تصميم: يوسف أيمن- المنصة

أحلم بالخروج دون وشاحي

عن الكلفة النفسية والاقتصادية للنجاة من مجتمع يحاصرنا

منشور الأربعاء 14 ديسمبر 2022

أنتهي من ارتداء ملابسي وتجهيز حقيبتي، وأنظر في المرآة، لأتأكد أن لا شيء في مظهري يستجلب الخطر؛ ملابس مغلقة، ثياب تحتية محكمة تكبح أي حركة للجسم، وأخيرًا، على باب شقتي، أتناول الوشاح المعلق على المقبض، وألفه حولي بإحكام. هكذا أصبح جاهزة لمواجهة الشارع.

الوشاح جزءُ لا يتجزأ من ملابسي، صيفًا وشتاءً، دائمًا يلتف حول عنقي وينزلق على اتساعه ليخفي صدري، تعلمت ذلك من صديقتي في الجامعة، التي أخبرتني أنه مهما اتسعت ملابسنا، فلا بد من وشاح وإلا ما عدنا إلى البيت سالمات.

كان ذلك في عز سنوات الدم والنار، التي عشناها عقب ثورة يناير والانفلات الأمني المرعب، وتجرؤ المتحرشين علينا بالكلام واللمس، ومزاحمة الرجال لنا في عربات المترو المخصصة للسيدات، وكنت قد سأمت الشعور بأني طريدة يتربص بها كل وغد أمر به في الشارع، وسأمت أكثر الرجال الذين أتكلم معهم في أي سياق، لأجد أعينهم تخاطب صدري. ارتديت الوشاح كصديقتي، ولم أخلعه منذ ذلك الحين.

أنا، وجميع صديقاتي، وكل امرأة أخرى تعيش في مصر، لدينا استراتيجياتنا ودروعنا لتخطي أخطار الشارع، أو في أسوأ الأحوال، ندّبها في أعين من يلومنا عندما نتعرض لاعتداء، ولا تحيا أي واحدة منّا دون تلك الدرع الحامية، أقول "تحيا" على سبيل المجاز، لأن ما نختبره لا يمت للحياة الحقيقية بصلة.

تلك النظرة الفاحصة

النظرات جزء لا يتجزأ من حياتنا في مصر، فموروثنا الثقافي زاخر بها كأنها أكثر الأشياء طبيعيةً في العالم، فيحذرنا من "عضة أسد ولا نظرة حسد"، ويغرس فينا أنها حق أصيل للناس تجب طاعته "كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس"، كما تقتحم تلك النظرة أخص خصوصياتنا لتنتقد اختياراتنا حتى لشركاء حياتنا.

في حياتنا كنساء، يصبح الأمر أسوأ، باعتبارنا الحلقة الأضعف التي يستقوى عليها الجميع، فتتحول تلك النظرات إلى رصاصات، تلاحقنا أينما ذهبنا، فنرتب حياتنا بعناية لنتفاداها، وإلا كان الثمن باهظًا من أمننا وسمعتنا، وفرصنا في الحياة والعمل.

الحياة مشدودة الأعصاب هي الوضع الافتراضي لنا كنساء

أولى تلك النظرات توجه إلينا بغرض جنسي بحت، تفصص ما نرتديه، وتقيّمنا على أساس ما نظهره من جاذبية، وتقرر، بمنتهى العشوائية، ووفقًا لثقافة ورؤية ونية كل شخصٍ على حدة، ما إذا كنا نستحق الاحترام والسلامة، أم حلالٌ فينا الأذى.

تحمل هذه النظرة خطرًا لا يعرفه الرجال، فالسلوك الإنساني البسيط في التأنق والتجمّل يترجمه المتحرشون إلى "هي عايزة تتعاكس". تصرفات كالضحك بصوتٍ عالٍ، أو الشتائم، أو التدخين، التي لا تلفت الانتباه إذا فعلها رجل، تصبح جريمة شرف إذا فعلتها امرأة، وتُعرضها للنبذ الاجتماعي باعتبارها فاسدة ومنحلة. حرية خلع الحجاب وارتداء ملابس لا تعجب الأسرة قد تعرضنا للضرب والعنف الأسري "لتقويم" أخلاقنا، ونجاحنا المهني كثيرًا ما يتبعه تشكك في جدارتنا به، فنصبح منبوذات مُبعدات.

هذه الأحكام التي تطاردنا بها نظرات الناس تصوغ حياة النساء بلا رحمة، فأكثرهن يحنين رؤوسهن للعاصفة ويتبعن القطيع لتفادي الخطر والنبذ، ويعشن مقيّدات بتوقعات المجتمع وما فرضه عليهن في مقابل بعض الأمان والقبول.

أمَّا اللواتي لا يهتممن بالكود الاجتماعي المفروض، وينتزعن حريتهن انتزاعًا، مؤمنات أن الصدام هو الحل الوحيد أحيانًا، فلا يمكن إنكار أن نظرات الناس تتدخل في حياتهن أيضًا، على الأقل تجبرهن على ترتيبات مختلفة للنجاة من مجتمعنا العدواني بأقل قدرٍ من المضايقات.

هكذا تنزوي ملابسنا الجذابة والمثيرة بعيدًا، ونخرج بأخشن مظهر في حياتنا اليومية لنتفادى التحرش، وحين نستمتع بفستان جميل نخرج تحت حراسة صديق، أو في سيارة تنقلنا من الباب إلى الباب.

تمتد الاحترازات إلى تجنب الخروج لمناطق بعينها، مثل الأحياء الشعبية أو المناطق البعيدة، ونتجنب الخروج في أوقاتٍ بعينها، كالأعياد ومواسم الازدحام، ودائمًا ما نُبقي مسافة بيننا وبين المحيطين تحسبًا للغدر، ومهما طالت مدة سفرنا فلا ننام في المواصلات.

في العمل نراعي كلماتنا بطريقة موسوسة، كي لا يُساء فهمنا بشكل يؤثر على سمعتنا المهنية، ونفصل دوائر الأصحاب عن الزملاء، لننجو بمساحة آمنة نعيش فيها على طبيعتنا.

هذه الحياة مشدودة الأعصاب هي الوضع الافتراضي لنا كنساء.. نحيا طوال الوقت تحت عيون الناس، وأينما ذهبنا يلازمنا إحساس ثقيل بأننا تحت المراقبة.

أتذكر أنه في زيارتي الأولى إلى مدينة دهب، كنت مفتونة بفكرة الخروج دون إجراءاتي الأمنية المعتادة، فقط أستيقظ وأرتدي ما أحب، وأفتح الباب، وفي الشارع يفتنني إحساس آخر أكثر عذوبة هو الاختفاء؛ إحساسي بأني تفصيلة لا تثير الانتباه. شعرتُ أنني في عالمٍ خيالي آمن للنساء، ولاحظت أن المصريات هناك أجمل من الأجنبيات بمراحل، فقد انتهزن الفرصة ليرتدين ما شئن بمنتهى الحرية، وبدت كل واحدة كما لو كانت تعوّض ما فاتها، فكانت مسابقة ملكات جمال من نوعٍ خاص.. منحهن الأمان فتنة لا تضاهي، كأنهن يطرن في مشيتهن ولا يلمسن الأرض. مشهد لم أره قط في القاهرة.

لكن هنا، فلا أمان ولا جاذبية، والخوف يثقل خطواتنا في أبسط مشوار، ولا يتوقف أحد أبدًا لينتبه كم تكلفنا نظرات الناس.

لو كان لديَّ الراتب الكبير، والبيت الآمن في أرقى الأحياء، والمواصلات الخاصة، فهل هذه حياة آمنة فعلاً؟ أم أنها دفن للرأس في جيتو كبير؟

بكم نشتري طاقية الإخفاء؟

الأمان هو الشعور الأكثر أهمية للنساء، وفي مجتمعٍ لا يقيم وزنًا لمشاعرنا وحقوقنا وحتى دمنا، يكلفنا الإحساس بالأمان الكثير، ويضع علينا أيضًا عبئًا اقتصاديًّا كبيرًا.

أصطدم بمعضلة الأمان في أقسى صورها في كل مرة أبحث عن سكنٍ جديد، بداية من البحث عن مؤجر يقبل تسكين امرأة وحدها، وسط الإعلانات التي تشترط "للعائلات فقط"، أو "للموظفين الذكور فقط"، مع الحرص على ألا يكون المؤجر نفسه مصدرًا للخطر والمضايقة.

بعد ذلك تبدأ مغامرة اختيار شارع آمن، ومبنى آمن، قريب من المواصلات، مع جيران هادئين يُبقون فضولهم لأنفسهم. كل تلك المعايير تترجم إلى تكلفة إضافية، مقارنة بما يدفعه أصدقائي الرجال في سكنهم، الذين يستأجرون أي مكان يناسب ميزانيتهم، ولا يهددهم العيش وحدهم بأي خطر في أي محيط اجتماعي.

لكن رغم العبء الاقتصادي، أدفع الإيجار دون تردد، بعدما جربت سابقًا السكن في حيّ عشوائي يستحيل السير فيه مترًا دون لفظ مؤذٍ يحطمني نفسيًّا لأسابيع، وكان الخروج من البيت إلى المترو محفوفًا بالمخاطر، لأتعلم درسًا ثمينًا هو أن المال عنصر أمانٍ لا غنى عنه للمرأة في مصر.

لا يوفر المال فقط مكان معيشة هادئ، بل يوفر أيضًا إجراءات أمانٍ إضافية، مثل الاعتماد على خدمات النقل الخاصة (أوبر، كريم…)، أو اقتناء سيارة، وتجنب المواصلات العامة بكل خطرها.. المال يساعدنا على تحويل حياتنا إلى مجموعة من الفقاعات الآمنة، ويسهّل انتقالنا بينها، لنهرب باستمرار من الأذى الخارجي، ونستريح فيها من طور النجاة survival mode المُفعَّل دائمًا.

تقول صديقتي المقرَّبة "حياتنا في مصر ممكن تكون أحلى بمراحل لو معانا فلوس كتير، وعايشين في التجمع ما نطلعش منه".

لكن، حتى لو استطعت أن أفعل ذلك، لو كان لديَّ الراتب الكبير، والبيت الآمن في أرقى الأحياء، والمواصلات الخاصة، فهل هذه حياة آمنة فعلاً؟ أم أنها دفن للرأس في جيتو كبير، ضمن كل الجيتوهات التي أصبحت عليها حياتنا في السنوات الأخيرة؟

ربما تجيبنا السنوات المقبلة.