بعد دخوله في غيبوبة، كان الموت متوقعًا بين لحظة وأخرى، لكن لحظة الإعلان عن وفاة المحقق الصحفي الموهوب محمد أبو الغيط صباح الخامس من هذا الشهر بدت مفاجئة تمامًا.
وككل شيء يحدث الآن في بلد مقسوم على نفسه، كان لذلك الرحيل وجهان. أولهما وجه الفاجعة لدى دائرة كبيرة من الأصدقاء عرفوا عن قرب الطبيب الشاب الذي عشق الكتابة ورفيق ثورة يناير المغدورة. وبالإضافة إلى هؤلاء، عدد ضخم ممن أحبوه واحترموا عطاءه النزيه، وأنا من بين هذا العدد الضخم. وتجلى ذلك الوجه في النعوات الكثيرة جدًا التي كتبت في كل المساحات المحررة الممكنة من الميديا القديمة والجديدة.
الوجه الآخر لذلك الموت الفاجع كان المفاجأة والحسد اللذان أصابا العبيد الطوعيين واللجان الإلكترونية. ظهرت ترجمة تلك العداوة البغيضة في ردود تهوِّن من شأن موت شاب موهوب في عمر الزهر:
من هو محمد أبو الغيط الذي تقيمون عليه هذه المناحة؟ للسخرية، فإن من يطرح ذلك السؤال في العادة شخص لا وجود ولا كيان له. الأشنع أن هناك من أجاد أكثر، فتقدم بالعزاء للجماعات الإرهابية في موت فقيدها.
رحلة المرض الوحِش
لا يذكرنا ذلك الغِل الحسود إلا بحسد الكاتب الروائي ـ الطبيب أيضًا ـ أحمد خالد توفيق على موته في الثاني من أبريل/ نيسان عام 2018.
هناك فروق بين الموتين؛ فقد مات أحمد خالد توفيق فجأة في بيته بطنطا، وبدا أن النظام لم يكن يدري بحجم شعبيته، ورغم أنه لم يكن داعية سياسيًّا فإن اللسان الأمني الذي نطق بالمفاجأة والخوف من شهرته كان يقول: ماذا لو كان سياسيًّا؟ ماذا لو كان حرَّك كل هذا العدد من المحبين؟ لماذا لم نكن نعرف به؟
محمد أبو الغيط كاتب صحفي، رحل في لندن بعد أن حدَّق طويلًا في وجه السرطان الذي نخشى الاقتراب من اسمه فنسميه "المرض الوِحِش". والأمانة تقتضي أن نقول إنه مات منفيًّا. ونسأل الله أن يمد في أعمار ومواهب شباب آخرين غيره تخصصوا في الصحافة الاستقصائية ولم يحتملهم الوضع الحالي فأقيلوا من صحفهم وهربوا بجلودهم.
كتب أحمد خالد توفيق روايات واسعة الانتشار وجدت حشدًا كبيرًا من المراهقين والشباب، لكنه لم يعرف مسبقًا بلحظة رحيله، فلم يكتب الموت. لكن محمد أبو الغيط كان يعرف، فكتب نصوصًا شفيفة، صدرت قبل رحيله في كتاب أنا قادم أيها الضوء عن دار الشروق، التي أعلنت التنازل عن حقوقها المادية بالكتاب لصالح أسرته.
أضاف أبو الغيط نصًا جديدًا من نصوص المرض الوِحِش، نذكر منها في الشعر أوراق الغرفة 8، ديوان أمل دنقل الأخير الذي يكاد يضيء من فرط شفافيته، ويوميات المرض الموجعة لسعد الله ونوس رحلة في مجاهل موت عابر.
بحكم محدودية عمر الإنسان، كلنا زائلون. لكن هذه الحقيقة البسيطة لا تحتاج إلى أية شجاعة لمواجهتها بسبب خفاء اليوم، بل إنها لا تمنع ظالمًا من الظلم. معرفة التوقيت هي التي تحتاج إلى جسارة أبطال القتال المتلاحم. ويقاس الوقت في المرض الوحش بالأشهر القليلة، وأحيانًا بالأيام.
وأسوأ ما في ذلك الموت أنه لا يأتي دفعة واحدة، بل يشهد المريض تداعي جسده وانهياره. يكتب سعد الله ونوس عن إحساسه بالاستباحة في ضعفه الذي يجعل أخص خصوصياته بين أيدي الآخرين. ينكر وجود النور في آخر النفق المظلم الذي يقول كثير ممن كتبوا تجارب اقترابهم من الموت أنهم يرونه "لم تكن هناك أنفاق تشعشع في نهاياتها أضواء سماوية، ولم تكن هناك مروج خضراء، بل حلكة وفراغ".
يصعب تصنيف الكتاب متعدد الهويات الذي يتنقل بعذوبة بين يوميات المرض والتأملات الفكرية والذكريات الشخصية والمهنية والاستشهاد بكتابات آمن بحكمتها وأخرى أحبها
كذرة غبار
محمد أبو الغيط بدوره عاش اللحظة مرارًا في عامه الأخير، وحاول أن يفسر ما رواه السابقون عن لحظة الاقتراب من الموت وما يكتنفها من سعادة غامرة أو فزع رهيب، متنقلًا بين العلم وتصورات الفن والصورة المتواترة في الثقافات المختلفة.
تختلف الأبحاث العلمية في تفسير الظاهرة؛ البعض يرجعها إلى إفراز الإندروفينات في المخ، كرد فعل على خطر حرمانه من الأكسجين، وبعض الأبحاث رصدت موجات دماغية تشبه أنماط الحلم، بينما يضع الفن تصوراته المختلفة، لكنه دخل النفق وخرج منه ليرى الضوء يقظة لا منامًا. رآه في نظرة زوجته إسراء "ضوء جمال الجوهر الإنساني" بعد أن صارحته طبيبة أمريكية في فبراير/ شباط الماضي بأن ما تبقى له من الحياة أقل من العام.
جمال الجوهر الإنساني، هو ما تعلَّم أبو الغيط أن يبحث عنه ويراه، بعد رحلة في الوعي "في الماضي، كنت أعتقد أنني - في مصر - أعيش بأعظم بلد في الكون، وكوني مسلمًا متدينًا يعني فوريًا أني وأمثالي أفضل من كل البشر بمن فيهم باقي المسلمين. ثم عرفت أن جوهر الإنسان هو الأصل، وأن ما سوى ذلك كله ليس إلا أغطية يستخدمها لينشر ما بداخله من ضوء أو ظلام".
يتساءل أبو الغيط بداية "لماذا أكتب؟" السؤال الذي يطرحه على أنفسهم كل من يمارسون ذلك النشاط، يصبح جزءًا من إرادة قهر العدم لدى من حددت نهايته بالأيام "أعرف أني مهما عشت فإن حياتي، والعالم كله، كذرة غبار لا تُرى على شاطئ ذلك الكون الفسيح. لكن الكتابة قد تجعل ذرتي ألمع بين باقي الذرات على الأقل. هذه صيحتي: محمد أبو الغيط مر من هنا".
يصعب تصنيف الكتاب متعدد الهويات الذي يتنقل بعذوبة بين يوميات المرض والتأملات الفكرية والذكريات الشخصية والمهنية والاستشهاد بكتابات آمن بحكمتها وأخرى أحبها، وبينها ما ينتمي إلى شفافية كتابة الاقتراب من الموت، مثل كتاب سأكون بين اللوز للروائي حسين البرغوثي، ورأى أبو الغيط كم يمثله هذا الكتاب، بما فيه اندلاع شغفه الزراعي.
هذا الشغف، سيواجهه ما يجري من مذابح لأشجار الشوارع في مصر، مما لم يعد أبو الغيط قادرًا على متابعته من بعيد عبر الصور التي ينشرها الأفراد وصفحات المجموعات المدافعة عن الأشجار على فيسبوك. إنها "إرادة النسيان" التي يتسلح بها أبو الغيط كذلك في مواجهة انهيارات الجسد.
ذاكرة الربيع
النسيان صديق في مواجهة الموت الشخصي، لكنه ليس كذلك فيما يخص الذاكرة العامة. بعد سحق ربيع براغ نصَّب الاتحاد السوفيتي رئيسًا جديدًا لتشيكوسلوفاكيا عام 1969 أسماه كونديرا "رئيس النسيان"، أطلق حملة تضمنت طرد 145 مؤرخًا وهدم التماثيل المرتبطة بأية ذكرى لا ترغب بها السلطة. ولم يكن أحد يتصور أن الاتحاد السوفيتي سينهار عام 1991 ويعود الربيع في شكل عاصفة.
ويريد أبو الغيط أن ينسى ذاكرته الشخصية وأن تبقى ذاكرة ربيعنا حية. من يريد هذه الذاكرة الحية هو ذاته الذي لم يعد يؤمن بقداسة مفاهيم مغلقة مثل "الشعب"، وهو نفسه الذي سيختنق بالبكاء بينما يوجه كلمة للمجتمعين احتفالًا بفوزه بجائزة محمد حسنين هيكل في القاهرة.
طاقة النور بالكتاب تقاوم طاقة العتمة المتمثلة في الألم. والألم برأي أبو الغيط ليس شعورًا نبيلًا، ليس تطهيرًا ولا يستحق احتفاء الأشعار والأغاني.
الكتاب مليء بالتفاصيل المؤلمة التي تصاحب الوهن وانهيار عزيمة الأطباء ونبوءاتهم المؤلمة، لكن هناك طاقات النور ظلت تقاوم حتى النهاية: طاقة الحب، طاقة الرحمة، وطاقة الأمل.
حافظ المريض على بسالته، عاش لحظات من الأمل بعلاج يظهر فجأة وبسرعة، وهو ممكن نظريًّا، رغم أنه لم يزل في باب "أحلام العلم". وعندما لم يعد من مفر، كان أمل الخروج إلى النهار في شكل ما من أشكال الوجود يعود فيها ليطل على ابنه الصغير، في شكل نسمة هواء، قطرة ندى، أو في أي شكل من أشكال طاقة الحب في الكون الفسيح.