منشور
الاثنين 28 نوفمبر 2022
- آخر تحديث
الثلاثاء 29 نوفمبر 2022
في السياسة كما في المجتمعات، تمثل اللغة العنصر الأهم في القدرة على التواصل مع العالم. خطابك السياسي أو لغتك هي التي تجعل العالم يحكم عليك، فإما أن تكون جزءًا منه أو تصبح جزءًا من الماضي.
في علوم اللغة يحدد العلماء عددًا من اللغات التي ماتت، ويفرقون بين اللغة الميتة واللغة المنقرضة! فاللغة الميتة ما زالت بعض المعاهد والجامعات تسعى للتعامل معها واستخدامها في البحث والدراسة، أما اللغات المنقرضة فهي التي لا يقترب منها أحد، ولا يتذكرها أحد على طريقة القاعدة الشهيرة: اذكروا محاسن موتاكم.
ليس هذا المقال تحليلًا للغات بل تحليل للسياسة في الأساس.
فنظام الحكم المصري، وبالشواهد، ما زال يستخدم لغة سياسية لا يفهمها أحد، وهي ككل اللغات التي ماتت تفقده التواصل مع العالم وتجعله يبدو غريبًا في أعين من يطلع عليها، تلك اللغة السياسية لا تصلح الآن.
خلال قمة المناخ التي عُقدت في شرم الشيخ مطلع الشهر الجاري كانت السلطة في مصر تبدو نموذجًا لمن لا يعرف كيف يتواصل العالم، ولا يدرك كيف يفكر، ولا يستطيع أن يخاطب العالم بلغة يفهمها أو يتقبلها.
في قلب المفارقات التي شهدها المؤتمر، كانت التحركات المثيرة للسخرية كثيرة، لكن أبرزها كانت تلك التي نظمها مؤيدون للسلطة الحالية تحت شعار "لا لتسييس حقوق الإنسان"، وهي مفارقة لا تشير فقط إلى انفصال لغة السلطة ورجالها عن كل بلدان الدنيا، بل إلى غياب الفهم الدقيق لطبيعة القضايا التي يناقشها العالم تحت وطأة ورغبة لدى السلطة ورجالها في الهجوم على المدافعين عن حقوق الإنسان.
قضايا حقوق الإنسان سياسية بامتياز، وهي قبل كل ذلك قيم إنسانية عالمية، يؤمن الجميع أنها حقوق لا تنفصل عن وجود الإنسان في أي مكان، فهي قيم مرتبطة بوجود الإنسان بصرف النظر عن جنسه أو ديانته أو أفكاره أو مكانه الجغرافي على خريطة العالم، واعتبار المطالبين بها يسعون إلى "تسييس" قضايا سياسية بطبيعتها هو أمر مثير لسخرية العالم الذي بدا وكأنه لا يفهم هذا الخطاب العجيب، الذي يشبه اللغات الميتة، تلك التي لم يصبح لها وجود، ولم تعد وسيلة للتواصل بين البشر.
في وصف حالة الانفصال التي يعيشها النظام المصري عن اللغة التي يستخدمها العالم بدت عبارة "التدخل في الشؤون الداخلية" هي الأكثر استخدامًا على ألسنة "المؤيدين"، وهي عبارة تشير إلى انفصال رجال السلطة عن العالم، فانتقادات انتهاكات حقوق الإنسان في أي دولة هو حق قانوني منحه القانون الدولي للجميع على السواء.
السلطة في مصر تستخدم لغة سياسية "ميتة" لا يفهمها العالم ولا يتحدث بها، لذلك تفشل في إقناع الآخرين بخطابها السياسي، ثم تعود لتتهم الجميع بالتآمر على مصر
هل تعلم أن من حق مصر انتقاد أية انتهاكات تحدث لحقوق الإنسان في أمريكا أو أوروبا أو أي دولة في العالم دون أن تعتبر تلك الدول ذلك تدخلًا في الشؤون الداخلية أو مساسًا بسيادتها وحرية قرارها السياسي؟
في التعامل مع قضية حقوق الإنسان تحديدًا بدت السلطة في مصر بعيدة عن العالم وعن اللغة التي يفهمها بصورة كاشفة، فقواعد حقوق الإنسان التي يجب احترامها، والتي تأتي في القلب منها الحريات المدنية الأساسية: الرأي والتعبير والاعتقاد والصحافة.. إلخ لا تفرضها دولة على أخرى كما يحاول رجال السلطة الإيحاء بذلك، بل هي قواعد التزمت بها الحكومات في كل دول العالم بنفسها.
مصر مثلًا التزمت باحترام حقوق الإنسان عندما وقعت باختيارها وبمحض إرادتها على معاهدات واتفاقيات دولية ملزمة لا يجوز التراجع عنها أو انتهاكها بأي صورة من الصور، مثل "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية" ونشرت الجريدة الرسمية قرار الانضمام عام 1982، كذلك وقعت مصر على "اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللإنسانية أو المهينة" ونشر قرار الانضمام لهذا الاتفاقية في عام 1988.
أي أن الاندماج مع العالم واحترام قيمه الأساسية هو اختيار سياسي مصري قامت به الدولة ذاتها، وأي تحجج بأن الحديث في انتهاكات تحدث لاتفاقيات وقعتها الحكومات المتعاقبة بنفسها واعتباره تدخلًا في شؤونها الداخلية أمر يثير دهشة العالم الذي لا يستطيع فهم هذه اللغة الغريبة.
منذ العام 2016 زادت حدة الانتقادات الدولية الموجهة إلى النظام المصري فيما يتعلق بملف الحريات العامة وحقوق الإنسان، واعتبرت دول العالم أن هناك انتهاكات تحدث لكل القيم الإنسانية التي التزمت مصر بحمايتها، بحكم توقيعها على الاتفاقيات الدولية. المدهش كان في رد السلطة في مصر على الاتهامات الموجهة لها، بالتهرب من الحديث عن الحقوق المدنية والسياسية باستحداث مصطلح، وباستخدام لغة، لا يعرفها العالم بالتأكيد، على أنها تحترم "الرؤية الشاملة لحقوق الإنسان" أي الحقوق المدنية والسياسية ومعها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وضربت السُلطة الأمثلة عن "إنجازات" حققتها فيما يتعلق بهذه الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتجاهلت تمامًا الحقوق المدنية والسياسية، وهي لغة تثير الريبة والدهشة في آن واحد، فليس هناك دولة في العالم تضع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مواجهة الحقوق المدنية، وتعتبر أن أي تقدم تحققه على المستوى الاقتصادي يسمح لها بانتهاك بقية الحقوق.
الخلاصة أن السُلطة في مصر تستخدم لغة سياسية "ميتة" لا يفهمها العالم ولا يتحدث بها، لذلك تفشل في إقناع الآخرين بخطابها السياسي، ثم تعود لتتهم الجميع بالتآمر على مصر. والحل هو الاقتناع بأن الأصل هو الإيمان أنك إذا أردت أن تكون جزءًا من العالم فليس عليك إلا أن تلتزم باللغة التي يفهمها، والاقتناع بأن احترام الحقوق المدنية والسياسية والحريات العامة لم يعد ترفًا، ولن يجدي انتهاك هذه الحقوق ثم محاولة إقناع العالم بأنه يمارس عليك ضغوطًا أو يتدخل في شؤونك الداخلية.