ترجمة عن: ذا ديلي بيست
أنا معجب مخلص بالروائية إيلينا فيرانتي، ولكن لا يمكنني مجاراة زوجتي، التي تقرأ حاليًا الرواية السادسة لفيرانتي وتصبو لقراءة المزيد. بالطبع نحن لسنا وحيدين في حماسنا، ففيرانتي تعتبر فائقة الانتشار ultra-trendy في الوقت الحالي، وبرزت كمرشحة إيطاليا الأولى لجائزة نوبل في الأدب. غير أن هناك مشكلة صغيرة؛ أنها [فيرانتي] على الأرجح لن تظهر لقبول جائزة نوبل. في الحقيقة، القُرَّاء ليست لديهم فكرة عن حقيقة إيلينا فيرانتي أصلاً. "فيرانتي" ليس اسمها الحقيقي، والكاتبة ربما لا تكون امرأة من الأساس. تناقلت الألسنة نظريات عديدة حول هوية الكاتبة؛ لكن الشيء الوحيد الذي سيقر به ناشرها: هو أنها "وُلدت في نابولي".
وبنفس الطريقة، يستحق ساتوشي ناكاموتو جائزة نوبل في الاقتصاد لاختراعه بيتكوين bitcoin، العملة المشفّرة التي تغير عالم التمويل الدولي. ولكن هناك مشكلة هنا أيضًا: لا أحد يعرف هوية ناكاموتو الحقيقة. ظهر عدد من المرشحين منهم الأسترالي كريج رايت الذي حاول مؤخرًا أن يعلن كونه صاحب الفضل في ظهور البيتكوين، ولكن العديد من الخبراء شككوا في ادعائه. خلاصة القول: إن المبتكر الرائد في الشؤون المالية هو رجل غامض، وربما لن نعرف هويته الحقيقة أبدًا.
بانكسي هو فنان الشارع الأشهر في العالم. كل عمل جديد له يشعل اهتمام وسائل الإعلام، وتقدر القيمة الصافية لأعماله بأكثر من 20 مليون دولار. ولكن لا تتوقع أن ترى بانكسي في الأماكن العامة، فالهوية الحقيقية للرسام تغلِّفها السرّية. يعتقد كثيرون أن روبن جونينهام هو بانكسي الحقيقي، ولكن آخرين يؤكدون أن امرأة، أو فريقًا من الأشخاص هم من يقفون وراء الأعمال المنسوبة جميعها لهذا الفنان.
أهلاً بكم في العالم الغريب لشهرة العصر الحديث، عندما يساعدك أن تكون "لا أحد" على أن تصبح "شخص مهم"!
بشكا ما؛ نحن نعود إلى قواعد العصور الوسطى، حيث قدم مبتكرون مجهولون أهم الأعمال في الفن والتكنولوجيا. ولكن هناك اختلاف يجري في الوقت الحاضر: فنانو اليوم الغامضون يُصقلون هالتهم بالسرّية، فهم يفضّلون الغموض على عطايا النجومية.
اللعبة نفسها أكثر صعوبة بالنسبة للموسيقيين. ففي النهاية، هم يحتاجون للوقوف على خشبة المسرح في حفلاتهم. ولكن حتى هنا تظل جاذبية التخفي أوضح. عشرات من الموسيقيين والدي جي، بدءً من دافت بانك Daft Punk حتى ديد ماو فايف deadmau5، يرتدون أقنعة أو خوذات قبل الظهور إلى الناس.
منذ جيل مضى، وحدهم سارقو البنوك وحفنة من لاعبي المصارعة في العروض المتلفزة ارتدوا الأقنعة كي يؤدوا أعمالهم. لكن الآن؛ يستتر النجوم خلف أغطية عديدة وكأنها التقليعة الجديدة في اكسسوارات موضة النجومية. في معظم الحالات، تكون هوية هؤلاء الموسيقيين معروفة للمعجبين، ولكن يحاول الفنانون أن تصبح هوياتهم جزءًا من تركيبة "البيرسونا" أي الهوية الجماهيرية المختلقة- المُقَنَعة. وبمعنى حقيقي للغاية: هم يتحولون إلى صورهم التي خلقوها لأنفسهم.
جميعنا على ألفة مع اعتكافات المشاهير، ولكن هذه اللعبة لها قواعد مختلفة عمّا تمارسه السلالة الجديدة من الفنانين المجهولين. "أريد أن أكون وحدي"، تعلن جريتا جاربو في جملة متكررة من فيلم "جراند أوتيل" (1932). عاشت جاربو حياتها الخاصة وفقًا لهذا التأكيد المتكرر، تقاعدت في سن الخامسة والثلاثين وثابرت على تجنب الظهور العلني في السنوات اللاحقة. بشكل استعادي، يمكننا أن نرى تخلّيها عن الأضواء باعتباره البادرة الأولى لنوع جديد من الشهرة، شهرة تتضخم بتجنب أعين الجمهور. ولكن جاربو لم تشته "المجهولية" anonymity، ولكن الخصوصية بكل بساطة.
على مدى نصف القرن التالي، فنانون ومبدعون آخرون ساروا على خطاها مثل: "جيه. دي. سالينجر"، توماس بينشون، هوارد هيوز، سلاي ستون، جلين جولد، تيرانس ماليك، هاربر لي، وآخرين لعبوا هذه اللعبة حدّ الكمال. ليس فقط بالبقاء بعيدًا عن الأضواء، ولكن في بعض الحالات؛ حتى صورهم لم تكن متاحة. ولكن حتى هؤلاء المشاهير المعتكفون لا يزالون يتمتعون بمزايا الشهرة الشخصية. ربما قد يكونوا ابتعدوا عن الأضواء؛ ولكنهم لم يفكروا أبدا في تغيير أسمائهم أو إنكار المسؤولية عن أعمالهم.
الفنانون الجدد الذين اختاروا المجهولية، يزدرون مثل هذه المعايير النصفية. إنهم لا يريدون الاختباء؛ بل يفضلون أن يختفوا تمامًا.
لدينا أمثلة قليلة لفنانين هوياتهم الحقيقية غير معروفة ظهروا خلال القرن العشرين: منهم بي ترافين، مؤلف رواية "كنز سييرا مادري"، التي بيع منها 25 مليون نسخة مع الحفاظ على السرية الكاملة المحيطة بهوية مؤلفها. عازف الجيتار كيد بايلي ترك وراءه بعضًا من التسجيلات الكلاسيكية لموسيقى البلوز، ولكن اسمه الحقيقي ظل لغزًا. ولكن هذه الحالات ظلت نادرة، وبحثي في حالة بايلي؛ يشير إلى أن الدافع للبقاء بعيدًا عن الأضواء في "زمن جاربو" يعود إلى تفاصيل حرجة ومربكة في حياة الفنان الخاصة.
حين تعقبتُ عازف الترومبيت المُلغز (الغامض) دوبري بولتون في الثمانينيات، وحصلت على أول مقابلة مع الموسيقار الذي استعصى على جميع الباحثين لعقود، اعترف أنه اختبأ عن الأنظار بسبب الخزي من سجله الجنائي (في تهم تتعلّق بالمخدرات). في حالة كُتَّاب السيناريو في قائمة هوليوود السوداء[1] بقوا هم أيضًا في الظلّ، ولكن؛ مرة أخرى، لأسباب إجرائية، فقد أرادوا الشهرة، ولكنهم أُجبروا على التخلي عنها.
في حالات مثل فيرانتي وناكاموتو الأمر يختلف تمامًا؛ ففي ظني هم يمجدون هوياتهم المخفاة. بالتأكيد معجبوهم يقومون بذلك.
لماذا يحدث هذا في هذه المرحلة من التاريخ؟ الفنانون وبناة الإمبراطورية من الأجيال السالفة دائما ما اشتهوا الشهرة. وكرّسوا حياتهم المهنية بأكملها لرعايتها، وحزنوا لخسارتها كما لو كانت قرينًا للموت. بالتأكيد لا يزال لدينا أشخاص يفكرون بذات الطريقة. لننظر إلى دونالد ترامب، الذي يضع اسمه على كلّ شيء: برج، كازينو، جامعة، لعبة لوحية، كولونيا، وهلم جرًا. ولكن في الألفية الجديدة، مثل هذا الترويج الوقح للذات يفقد بريقه على نحو متزايد.
المبتكرون المجهولون يُثَبِّتون في عقولنا صورة محددة عن أنفسهم كأناس "كوول" جذابين، و"هيبيين" غير مبالين بقواعد المجتمع القديمة، وربما حتى هم أكثر جدارة بالثقة. في النهاية هم لا يستفيدون كثيرًا من لعبة الشهرة. إنهم يعيشون حيوات عادية، دون أن يلاحظهم أحد عندما يخرجون في الأماكن العامة، ولا يختلفون كثيرًا عن الشخص العادي. لذا ربما نراهم أكثر واقعية، وهذا خاطر مثير للسخرية نظرًا لغيابهم التام عن المشهد، (ما يجعلهم مفارقين للواقع).
ولكن دعوني أقترح ثلاثة أسباب أخرى وراء تحوُّل المجهولية إلى رمز للوضع الجديد:
أولاً، تحقيق الانجازات أمر صعب للغاية في الوقت الحاضر. هناك مجموعة كبيرة من التقنيات تراقب أنشطتنا على مدار الساعة. تبدو الحكومات والشركات وكأن هناك سباق بينهم على تخزين أكبر قدر من المعلومات عن أكبر قدر من البشر. نظرًا لهذا الوضع، بالكاد يمكنني الاندهاش من أن الكثير منا يدخلون في أحلام يقظة حول المجهولية بنفس الطريقة التي اشتهت بها الأجيال السابقة الشهرة.
في ظل هذا السيناريو، فنانون مثل بانكسي أو إيلينا فيرانتي يعيشون الحلم. تمكنوا بطريقة أو بأخرى من تجنب المراقبة المستمرة، التي يتحملها بقيتنا كأمر واقع.
تزايد استخدام الصور غير الحقيقية المعبرة عن الذوات avatars في مملكة الديجيتال؛ قد يكون سببًا آخر لهذه السلالة الجديدة من المشاهير. من هذا المنظور، فإن المشاهير المجهولين لا يختلفون عن ملايين من البشر الذين يحافظون على سرية هويتهم على تويتر أو المنصات الرقمية الأخرى. يصبح التجسد/الصورة الرمزية بمثابة العلامة المعتمدة الأكثر قوة - والأكثر سهولة في تعديلها، لتحقيق توقعات الجماهير، الصورة التي يتخفى وراءها الفنان محب المجهولية، أكثر قابلية للتعديل من الأناس المُملّين ذوي اللحم والدم.
لكن هناك تفسير آخر محتمل، ربما كان الأكثر تشجيعا بين التفسيرات الأخرى جميعًا؛ من الممكن أن الجماهير تعبوا من ثقافة النرجسية الشديدة لدى المشاهير في الألفية الجديدة. بعد رؤية آلاف من صور السيلفي لكيم كاردشيان والاستماع إلى ألف مغني راب متباه،ٍ ومشاهدة ألف إعلان تلفزيوني يقدمها ذات النجوم الخمسة في دوري كرة السلة الأمريكية للمحترفين.. حسنًا، ألن تشتهي شيئًا أقل تنميقًا وأقل اعتمادًا على الفخر بالنفس؟
أظهرت دراسة حديثة لجامعة ميشيجان أن أغاني البوب في وقتنا الحاضر تمتلئ بشكل متزايد بالتباهي والتمركز حول الذات. مقارنة مع العصور السابقة، نجد أغاني من العقد الحالي "أكثر عرضة لأن تحتوى على المغني مشيرًا إلى نفسه باسمها، وترويجًا ذاتيًا بشكل عام، ومفاخرة بالثروة، ومظهر الشريك، أو القدرة الجنسية". في زمن سابق، اقتصرت تلك النغمة التي لا تحيد عن اعتماد ذات المتكلم كمرجعية على أغاني الراب، ولكن في الوقت الحاضر فقد انتشرت إلى أنواع أخرى من الموسيقى الجماهيرية.
تعليقًا على مثل تلك المشاهدات، يقول لنا الخبراء أننا نعيش في عصر النرجسية. ولكنهم ربما ينظرون إلى القضية لا التأثير. العديد من المعجبين مشبعين بثقافة الشهرة، خاصة في عصر "التغطية على مدار اليوم" الذي نحياه، وقد وصلوا بالفعل إلى نقطة الإجهاد والمقاومة. استعدادهم لاحتضان هؤلاء الفنانين المجهولين ربما يكون رد فعل ضد تسونامي من صور السيلفي وإشاعات موقع TMZ وتحديثات انستجرام.
وأيًا كانت الأسباب وراء ذلك، فأنا أرحب بهذه الطائفة الجديدة من محبي المجهولية. في عصر تمت فيه إزاحة التعاطي مع الأعمال الفنية لصالح النميمة عن الفنانين المشاهير، يجبرنا المبتكرون المجهولون على إعادة التحديق في المنتج الإبداعي. لا يمكن أن يكون هذا أمرًا سيئًا، وسنكون مخطئين إذا اعتبرنا هذا مجرد تريند trend أو موضة عابرة. ربما يجب علينا الاعتصام بذات الطريقة من التفكّر في الفن حتى عندما نعرف هوية الفنان.
- القائمة السوداء لكتاب هوليود: قائمة أعدت في الحقبة المكارثية لكتاب اتهموا بالإيمان بالمبادئ الشيوعية، وبأنهم أعداء للولايات المتحدة الأمريكية، وأعدت تلك القائمة لمنع استديوهات هوليوود من التعامل معاهم والتضييق عليهم في أرزاقهم، ولجأ هؤلاء الكتاب لبيع سيناريوهاتهم لهوليوود عبر أسماء مختلقة، أو باستعارة أسماء كتاب آخرين.