خلال الشهر الماضي تناقلت الصُحف وصفحات التعريف بالأماكن السياحية في مصر، خبر نية سفينة Logos Hope، معرض الكتب العائم الذي يطوف العالم كل أربع سنوات، الرسو مجددًا في ميناء بورسعيد، بعد عدة زيارات للمدينة حتى 2010، لم تحظ أي منها بمثل ما حازته الزيارة الحالية من حفاوة واهتمام شعبي.
أدركت مدى اهتمام البورسعيدية بزيارة المعرض العائم حينما اتصلت بي أمي، حيث أقيم في القاهرة، تسألني متى أعود لنزور سفينة الكتب معًا، وتخبرني أن جيراننا جميعًا ينوون زيارتها كذلك. صار الأمر حديث الجميع.
يحب البورسعيدية، باستثناءات شحيحة، سرد القصص والترويج للجديد، رغم ذلك تخيلت أن الاحتفاء يغذيه الفراغ والرغبة في الهروب من الوضع المعيشي الصعب الذي يُعانيه الناس حاليًا، لكن الأمر سار عكس ذلك تمامًا، انتعشت المدينة في حركة جماعية غابت سنوات طويلة، وخرجوا، بعيدًا عن الترحيب الرسمي، لاستقبالها وزيارتها بأعداد ضخمة.
المدينة تؤازر المدينة
بعد رسو السفينة في 4 يناير/ كانون الثاني الجاري، وافتتاحها رسميًا أمام الزوار في اليوم التالي، لم يكن في ذلك المساء متسع من الوقت يكفي لزيارة الأعداد الكبيرة التي كانت تنتظر حضورها، فذهبتُ في مساء الجمعة. كان صفّان ممتدان من كابينة قطع التذاكر وحتى انتهاء رصيف الميناء الطويل؛ خلق كثيرة تقف وتتزاحم لأجل الدخول. بدا اهتمام الناس وانتظارهم الطويل غريبًا بالنسبة لطبيعة مدينة صغيرة لا يُبدي أهلها اهتمامًا كبيرًا بالكتب.
عملتُ سابقًا في مكتبة، وأعرف جيدًا أن نسبة اهتمام الناس في بورسعيد بالكتب قليلة للغاية، إضافة إلى أن الوضع الاقتصادي حاليًا يجعلُ شراء الكتب رفاهية.
تحايلتُ على الانتظار الطويل في طابور قطع التذاكر بالحديث مع الناس، ولم أسمع سوى جملة أو اثنتين تتعلقان بالكتب. أغلب الواقفين أبدوا اهتمامًا بالفُرجة ومؤازرة المدينة، إذ انتشر عن السفينة أنها اختصّت بورسعيد بالزيارة، ولذلك علينا أن نحتفي بتلك الخصوصية ونتفاعل، بينما هناك شاب آخر يقف أمامي، يضحك ويشير ساخرًا إلى نيّته في الاختباء بأي "زخنوق" بالداخل، ربما يُنسى هناك حتى تغادر ويحصل على هجرة مجانية.
قارب وقتُ الزيارة على الانتهاء، ورغم إصرار الواقفين على الانتظار والدخول، فضّلتُ الرحيل والعودة صباح السبت. ولكن في ظهيرته، فوجئت بعدد أكبر من مساء الجُمعة.
في داخل سفينة الأمل
في ألمانيا، عام 1973، بنيت سفينة Gustav Vasa لنقل الرُكّاب والبضائع على طرُق شمال الأطلنطي، قبل أن تنتقل ملكيتها إلى كثير من الشركات التي استخدمتها لأغراض تجارية المختلفة داخل أوروبا، حتى اشترتها في عام 2004 المؤسسة الخيرية Good Books For All، التي تمتلك عددًا من المكتبات العائمة.
وبعد صيانتها وترميمها، انطلقت السفينة في رحلتها الأولى كمكتبة عام 2009 وهي تحمل اسمها الجديد Logos Hope. وخلال رحلاتها المستمرة حتى اليوم زارت دولًا عربية كثيرة مثل ليبيا ولبنان والبحرين والإمارات، قبل أن تلقي بمرساها في بحر بورسعيد.
انتظرتُ حوالي أربع ساعات حتى استطعت الدخول، كانت الأعداد المُنتظرة بالخارج ضخمة، وثمة أتوبيسات تحمل رحلات جماعية من مُحافظات أخرى، تفرغ حمولتها كل فترة وجيزة، لذلك اضطّر فريق متطوعي السفينة لوقف حجز التذاكر من وقت لآخر حتى يخف الزحام بالداخل.
بدا المشهد مفعمًا بالغضب والمرح والسخرية في آن؛ يقفُ بضعة متطوعين أجانب لتنظيم الجمهور، ومن وقت لآخر يشتبكُ أحدهم مع فريق الأمن، فتسمعُ صراخًا بالعربية وآخر بالإنجليزية، ثم يضحكُ الناس.
عندما تجاوزتُ الطابور أخيرًا، استقبلني ومجموعتي من الذين حل عليهم الدور، بعض المتطوعين من أجناس مختلفة، تكشفها اختلاف الملامح واللكنة الإنجليزية، بابتسامة تتناقض وتكشيرة أفراد الأمن بميناء بورسعيد المختصين بتفتيش الحقائب ومنع التصوير.
وفي السفينة نفسها، كان متطوعون أكبر عددًا يرحبون بنا، قبل أن يرشدونا إلى فيديو تعريفي بالمكان أعقبه تعليق سريع من متطوّع آسيوي يتحدث بإنجليزية بطيئة، جرى استبدال آخر مصري به بعد عدة أيام، ثم تبدأ الجولة.
عن تجربة ناقصة
تنقسمُ رحلة تفحّص وشراء الكتب داخل Logos Hope إلى زيارة قاعتين صغيرتين، تحتوي الأولى على كتب للأطفال ومؤلفات عن المسيحية بالإضافة إلى عناوين أخرى تتنوع بين السير الذاتية والكتب التوعوية، أما القاعة الثانية، التي تشبه غرفة صغيرة في شقة ضيقة، فتضم مراجع متخصصة في مُختلف المجالات العلمية النظرية والتطبيقية.
في الزيارة الأولى للسفينة، لاحظتُ وجود عدد كافٍ من المتطوعات والمتطوعين بالنسبة لحجم المكان، وقتما تنظرُ حولك طلبًا للمساعدة تجدُهم بالقرب منك، لكنهم لا يبدون تعاونًا حينما تسأل عن أي شيء آخر غير الكتب؛ بادرتُ إحدى المتطوعات وسألتها عن تجربتها هنا، فتوّترت وأخبرتني أن برنامجها التطوعي مدته أسبوع واحد، ومن الأفضل الحديث مع المتطوعين والمتطوعات الذين يرتدون سترات حمراء داكنة.
أمام الكاشير، تشجّعتُ مرة أخرى وتحدثت مع متطوعة صينية بزي أحمر، سألتها بإنجليزية واضحة عن تجربتها الشخصية مع التطوّع هنا، لكنها راوغت وأخبرتني أن هناك برامج مُختلفة للتطوع، لكنها تشارك عبر منحة مدفوعة حازتها من خلال التقديم على الموقع الرسمي للسفينة.
لا شيء يميز "الأمل"
بعد الانتهاء من تفقّد الكتب، فإنك كزائر مهتم بالقراءة أو غير مهتم، لن تجد في السفينة ما يميز أو يكافئ على الأقل الترويج العالمي الذي يصاحب ترحالها، ربما تُميزها فقط بعض المراجع العملية النظرية والتطبيقية، لكن ما تضمه من كتب قد يساوي أو ينقص عما يحتويه أي منفذ متوسط لبيع الكتب، غير أن نصف تلك الكمية المعروضة يتركز فقط حول المسيحية.
يعمل بالسفينة حوالي 400 متطوع من 60 دولة، يتم توزيعهم حسب الرحلات والبرامج، يتبادلون الراحة فيما بينهم على عدد الأيام. أخبرني موناو من سويسرا، ويعملُ لحّامًا بالسفينة منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، أن عمله خمسة أيام بالأسبوع، ويوم راحة للتجول والحديث مع الجمهور، بينما اليوم السابع فلزيارة المدينة مع زملائه للتعرّف على ثقافة المكان.
تجربة مرور سريعة داخل السفينة تشير إلى أنّها حالة تبادل ثقافي أكثر منها معرضًا عائمًا، وإن كان تبادلًا منقوصًا، فما يمارسه المتطوعون من أنشطة مع الجمهور وأحاديث محدود، ربما بدا لي ذلك بسبب الزحام الشديد وضغط العمل، لكن تفاعل المتطوعات والمتطوعين في الزيارتين اللتين قمت بهما بيّن أنه منزوع الفردية وله إطار مُحددّ وصارم، بأن يقتصر فقط على منهجية عمل المكان، وفي إطار "جماعي"؛ إذ انتشر سريعًا في صفحات فيسبوك المعنيّة بأخبار بورسعيد عن ظهور أفراد من فريق لوجوس هوب، يجوبون الشوارع لتنظيفها من القمامة.
رغم اتساع حجم السفينة، فليس مسموحًا بالتجول خارج الجولة القصيرة المُحددة، أخبرتنا متطوعة أن شرط التجوّل هو أن تكتسب معرفة مبدئية مع أحد أعضاء الفريق، ويكون هو مسؤولًا عن جولتك على الأسطح، وفي الواقع لا يسمحُ أي من المتطوعين والمتطوعات بذلك أبدًا.
في زيارتي الثانية، كان عدد الزوّار أقل، وكذلك المتطوعين بالداخل، ووجدتُ بعض مراسلي ومقدمي برامج ثقافية وإخبارية يصورون بالداخل، يُرافق كل كاميرا ومراسلها متطوع للتعريف بالمكان ورسالته.
بحثًا عما يقتل الرتابة
تظل تجربة تواجد Logos Hope في ميناء بورسعيد حدثًا حيويًا ومؤثرًا في المزاج العام للمكان، لأن الزائرين لديهم أسلوبهم الخاص في الانبساط بالتجربة، رأيتُ عائلات مكتفية بالفرجة كأنها خروجة جديدة، إضافة إلى حركة دائمة ومحمومة حدثت في محيط الرسو، ساعدت في زحام مطاعم وأكشاك مُحيطة، وأخيرًا عاد الممشى السياحي إلى حيوية الحركة بعد ركود طويل.
بورسعيد واحدة من المدن القليلة عالميًا التي يقع ميناؤها في قلب المكان، رصيف صغير يفصل السُفن العابرة عن شارع حيوي ومركزي، اعتدنا دائمًا رؤية السفن يوميًا من الخارج فقط، لذلك فإن فُرصة الدخول إلى إحداها بتذكرة قيمتها 5 جنيهات فقط، حتى لو لم يكن بها كتب أو أي شيء، هو تطلع جماعي منذ سنوات طويلة
يتبقى سؤال وحيد، مُستنتج من تصريح المُحافظ عادل الغضبان لبرنامج يحدث في مصر، قبل أسبوعين، الذي أكد فيه أن بورسعيد تستقبلُ سفينتين سياحيتين أسبوعيًا كمتوسط. لم يسمع أحدٌ بذلك، ولم تُطرح مقترحات لتقريب السياح من ثقافة المكان أكثر، وربما خلال نزول هؤلاء السياح تُغلق الشوارع المحيطة ويقصى الناس بعيدًا.
لماذا علينا أن ننتظر سنوات حتى تنتعش المدينة لمدّة أسابيع قليلة؟