نشأ جيل الشباب الحالي مثلي من مواليد التسعينيات على مفردات ثابتة في مدينة بورسعيد، مثل البحر والسمسمية وخصوصية "أبو العربي"، وتجارة البالة، والأخيرة ومعها المدينة كلها لم تعد كما كانت.
اعتدنا في سنوات المراهقة أن يوم الجمعة لسوق البالة، يطفح فيه خلق كثيرة من المدينة وخارجها. أتذكر حين كنا نغرق في أكوام ضخمة من الثياب والأحذية، ونحن وقدرتنا على البحث والصبر. أحيانًا تلقينا حظوظنا باقتناص كوتشي أو تيشرت "براند" بثمنٍ لا يتجاوز 5% من سعره الحقيقي.
انتفى ذلك المشهد الآن، وأصبحت الأيام مثل بعضها، يُلاحقها الفراغ المُقبض والنزاعات بين أصحاب المحلّات والزبائن بسبب ارتفاع قيمة القطعة متجاوزة قدرة جيش الطبقة الوسطى وما دونها، ما جعل المدينة تفقد جزءًا من ذاكرتها.
السيد أبو العربي وصل
ارتبطت تجارة البالة في بورسعيد بالمكان منذ نشأته الأولى. حينما بدأ العمل على حفر قناة السويس، بعد أن أقنع فيردناند ديليسبس صديقه الوالي محمد سعيد باشا بهذه الخطوة، مثيرًا شهيّته الشرهة بطبق اسباجيتي، وهي الرواية التي يتناقلها الأهالي، ومذكورة أيضًا في كتاب "ضرب الإسكندرية في 11 يوليو".
جُلبت عمالة من العمق الصعيدي والقُرى، بجوار القادمة من مدن مجاورة. تشكّلت المدينة حينما اختار بعض العُمّال المكوث، بدأوا من 100 عامل حتى اجتمع بها ألف ساكن في 1869. كما تمركزت جاليات أوروبية عدّة من إيطاليا واليونان بعدما حولت القناة المكان إلى دينامو تجارى مُنتج.
تكوّن في بورسعيد قطاعان سكنيان، الجزء الغربي (أحياء الإفرنج والشرق وبورفؤاد حاليًا) سكنته الجاليات الأوروبية، بينما الجزء الجنوبي سكنه المحليون، من هنا جاء الاسم الشهير "أبو العربي"، واعتاد البورسعيدية مقاومة طبقية التوزيع المكاني والتمييز، من خلال الأسماء، فعُرف ساكن الجزء الجنوبي بالعربي، وانتشرت تسمية السيد، كي يكون الاسم نهايةً هو السيد العربي.
انتقل الاسم من حيّز الاعتزاز بالوطنية والمكان إلى المقاومة، نُسجت حكايات حقيقية وخيالية عن الشخصية البورسعيدية، في النكسة والحرب، وبعدها عادت العائلات التي هاجرت، فأصدر السادات قرارًا في 1976 بإعفاء ميناء بورسعيد من الرسوم الجُمركية واعتباره سوقًا حرة، في ظل ما كانت تواجهه المدينة من بطالة وتدهور في البنية التحتية.
اعتبر البورسعيدية ذلك القرار مُكافأة لمقاومتهم وتهجيرهم الطويل، ومن هنا جاءت حكاية البالة التي صبّت الخير على أهل المدينة.
مدينة متكاتفة
بعد اختصاص بورسعيد بالإعفاء الجمركي، تمسك السكان العائدون بفرص المكسب الكبيرة. بدأت عملية الاستيراد خلال سنوات الإعفاء الأولى بصورة عشوائية، وكان الريس محسن الشافعي، أحد أقدم تجار البالة في المدينة، ممن عاصروا تلك المرحلة.
يقول الشافعي للمنصة "في البداية لم يكن البورسعيدي يحتاج سوى تحويشة صغيرة ليسافر بنفسه ويستورد ملابس مستعملة. الأوزان الضخمة الآتية بها أشياء عشوائية مع الملابس، أجهزة كهربائية صغيرة، مراتب، وأحيانًا تحف قديمة، تُصنّف حسب مبالغ بيع تقريبية".
خلقت القيمة الاجتماعية لتجارة البالة واختصاص بورسعيد بها حالة من التكافل الاجتماعي بين السكّان بحسب الشافعي، فلم تكن كل الواردات عرضة للبيع، بل كان شائعًا أن تخرج الأجهزة المضافة وسط بضاعة الملابس كهدية للجيران والمحتاجين.
جارٌ يجهّز إحدى بناته للزواج، يتعاون معه أحد المستوردين ويهديه أي أجهزة تأتيه من بين الشغل إن لم يكن مقتدرًا، وإن كانت إمكانياته بسيطة يدفع ثمن بسيط عليها يجري تقسيطه على مدى طويل، يتذكر الريس شافعي الذي عاصر كل ذلك.
لم تكن طبقة المستوردين منفصلة عن عموم السكّان، عملهم كان بمثابة رد قيمة جماعية، فحفلت المدينة بمختلف عناصر الاستهلاك والترفيه المستوردة باستعمال خفيف من الخارج.
حالة ارتباط النشاط التجاري بالبعد الاجتماعي، ضفّرت عملية التجارة داخل الثقافة الشعبية للمدينة، وعُرفت "البالة" كقطب مهم من أقطابها.
عن هذه المرحلة التي مثّلت ذروة المدينة في تجارة البالة، يقول الريس سيد الجرايحي "اشتغلت في البالة وأنا عمري عشر سنين، كان معلّمي يقسّم الشغل في المخزن، يُفتح صندوق القماش المستورد تلاقي قطعة من كل شيء، كل أصناف الملابس الرجالي والحريمي والأطفال. في موسم الصيف، لمّا الناس تيجي لأجل المصيف والفُسحة، كنت أبيع لخلق من كل شكل ولون، ومفيش بائع يقدر يبص حوله من كثرة الناس".
المحلات الكبيرة عليها زبائن وكذلك الفرش الصغير. بوادر حتى مطلع الألفينات، حين كانت المدينة لا تزال تحتفظ بثرائها التجاري، ووسيلة موّفرة لقضاء الإجازات السنوية لغير القادرين من القاهرة والمُدن الداخلية على ثمن مصايف أكثر تكلفة، وهو ما شكّل كتلة شرائية كبيرة.
الضربة الأولى للبالة
خلال مطلع الألفينات تأثرت بورسعيد بذروة الخصخصة وصعود رؤوس الأموال. يصف ريّس محسن الشافعي هذه المرحلة بـ"انتفاء الخير" موضحًا "أيام السادات تم عمل بطاقة استيرادية، حسب القدرة المالية لكل مستورد، سعرها كان رخيص، وكان البورسعيدية غير القادرين يبيعون البطايق من الباطن للمستوردين ويتسلموا تمنها على دفعات".
يضيف الشافعي "مع أيام مبارك، ارتفع سعر البطاقة الاستيرادية، وظهر في البلد تجّار جُدد برأس مال ضخم، وهنا جاءنا بلاء الاحتكار. المستورد يسافر إلى الخارج ويعود بحمولات كثيرة، ثم يوزّع بالجملة للتجار الذين أصبحوا غير قادرين على السفر".
يوضح الفارق بين المرحلتين الرخاء والاحتكار قائلًا "أصبحنا نرى معلّما يلبس بدلة ويجلس أمام المحل يأمر ويهين صبيانه، قبل ذلك كنت تدخل تشتري قطعة ولا تعرف من الذي يبيعها لك، هل هو صاحب مكان أم عامل يومية، ظلّت تجارة البالة -رغم تحولها إلى نشاط لتراكم الربح- في الألفينات قادرة على سد فجوة الفارق الطبقي".
لم تُبعد طبقة التُجّار الجدد ورؤوس أموالها سُكّان المدينة عن الشراء من البالة، بل قرّبتهم أكثر، بسبب تصاعد ارتفاع الملابس الجديدة. التأثير الأوليّ الحاصل تعلّق بتقديم الربح على فِعل التكاتف، لأن سوق البالة آنذاك كان مثل بقيّة الأسواق التُجارية، مُحاط بأيادٍ تمتلك رأس مال كبير.
الضربة الثانية..فالثالثة
هكذا، بدأ تآكل البالة خلال أزمة 2008 العالمية؛ شحّت البضائع من السوق، تعطلت حركة الاستيراد وارتفع سعر القطعة، حتى جاءت المحطة الثانية، خلال ثورة يناير التي توقف معها كل شيء، إضافة إلى كارثة مقتل 74 مُشجّعًا في مذبحة بورسعيد، فبراير/ شباط 2012.
تسببّ سوء الوضع الاقتصادي في قلّة الملابس بالسوق، فيما حولت حادثة الاستاد سخرية الحضور الخاص للبورسعيدي (أبو العربي) إلى أزمة جماعية تتعلّق بالانفصال عن الآخر.
وأخيرًا جاءت أزمة الدولار، لتقضي على ما تبقى من البالة. يقول جرجس عطا الله وهو أحد المستوردين إنه في العام 2016، كانت تكلفة البطاقة الاستيرادية التي يشتريها التاجر من الباطن من آخر لا يملك سيولة، حوالي 10 جنيهات على الكيلو، وهذا العام، زاد المبلغ إلى 110 جنيه، إضافة إلى زيادة قيمة الملابس بالخارج بسبب تراجع العملة.
ويضيف أن "تُجّار البالة يعتمدون على "إسود"، أي تاجر عُملة لتسهيل الخروج بالدولارات، لأن الالتزام بنظام الاعتماد البنكي يطيل مدّة الاستيراد، وربما تأتي الملابس أصلًا بعد فوات موسمها".
الهوة مع الآخر
لطالما كان لسكّان بورسعيد علاقة خاصة مع المدينة، فمحطاتها التاريخية ليست بعيدة، تقوم على تواتر الحكايات شفهيًا لتعويض الفقر البحثي عن تاريخ وتطور المكان، وأيضًا لأن إعادة هيكلة المكان خلال السبعينيات لا يزال لها معاصرون، يحملون تفاصيل ثرية عن الأحياء والشوارع وماضيها وحاضرها، وأخيرًا لأن المدينة ما زال بها فراغ حميمي لم تطَله الوحوش الخرسانية بعد الأزمة التي جعلت البورسعيدية يستعيدوا حالة الخصوصية هذه بعدائية شديدة صوب الآخر.
تحوّل أبو العربي المُعرَّض بسخرية لتهمة اختلاق الأحداث من لا شيء، كما الانطباع عنه في ذاكرة القاهريين، إلى شخصٍ موصوم (سُمّيت بورسعيد خلال جدل ما بعد حادثة الاستاد بـ"بوريهود" )، ومُثقل بشعور جماعي بالانفصال.
والبالة حاضرة في فرضية كره الآخر والانفصال عنه، الأمر الذي لاحظته عند الحديث مع التجار، ممن احتفوا بخصوصية مدينتهم، ورأوا أن البالة كانت سبب في أن تحقد عليهم المدن الأخرى، وتصبح الكراهية حاصلة لأن البورسعيدي كان يكتفي بتجارة مدينته وقت أن انتقل الجميع إلى القاهرة، وأيضًا لأن "المسؤولين قتلوا العيال في الاستاد وخلّونا نشيل الليلة عشان بورسعيد تقع".
حتى مع تداعي الزمن على الغضب العام على المدينة، تفحّشت في السنوات الماضية عوامل قادرة على تهديد أي تجارة ربحية، أرجوحة اقتصادية مُتكررة قبل وبعد وخلال وباء أصاب العالم بالشلل. القطعة التي كانت يُمكن شرائها سابقًا بمبلغ رمزي من بورسعيد، تجاوزت الآن مئة أو مئتي جنيه، ولم تعد البالة حكرًا عليها، بل باتت منتشرة في أماكن كثيرة، فخسرت بورسعيد خصوصيتها.
لا فك للارتباط
ورغم ذلك، فإن فك ارتباط البورسعيدية بالبالة غير ممكن. سألني الريس محسن فيما ينظر إلى الملابس المعلقة "هل تستطيع أن تطابق بين قطعتين من بين كل القطع المعلّقة ؟" ثم استطرد "هذه القطع المختلفة، أحبّها وأميّزها حتى لو تكدّس مخزني بآلاف منها".
لا يقبل الريس محسن أن يعمل في شيء آخر، بالنسبة له خسارة في البالة ولا ألف مكسب في غيرها، لأن عمله أكثر من مسألة ربح، بل هو جزء من ذاكرته.