"وات زا فيوتشر ريليشن أوف أمريكان أند إيجبشان؟". هذا السؤال طرحه مدير المراسلين المحليين في قناة القاهرة الإخبارية، على نانسي بيلوسي في مؤتمرها الصحفي بشرم الشيخ في إطار COP27. وعندما بدا عدم الفهم على رئيسة مجلس النواب الأمريكي عاد المدير/ المراسل لطرح السؤال بصيغة مختلفة لا تقل ارتباكا "وات زا فيوتشر.. زي أمريكان إيجبشان فيوتشر؟".
الصياغة التي لا تخلو من أخطاء لغوية وتركيبية أعادت إلى الأذهان سؤالًا مبهمًا آخر طرحته صحفية مصرية على ليوناردو دي كابريو في نهاية حفل الأوسكار عام 2016 "وات اباوت يور فيرست أوسكار؟".
من السؤالين تولد في ذهني سؤال آخر جديد قديم يمكن صياغته كالتالي "وات أباوت" الإعلام المصري؟ ولماذا حالنا "إز لايك ذيس"؟ ولو عرفنا أن القناة الإخبارية الأحدث في مصر لم يواكب انطلاقها مؤتمر المناخ في شرم الشيخ فحسب، بل تزامن بالصدفة البحتة مع احتفال قناة الجزيرة الإخبارية بعيدها السادس والعشرين (بفارق يوم)، سنضيف إلى مجموعة الأسئلة سؤالًا أخر: لماذا نجحت الجزيرة فيما لم ينجح فيه آخرون؟
هل نجحت الجزيرة؟
يختلف كثيرون حول "قيمة" ما تقدمه الجزيرة أو مدى التزامها بمعايير الممارسة المهنية من توازن وموضوعية وحياد، أو حول الدور الذي تلعبه سلبًا أو إيجابًا. إلا أننا قد لا نختلف كثيرًا عندما نتحدث عن نجاحها بمعايير الانتشار والتأثير.
انطلقت الجزيرة في أول نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1996، وعلى مدى ربع قرن تقريبًا، صدرت حولها عشرات الكتب والدراسات بمختلف اللغات في محاولة لفهم المسار الذي اتبعته لتتمكن من التأثير في محيطها إلى هذا الحد، ولتقييم مدى إسهامها في وضع الدولة الصغيرة التي خرجت منها في بؤرة الاهتمام العالمي.
في سنواتها العشر الأولى تسببت الجزيرة في نحو 450 شكوى دبلوماسية للحكومة القطرية. وربما كان هذا ما دعا الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك للتعليق في دهشة عندما زار المحطة عام 1999 "الله!!.. علبة الكبريت دي هي اللي عاملة الدوشة دي كلها؟!"
وللتعامل مع "الدوشة" كانت هناك أكثر من محاولة لإطلاق محطات إخبارية مقابلة خرجت من داخل مصر وخارجها. أكثرها نجاحًا قناة العربية من السعودية، وسكاي نيوز من الإمارات. وأقلها حظا قناة العرب الإخبارية السعودية التي انطلقت من البحرين في أول فبراير عام 2015 وأوقف بثها بعد ساعات من الإطلاق.
أما في مصر فتجددت الطموحات أكثر من مرة، بدأت بانطلاق قناة المحور عام 2005 وتكررت المحاولات ضمن شبكات أون وسي بي سي. في كل الأحوال لم تتمكن أي منها من أن تتجاوز حدود المحلية. اعتمدت على برامج التوك شو، ولم يشتهر عنها القيام بتغطية إخبارية عربية أو عالمية يمكن الاعتداد بها. فما هو السبب؟ وكيف يمكن للقاهرة الإخبارية أن تحقق نجاحًا أكبر؟
داخل علبة الكبريت
التحقت بالعمل في قناة الجزيرة قبل أسابيع من انطلاقها، وغادرتها عائدًا إلى لندن بعد الانطلاق بأسابيع أخرى، وبعد إذاعة حلقات معدودة من برنامج كنت أعده وأقدمه مشاركة مع المذيعة القطرية إلهام بدر. عاودت الانضمام إلى بي بي سي وتابعت من لندن الصعود المستمر للجزيرة والذي كنت شاهدًا على بعض من عوامله منذ البداية.
عدد غير قليل من صحفيي تليفزيون بي بي سي العربي الأول الذي أغلق قبل انطلاق الجزيرة بنحو ستة شهور، انضموا للقناة. ربما كانت هذه هي المعلومة الأشهر حول نشأة الجزيرة. الأقل شهرة كان استنساخ الجزيرة لكل ما يتعلق بالعمل في بي بي سي التي كانت قناة مشفرة، لا يراها إلا من يدفع اشتراك مجموعة قنوات أوربيت، أو اشتراك الكابل في دولتي قطر والبحرين. استنسخت الجزيرة كل ما استطاعت استنساخه بداية من نظام البث وانتهاء بخارطة البرامج.
برنامج بين السطور، الذي قدمته في الجزيرة كان نسخة من برنامج عيون الأخبار. وكذا استنسخ برنامج سامي حداد "أكثر من رأي" من برنامج ما وراء الخبر. احتاجت الجزيرة أسابيع أخرى لتضيف لخارطتها برنامجًا اخباريًا يختلف كلية عن باقي برامج بي بي سي، وهو برنامج الاتجاه المعاكس لمقدمه فيصل القاسم. كان هذا في 17 ديسمبر/ كانون الأول عام 1996. واحتاج الأمر شهورًا أخرى ليرى برنامج الشريعة والحياة النور.
من السهل على المسؤولين قول إنهم يضمنون دعمًا سياسيًا لقناة تليفزيونية ما، ولكن الأمر يختلف عندما يبدأ التطبيق على أرض الواقع
كل شيء في الدنيا ييجي بالإرادة
في الأيام الأولى للبث وأثناء إعداد إحدى نشرات الأخبار المسائية نقلت وكالة الأنباء القطرية خبرًا عن أمير البلاد. بمجرد أن لمح المسؤولون عن النشرة اسم الأمير وضعوه تلقائيًا كخبر أول. تصرف معتاد يمارسه العاملون في غرف الأخبار الممتدة من المحيط إلى الخليج الذين يعلم أغلبهم ليس فقط أهمية وضع أخبار الرئيس والوزير والمحافظ في صدر نشراتهم، ولكن أيضًا مغبة تجاهل تصدير مثل هذه الأخبار.
مضت دقائق قبل أن يدق جرس الهاتف. على الطرف الآخر كان متحدث من الديوان الأميري وكان الطلب أن تتجاوز الجزيرة عن هذا التقليد وأن تضع في صدر النشرة ما يرى مسؤول الأخبار أن له أهمية للجمهور المستهدف. حسبما أذكر ونقل لي وقتها، قال المتحدث "لدينا قناة التليفزيون القطرية المحلية لأخبار الأمير المعتادة ولا حاجة لوضع أخبار الأمير في صدر النشرة".
منذ الساعات الأولى للبث كان واضحًا أن الأمير و"ديوانه" لا يرغبون في أن تتحول الجزيرة إلى قناة محلية، وأن الإرادة السياسية جادة في أن تكون الجزيرة مشروعًا مختلفًا وأن تكون أخبارها عالمية وإقليمية عربية. وهو ما يذكرني أيضًا بما شاهدته قبل انطلاق الجزيرة بأيام. فبينما كنت أقف أمام "علبة الكبريت" جاء رئيس مجلس الإدارة الشيخ حمد بن ثامر، في صحبة مجموعة من العمال يستبدلون كلمة من الكلمات التي توجت مدخل المحطة.
في غضون دقائق تحول الاسم فوق الباب من "قناة الجزيرة القطرية" إلى "قناة الجزيرة الفضائية".
عندما تتبخر الوعود
من السهل على المسؤولين قول إنهم يضمنون دعمًا سياسيًا لقناة تليفزيونية ما، لكن الأمر يختلف عندما يبدأ التطبيق على أرض الواقع. قبل إطلاق الراحل جمال خاشقجي لقناة العرب من البحرين، نبه داعموه إلى احتمال طرح موضوعات حساسة وحرجة ووعد بالتعامل معها بتوازن، من أجل الحصول على مصداقية تؤهله للاستمرار، وحصل على وعود مطمئنة.
يوم انطلاق المحطة جاءت الأنباء بسحب الجنسية من 72 مواطنًا. تصور جمال أنها فرصته لإثبات حياد القناة ووجود إرادة سياسية تدعم نهجًا مختلفًا.
استضافت القناة معارضًا سياسيًا ومعه وزير من الحكومة للرد والتعليق. كان هذا هو الحياد والموضوعية والتوازن كما تصور، لكن هذا لم يكفِ. في غضون ساعات صدر قرار الإغلاق "لعدم التزام القائمين على المحطة بحيادية المواقف الإعلامية وعدم المساس بكل ما يؤثر سلبًا على روح الوحدة الخليجية وتوجهاتها" كما نشرت الصحف البحرينية حينذاك.
قليل من المهنية يُصلح الإعلام
سيمضي وقت أرجو ألا يكون طويلًا قبل أن نشاهد في عالمنا العربي قناة إخبارية عامة تتمتع بقدر من المصداقية والاستقلال وتتجنب التطبيل للرئيس أو الملك أو الأمير، وتخضع للمساءلة أمام المواطنين، معاييرها التحريرية معلنة ونظام الشكوى والمراجعة فيها مفتوح. قناة تعتذر عندما تخطئ وتُخضع برامجها ومذيعيها للمراجعة، وتضع حاجزًا سميكًا بين غرفة الأخبار ودوائر السلطة، كما هو الحال مع بي بي سي البريطانية، أو سي بي سي الكندية.
الجزيرة ليست هناك بعد، ورغم تحفظاتي الكثيرة عليها بسبب تحولها التدريجي إلى ذراع قوي للخارجية القطرية بما يضر بالقيم المهنية التي تعلن التمسك بها دومًا، إضافة إلى ميلها الشعبوي لمغازلة قطاعات المشاهدين الواسعة من الإسلاميين والعروبيين، والتباين الواضح بين سياستها المعلنة والممارسات التحريرية المختلفة لمذيعيها وبرامجها وحتى بعض قنواتها، فإنها قدمت دون شك تجربة متميزة أكثر تطورًا مما سبقها وتستحق الدراسة والفهم للإفادة منها والبناء عليها.
أما القاهرة الإخبارية التي نتمنى لها التوفيق، فلا أمل في أن تتمتع بأي قدر من النجاح دون إرادة سياسية تسمح لها؛ بل ترغمها على أن تبتعد عن التطبيل الفج، وتختار العاملين فيها بناء على الكفاءة، وتعمل على تدريب محرريها ومراسليها ودعم قدراتهم من أجل القضاء على مدرسة الـ"وات اباوت" في الإعلام المصري.
اخدموا سياساتكم، لكن على الأقل بشيء من الاحتراف.