وافق مجلس النواب رسميًا ونهائيًا، اليوم، وبأغلبية ثلثي أعضائه، على مشروع قانون بناء الكنائس، بعد مشاورات سجّل فيها نواب حزب النور السلفي رفضهم لمشروع القانون.
دارت مناقشات سابقة بين أعضاء مجلس النواب، كان أولها مقررًا في جلسة، تلت إعلان الكنائس الثلاث "الأرثوذكسية، والكاثوليكية، والإنجيلية" موافقتها على مشروع القانون في مطلع الشهر الجاري.
يأتي صدور القانون على أمل وضع حد للمشاحنات الطائفية، التي ترجع في الكثير من الحالات للاحتجاج على بناء وترميم الكنائس، وغياب دور عبادة صالحة لأداء شعائر الديانة المسيحية في كثير من القرى والمراكز المصرية. حيث شهدت محافظة المنيا وحدها 77 حالة عنف طائفي منذ 25 يناير/كانون الثاني 2011، وفقًا لتقرير حقوقي صادر منتصف يوليو/ تموز الماضي، كثير منها جاء بسبب محاولات ترميم دور عبادة، أو بعد اتهام مسيحيين بالصلاة في بيوتهم بسبب عدم وجود كنائس.
وأعلن رئيس مجلس الوزراء المهندس شريف إسماعيل، في وقت سابق، إدراج مناقشة مشروع القانون على جدول اجتماع لمجلس الوزراء الأسبوعي. ويلزم الدستور مجلس الوزراء بإرسال مشروع القانون بعد مناقشته إلى قسم الفتوى والتشريع بمجلس الدولة ومنه إلى البرلمان. ويشير الجدول الزمني المعلن إلى أن مجلس الدولة يُنتظر منه دراسة مشروع القانون والانتهاء من ضبطه يوم الخميس فقط، قبل إرساله إلى مجلس الشعب صباح الأحد.
مسودة مخيفة
وتضم مسودة القانون التي أعدتها وزارة العدالة الانتقالية، ثماني مواد أثار بعضها مخاوف حقوقية وقبطية، ترى أن المسودة تعيد إنتاج المراسيم والتشريعات الحاكمة، المليئة "بالشروط الصعبة" لبناء وترميم الكنائس، التي بدأت بمرسوم "الخط الهمايوني" إبان الحكم العثماني، وما تلاه من شروط عشرة وضعها عام 1934، وزير داخلية مصر القِرَبِي باشا، والتي صعَّبت من حرية بناء دور االعبادة للمسيحيين. كما أنه وبتمرير مشروع القانون الجديد؛ توجه الدولة ضربة أخرى لآمال المتطلعين لإقرار مشروع موحد لبناء وترميم دور العبادة، يحقق مبادئ العدالة والمساواة التي ينص عليها الدستور.
يأتي مشروع القانون الحكومي لبناء الكنائس وفقًا للمادة 235 من الدستور، الصادرة تعديلاته عام 2014. ويتضمن المشروع 8 مواد، يضع أولها تعريفًا للمباني الكنسية، وثاني مواده تنص على مراعاة التناسب فيما يتعلق بمساحة الكنيسة المطلوب الترخيص ببنائها، وعدد وحاجة المواطنين المسيحيين في المنطقة.
أما المواد من الثالثة إلى السادسة فتحدد إجراءات وقواعد تقديم الطلبات بترخيص بناء أو هدم وإعادة بناء الكنائس، وكذلك المهلة الممنوحة للبت في الترخيص، التي يشدد القانون على ألا تزيد على أربعة أشهر.
ونصت المادة السابعة على حظر تغيير الغرض من الكنيسة المرخصة، أو ملحق الكنيسة المرخص به إلى أي غرض آخر مغاير لما نص عليه الترخيص. أما المادة الثامنة فتختص بتوفيق وضع الكنائس المقامة بدون ترخيص.
التحركات الحكومية والنيابية التي تتعجل إصدار القانون قبل نهاية الدورة البرلمانية الحالية استجابة للدستور؛ تتزامن مع حملة أطلقتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، الأحد الماضي، تحت شعار "مغلق لدواعٍ أمنية.. من أجل قانون منصف لبناء الكنائس".
تهدف الحملة للتعريف بالمشكلات المرتبطة ببناء الكنائس وترميمها، والتعريف بدور الجهات الإدارية والأمنية في التعامل مع تلك المشكلات. لكن مسؤول برنامج حرية الدين والمعتقد في المبادرة إسحق إبراهيم، لا يبدي تفاؤلًا بحل تلك المشكلات عبر مشروع القانون الحالي الذي وصفه بـ"الملغوم".
يعترض إبراهيم على المبدأ القانوني بتخصيص قانون للكنائس ينفصل عن القوانين واللوائح المنظمة لبناء وترميم المساجد، كما يعترض على وجود قوانين مخصصة لبناء وترميم دور العبادة عمومًا تنفصل عن قوانين البناء العادية المُطبقة على المنشآت الأخرى، لما ينطوي عليه ذلك من "تمييز". ووصف مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد المسودة الأخيرة المتداولة للقانون بأنها "سيئة جدًا، وتعتبر إعادة صناعة لشروط القِرَبِي باشا المطبقة الآن". إذ تسمح -وفقًا لرأيه- بإعطاء مساحة للمسؤولين التنفيذيين للتدخل وعرقلة بناء أو ترميم الكنائس.
وفصّل الباحث الحقوقي لـ "المنصة" ما يراه نقاطًا شائكة، في كون القانون يستلزم الحصول على موافقتين منفصلتين من المحافظ لبناء أو ترميم الكنائس وملحقاتها. أولها؛ قبل بدء إجراءات البناء، وثانيها مع انتهاء البناء وقبل بدء التشغيل، "ما يمنح مساحة للتدخلات الأهلية، وما تجلبه من مشكلات للحيلولة دون بناء الكنائس عبر الخلافات على الأراضي والمشاجرات".
كما يربط مشروع القانون رأي المحافظ وموافقته باستطلاعه لرأي "الجهات المعنية"، دون تحديد ماهية هذه الجهات، هل هي الأمن أم المحليات أم غيرهما؟ ما يفتح الباب للتدخلات الأمنية، التي غالبًا ما تكون ضد بناء الكنيسة، وتستجيب في كثير من الأحيان لاعتراضات المتشددين.
حل "مباركي".. ومواد ملغومة
تفويض المحافظين تفويضًا كاملًا في التحكم في منح تراخيص بناء أو ترميم الكنائس ليس قرارًا جديدًا. فبموجب قانون الحكم المحلي؛ لرئيس الجمهورية أن يفوض المحافظين بما يراه من اختصاصاته. وهو ما فعله الرئيس الأسبق حسني مبارك بموجب القرار الجمهوري رقم 13 لسنة 1998 بتفويض المحافظين ببعض اختصاصاته، والمجدد بالقرار 291 لسنة 2005، الذي فوّض بموجبه المحافظين بممارسة اختصاصات رئيس الجمهورية فيما يتعلق بتراخيص ترميم الكنائس، بينما احتفظ لرئيس الجمهورية لنفسه بقرار بناء الكنائس. وبموجب هذا القرار أيضًا لم تكن موافقة المحافظين وحدها كافية لاستصدار قرارات الترميم، بل كانت تلك القرارات مبنية على موافقات أمنية متعددة، لم يكن استخراجها أمرًا يسيرًا.
ويرى مسؤول برنامج حرية الدين والمعتقد بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن شرط القانون الخاص بربط الموافقة بمدى تناسب مساحة الكنيسة مع عدد السكان واحتياجات المنطقة؛ يعد شرطًا غامضًا، إذ لا يحدد عوامل يمكن بموجبها قياس مدى تناسب مساحة الكنيسة مع عدد السكان؛ الأمر الذي يسمح بمساحة كبيرة جدا للتدخلات الأمنية والإدارية.
ووجد إسحق إبراهيم في المادة الأولى من القانون، وما وضعته من تعريفات مفصّلة للوحدات البنائية داخل الحرم الكنسي، باعتباره يمنح مسؤولي الإدارة المحلية والأمن اختصاصات ليست لديهم بها خبرات ولا معرفة، "مما يفتح الباب لعرقلة التراخيص بسبب تفاصيل مزعجة".
واعتبر الباحث الحقوقي القانون يعج بـ"الألغام" التي قد تتسبب في منع أو عرقلة إنشاء أو ترميم الكنائس، وقال إن العديد من الكنائس حاصل بالفعل على أحكام قضائية بالهدم وإعادة البناء، إلا أن المسؤولين سمحوا بالهدم، ويعطلون إعادة البناء بدعوى "الظروف الأمنية".
وثقّت المبادرة حالات لكنائس حصلت على أحكام قضائية وقرارات إدارية بالترميم أو إعادة البناء لم ينفذ أيها. منها كنيستان في قنا، أظهر فيديو أنتجته المبادرة ومنشور في قناتها على يوتيوب تردّي مبناهما. صدر لواحدة منهما حكم من القضاء الإداري منذ 4 سبتمبر/ أيلول 2005 بإعادة البناء؛ لكن مديرية الأمن لم تُمكِّن المواطنين من تنفيذ القرار "لدواع أمنية". أما الثانية فتعاني انتشار الشروخ في جدرانها، مما يهدد حياة المصلين والمرتادين من 7000 أسرة هم رعايا الكنيسة. وصدرت ثلاثة قرارات بإزالتها آخرها في 6 مايو/ آيار 2015، ولم يوضع أي من تلك القرارات من موضع التنفيذ. كما أن طلبات ترميم الكنيسة، ثم طلبات هدمها والحصول على ترخيص جديد ببنائها، لا تزال في انتظار موافقة المسؤولين منذ أكثر من عشر سنوات.
وتعرض عدد كبير من الكنائس، لهجمات تلت فض اعتصام أنصار الإخوان في ميداني رابعة العدوية ونهضة مصر، ما أسفر عن تضرر 67 كنيسة، وفقًا لما أعلنه عام 2013 رئيس لجنة حصر الكنائس المُضارة، الأنبا بيمن. وقرر وزير الدفاع - في ذلك الوقت- الفريق أول عبد الفتاح السيسي؛ ترميمها على نفقة القوات المُسلحة. وتقدم السيسي بأسفه، خلال زيارته الكنيسة الأرثوذوكسية لتهنئة الأقباط خلال قداس عيد الميلاد، في يناير/ كانون ثان الماضي، عن التأخر في إنجاز ترميمها.
موافقة كنسية متناقضة
أعلن رؤوساء الطوائف المسيحية الثلاث موافقتهم على مسودة القانون المنتظر مناقشتها الاسبوع المقبل. إذ أكد البابا تواضروس، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، أن الكنيسة "راضية تمامًا عنه، ولا تحفظات لديها عليه".
لكن الدكتور إكرام لمعي، المتحدث باسم الكنيسة الإنجيلية، التي وافقت على مشروع القانون أيضًا، قال لـ"المنصة": إن أحد أهم حيثيات الموافقة على مسودة القانون، هو كونه أفضل من شروط القِرَبِي باشا "التي كانت بقيودها لا تسمح ببناء كنيسة إلا في الهواء"، على حد تعبيره.
ويتفق لمعي مع الحقوقي إسحق إبراهيم في عدد من تحفظاته على القانون، ومنها النص على تعريفات للمباني والملحقات داخل الكنائس، وتعليق التراخيص على موافقة "الجهات المختصة"، دون أن يحدد القانون إن كانت هندسية أو أمنية. ووصف لمعي الأمر بأنه "تعقيد كبير"، موضحًا أن القانون لم يتفادى الاعتراضات الكنسية السابقة المتعلقة باستخدام مصطلح "الجهات المعنية" التي تشير إلى الأمن، وجرى استبدالها بمصطلح "الجهات المختصة"، والتي تصلح أيضًا لأن تشير إلى الأمن.
ومن بين المواد المقلقة في القانون بالنسبة للقس الإنجيلي؛ الحديث عن نسبة السكان التي يلزم وجودها للحصول على موافقة ببناء كنيسة. معربًا عن أمله في أن تفسّر اللائحة التنفيذية للقانون، هذه "الأمور المقلقة"، وعلى رأسها "الجهات المختصة"، التي يرى أنها يجب أن تكون هندسية فقط.
وأد "دور العبادة الموحد"
قبل وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، كان مطلب إصدر قانون موحد لتنظيم بناء وترميم دور العبادة مطلبًا متكررًا، يتعالى إيقاعه كلما طرأ بالبلاد اعتداء طائفي على غير المسلمين السنة، لإقامتهم شعائرهم الدينية في غير دور العبادة، أو كلما حاول مسيحيون مصريون بناء أو ترميم كنيسة.
صدور قانون موحد لشؤون بناء وترميم دور العبادة، يراه سياسيون وحقوقيون منهم المحسوبون على الدولة؛ خطوة ضرورية، لتنظيم عمليات بناء الكنائس والمساجد والسيطرة عليها.
أقدم التوصيات الموثقة بصدور القانون الموحد لبناء وترميم دور العبادة، كان في تقرير لجنة تقصي الحقائق في "أحداث الخانكة" 1972، برئاسة رئيس مجلس الشعب وقتها جمال العطيفي.
وقدمت المسودة الأولى للقانون لمجلس الشعب في 2005، وقدمها المستشار محمد جويلي رئيس لجنة المقترحات والشكاوى بمجلس الشعب، ووافقت عليه اللجنة بالإجماع وأحالته للمناقشة لكنه لم يصدر لانتهاء الدورة البرلمانية دون عرضه للمناقشة. ظل المستشار الجويلي يتقدم بالمسودة للمجلس في كل دور انعقاد برلماني حتى الدورة البرلمانية في 2010، والتي صرح خلالها عضو مجلس الشورى المعين، والمستشار السياسي لرئيس الجمهورية -وقتها- مصطفى الفقي: أن القانون لن يصدر "لأسباب إجرائية".
لم تكن مسودة المستشار الجويلي هي الوحيدة لهذا القانون. فتقدم المجلس القومي لحقوق الإنسان عام 2007 بمسودة أخرى لللقانون، ثم توالت المسودات بعد ثورة 25 يناير إثر اندلاع اعتداءات طائفية، كان منها التعدي على كنيسة الماريناب بأسوان، والتي كانت بذرة أحداث ماسبيرو، التي وقع خلالها عشرات الضحايا بين قتيل ومصاب، معظمهم من المسيحيين وبعض المسلمين الذين تضامنوا معهم في مسيرتهم للمطالبة بتحكيم القانون في الاعتداءات على الأقباط، وإقرار قانون دور العبادة الموحد.
وبعد الثورة كانت الاعتراضات على القانون تجري بلا مواربة. وظهر أول تلك الاعتراضات من مجمع البحوث الإسلامية عام 2011، حيث أعلن في جلسة طارئة عقدها بعد أيام من "مذبحة ماسبيرو" برئاسة أحمد الطيب، شيخ الأزهر، رفضه لقانون دور العبادة الموحد، كما رفضه بيت العائلة المصرية الذي ترأسه أحمد الطيب أيضًا، والأخير تَشَكَّل بقرار من عصام شرف رئيس مجلس الوزراء وقتها.
يعلِّق إسحق إبراهيم: أن اليد العليا كانت للفريق الرافض للقانون الموحد لدور العبادة، حتى بعد رحيل حكم الإخوان المسلمين. ما أدى لاستمرار قانون تنظيم بناء المساجد الصادر في 2001، والمطالبة باستصدار قانون آخر خاص بالكنائس للتفرقة بينهما.
ويُفرّق إسحق بين القانونين مفسرًا: قانون المساجد يُنظم شروطها البنائية، ويمنح حق الإشراف على إدارتها لوزارة الأوقاف. بينما قانون الكنائس يتعامل مع منح ترخيص التشغيل ومزاولة النشاط، أي أنه يمنح الكنائس حق الوجود أو يحرمها منه، ولا يكتفي بتنظيم عملها كما يفعل قانون المساجد.
وأوضح الباحث الحقوقي أن الترخيصين المطلوبين لبناء الكنائس محاطان بعراقيل عديدة، قائلاً: يشترط مثلاً لإعطاء ترخيص بالبناء؛ ألا تكون الأرض زراعية، وأن تكون مُسجلة. وهو ما يصعب تحقيقه في محافظات عديدة تكون فيها الأرض بعقود عرفية أو حيازة بالوراثة. كما يتعلق الترخيص الثاني بمزاولة النشاط، وهو ما علّق عليه بالقول "لو صح وجود رغبة في المساواة بين دور العبادة، لألغيت مسألة منح ترخيص للكنائس بمزاولة النشاط"، وهو ما لا يطلبه القانون من المساجد.
واتفق "لمعي" صراحة مع "إبراهيم" في وجهة النظر هذه، بقوله: من الأفضل أن يكون القانون خاصًا بدور العبادة عامة، "وإن كان الأفضل على الإطلاق هو إخضاع المساجد والكنائس لقانون بناء طبيعي، كالذي ينطبق على أي مبنى وفقًا لأصول هندسية، لا تتعلق بطبيعته أو نشاطه، كما يحدث مع الأندية والملاهي الليلية، دون النظر لطبيعة أو نشاط المبنى، اتساقًا مع أسس الدولة المدنية الحديثة". معتبرًا أي شئ آخر يحدد شؤون دور العبادة المسيحية أو الإسلامية، هو محاولة لوضع محاذير شكلية أو موضوعية لممارسة حرية العبادة.