِ أنت وأولادك، وأحبهم إلى قلبي ابنك عمر. نفس عاداتنا وتقاليدنا حتى ملبسنا".
هنا تدخلتُ مازحًا، "بس هدول الأكراد عنيدين وأغبياء، ترسمين لهم الدائرة ولا يستطيعون الخروج منها". وهمست لها "عدو جدك ما بودك!". فنهرتني "إخرس، والله ماحدا كردي وعمر وجوزيف وعنيد غيرك أنت وعبد الناصر".