يحتل الاستثمار العقاري موقعًا اقتصاديًا واجتماعيًا تزداد أهميته في دول الجنوب العالمي، ولا يمكن تحليل كبر حجم وسيطرة الاستثمار العقاري في مصر على مفاصل الاقتصاد بمعزل عن هذا السياق الأوسع.
فبالإضافة لتوفيره سلعة أساسية تصعب الحياة دونها، ألا وهي السكن، ففي الكثير من دول الجنوب يرتفع الاستثمار في القطاع العقاري بسبب كون العقار سلعة غير قابلة للتداول non-tradable good. فلا يمكن استيرادها من الخارج بعكس السلع والخدمات الأخرى عالية الربحية، والتي تكون غالبًا محمية قانونيًا من خلال منظومة معقدة لحماية الملكية الفكرية، يصعب على دول الجنوب المنافسة فيها مع دول الشمال.
تضمن أيضًا الزيادات السكانية، التي عادة ما تختبرها دول الجنوب بشكل أكثر حدة من دول الشمال، وجود طلب دائم على العقار. فضلًا عن التضخم المرتفع المميّز لدول الجنوب، والذي يخلق طلبًا مرتفعًا على العقار كمخزن للقيمة. وأخيرًا، الكثافة العمالية لأنشطة البناء عادة ما تجعل الاستثمار العقاري حلًا سريعًا لعلاج مشكلات البطالة، خاصة وسط جيوش العمالة غير الرسمية المنتشرة في دول الجنوب.
مصر بالتحديد أصبحت نموذجًا مثاليًا لهذه الدينامية، فهي تستوفي كافة المعايير الأربعة.
من حيث ارتفاع مساهمة النشاط العقاري والإنشاء في الاقتصاد، وصلت مساهمته المباشرة في السنوات الأخيرة لحوالي 18% من الناتج المحلي الإجمالي. أما المساهمة غير المباشرة، المتمثلة في تشغيل القطاعات المكملة للقطاع العقاري مثل النقل والتصنيع والتمويل، فستُضاعف من مساهمة القطاع العقاري في الناتج المحلي الإجمالي.
وهناك أيضًا التضخم المرتفع والزيادة السكانية الكبيرة، واستغلال هذه الظروف لتوفير فرص عمل قصيرة الأجل لمئات الآلاف من المواطنين، خاصة الذكور منهم.
وفي ظل هذه الأهمية المتنامية للقطاع العقاري، والذي جاء لزعزعة عرش الصناعة والزراعة كأهم القطاعات المركزية الدافعة للاقتصاد، ظهرت مؤخرًا دراسة جديدة باسم من يملك القاهرة؟ صادرة عن مؤسسة عشرة طوبة، تحاول أن ترصد أنماط ملكية الأراضي الصحراوية العقارية في القاهرة الكبرى.
وجدت الدراسة أن ملكية أراضي صحراء القاهرة تنقسم في أغلبها ما بين أفراد وعائلات مصرية، وشركات خليجية، والحكومة المصرية، فضلًا عن نسبة مخصصة للتداول الحر في البورصة.
سد فجوة بحثية كبيرة
تكمن قيمة مشروع "من يملك القاهرة؟" تحديدًا في أنه رغم احتلال الاستثمار العقاري هذا الموقع الاقتصادي والاجتماعي المركزي، إلا أن القطاع العقاري لم يلق اهتمامًا كبيرًا من باحثي الاقتصاد السياسي والتنمية في مصر.
التركيز البحثي على الأرض الزراعية لم يضاهِه تركيز مماثل على خصخصة الأراضي الصحراوية والساحلية
منذ بداية الانفتاح، انتشر بشكل كبير نمط تراكم يعتمد على خصخصة الأصول العامة، وتحرير سوق الأرض الزراعية والقطاع الزراعي، بموجب قانون 96 لسنة 1992، الذي أدخل تعديلات على قانون الإصلاح الزراعي، بالإضافة لتخصيص الأرض الصحراوية والساحلية على نطاق واسع.
درس العديد من الباحثين أثر إلغاء سياسات الإصلاح الزراعي التي مُرِرَت في خمسينيات وستينيات القرن العشرين من قبل دولة ما بعد الاستقلال التنموية، بالإضافة إلى وجود تاريخ بحثي طويل من تحليل أنماط الملكية في الأرض الزراعية. هذا التركيز البحثي على الأرض الزراعية لم يضاهِه تركيز مماثل على التراكم جراء خصخصة الأراضي الصحراوية والساحلية.
هذا الشح البحثي قد يكون نتيجة أن خصخصة الأرض الصحراوية ظاهرة أحدث، أو أن هذه الأراضي في أغلبها لم تكن مأهولة بالسكان، ولذلك لم يكن هناك عملية مباشرة لانتزاع الأرض من قاطنيها. ورغم ذلك، فتحليل ملكية الأراضي الصحراوية السكنية في مصر في غاية الأهمية لعدة أسباب:
أولًا، في اقتصاد يقل الاعتماد فيه على الزراعة بسبب حصة مصر المحدودة من المياه وربحيتها المتناقصة، وبسبب الزيادة السكانية الكبيرة، فمعظم إمكانات النمو المعتمدة على الأرض كمورد طبيعي أصبحت موجودة في قطاع السكن والتشييد.
هبطت حصة الزراعة من الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير من نحو 29% في منتصف السبعينيات، إلى أقل من 12% في عام 2021.
ثانيًا، تحولت الأرض الزراعية لملكية خاصة منذ زمن طويل، وحتى مع تنظيم الإصلاح الزراعي ملكية الأراضي ووضع حد أقصى للملكية وقواعدَ لتنظيم الإيجار، ظلت الأرض الزراعية لفترة طويلة خاضعة نسبيًا لبعض آليات السوق. بعكس التعامل في الأراضي الصحراوية والساحلية، إذ غابت تمامًا آليات السوق في الغالبية العظمى من حالات الخصخصة الأولية للأراضي الصحراوية لصالح التخصيص بالأمر المباشر، ولم تكن هناك آلية، ولو حتى شكلية، للعرض والطلب لتقريب سعر التخصيص من السعر "العادل".
ولذلك تحولت الأراضي لواحدة من أهم وسائل التراكم الرأسمالي السهل في عصر مبارك، حيث شهدت مصر في سنوات حكمه زيادة مطردة في خصخصة الأراضي الصحراوية والتجارة فيها، وانتشرت ممارسات التخصيص بالأمر المباشر لكبار الساسة ورجال الأعمال بأسعار رمزية، وكانت هذه الممارسة دافعًا كبيرًا للنمو الاقتصادي على الورق، حتى لو لم يشعر أغلب المصريين بثمار هذا النمو.
كان التخصيص بالأمر المباشر نموذجًا واضحًا على "التراكم عبر الانتزاع" كما عرَّفه ديفيد هارفي، أستاذ الجغرافيا والأنثروبولوجيا في جامعة مدينة نيويورك. يتناقض هذا النمط من التراكم مع التراكم الرأسمالي الذي يحدث عبر الإنتاج والتبادل في السوق، فهو يعتمد على الانتزاع المباشر على أصول عبر عملية لا-إنتاجية.
ويؤكد هارفي أن التراكم عبر الانتزاع انتشر بشكل كبير منذ السبعينيات، مع دخول العالم في أزمة اقتصادية عنيفة أثرت على فرص الربحية القائمة على فوائض رؤوس الأموال وزيادة الإنتاج زائد وتدني الأجور، مما دفع رأس المال للتنقيب عن قنوات رأسمالية جديدة لتراكم الثروة. ويشير هارفي للاستحواذ على أصول عامة، والاستثمار المالي، كأحد أبرز تلك القنوات.
هناك ما لا يقل عن 15 مليون أسرة إضافية، احتاجت 15 مليون منزل، دخلوا السوق خلال ثلاثة عقود فقط
عندما بدأت سياسة الانفتاح في 1974 كان سكان مصر 38 مليونًا، وبنهاية عام 2020 وصل عدد السكان إلى حوالي 102 مليون. هذه الزيادة بنحو 66 مليون نسمة في 36 عامًا أدت إلى معدلات متسارعة جدًا من التوسع العمراني.
هذه الزيادة تعني ببساطة أن ما لا يقل عن 15 مليون أسرة إضافية، احتاجت وتحتاج إلى 15 مليون منزل، دخلوا السوق خلال ثلاثة عقود فقط. ولا يشمل هذا التقدير العقارات التجارية والمنازل الثانية والثالثة الخالية، فضلًا عن عقارات الإجازات.
يعني هذا أنه في المتوسط، كانت هناك حاجة إلى بناء نصف مليون عقار سنويًا في الثلاثة عقود الماضية كتقدير محافظ. كما زاد عدد السياح الوافدين إلى مصر بشكل كبير في العقدين السابقين على ثورة يناير، مما أدى إلى المزيد من التوسع في حجم القطاع العقاري.
وفي ظل ضعف قدرة الاقتصاد المصري التنافسية في السلع والخدمات القابلة للتداول، يصبح للاستثمار والمضاربة في الأراضي والعقارات أهمية إضافية، كسمة مميزة للاقتصاديات الطرفية أو ما يسمى بالاقتصاديات الناشئة.
لكل هذه الأسباب، تقع أنماط ملكية الأراضي السكنية في القلب من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تشهدها مصر في العقدين الأخيرين، مثلما كانت السيطرة على الأراضي الزراعية في القلب من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على مدار قرون قبل ذلك.
ولهذا السبب يمثل مشروع من يملك القاهرة؟ نقطة بدء أولية لتحليل أنماط ملكية الأراضي الصحراوية، كأداة رئيسية للتراكم الرأسمالي في عصرنا الحالي، على غرار التقاليد البحثية العريقة القائمة على تحليل أنماط ملكية الأراضي الزراعية في مصر.
ملكية كاريبية في صحراء القاهرة
من مزايا قاعدة البيانات الخاصة بدراسة من يملك القاهرة؟ هو تفريقها بين جنسية الإقامة الضريبية للشركات المالكة للأراضي وجنسية الملاك. وتنبع أهمية هذا التفريق من أن البيانات الرسمية المعلنة عادة لا تعلن بشكل واضح عن هذه التفرقة الهامة، وأن كثير من المستثمرين يختارون بلدانًا لاستثماراتهم غير بلدانهم الأصلية لأغراض ضريبية.
فنجد مثلا أن بمعيار الإقامة الضريبية تحتل جزر كايمان المركز الخامس في قائمة البلدان التي يأتي منها المستثمرين بنسبة 4.5% من الأراضي، وتحتل جزر العذراء البريطانية المركز التاسع بنسبة 1.5% من الأراضي، في حين يختفي البلدان تمامًا عند حساب جنسية المستثمر. وهذا أمر "طبيعي"، فهذه البلدان الكاريبية عبارة عن جزر متناهية الصغر لا يتعدى سكانها بضعة عشرات من الآلاف، تمثل ملاذات ضريبية ولا تأتي منها استثمارات حقيقية.
توجد أيضًا بلدان تعمل كملاذات ضريبية ولكن تأتي منها استثمارات حقيقة، مثل الإمارات العربية المتحدة. فنجد فجوة بحجم 4% بين نسبة ملكيتهم كجنسية مستثمرين وكمقر ضريبي لصالح الأخيرة. يشير هذا إلى احتمالية أن تكون نسبة من ملكية الشركات الإماراتية للأراضي في القاهرة مملوكة لمستثمرين غير إماراتيين للاستفادة من مزايا الإقامة الضريبية في الإمارات.
في قطاع ينمو ويربح بشدة في مصر، وفي الغالب على حساب قطاعات أخرى، من الضروري التأكد من التزام الشركات العاملة فيه بدفع الضريبة العادلة عن أنشطتها، وسد أي فجوات محتملة للتجنب الضريبي. وهنا تكمن أهمية مثل تلك البيانات كنقطة انطلاق للمزيد من المساءلة المجتمعية لأنشطة هذا القطاع المحوري والمتنامي، خاصة في ظل احتياج الدولة الشديد للموارد، والانخفاض الحاد لحصيلتها الضريبية بشكل عام، ومن الشركات الخاصة بشكل خاص.
يعد هذا المشروع القيم تذكرة بأهمية إتاحة معلومات عن الملاك المنتفعين في مصر، خاصة مع تعقيد أشكال الملكية بحيث لم يعد ممكنًا معرفة الملاك الحقيقيين للشركات دون وجود إجراءات خاصة بذلك، على عكس الأراضي الزراعية التي كان معروف ملاكها بشكل واضح بسبب كونهم مدمجين اجتماعيًا.
وبسبب الطبيعة المختلفة للنشاط الزراعي والعقاري، حيث النشاط الزراعي متجدد، يدر الربح ويخلق قيمة بشكل دائم، في حين أن النشاط العقاري متنقل ورحال. فبمجرد إتمام المشروع وبيع الوحدات وجمع الأرباح الممكنة، ينتقل المطور باحثًا عن أرضًا جديدة لمشروع جديد.
تعملق القطاع العقاري في مصر بالتزامن مع تخلي الدولة عن دورها في حماية ودعم القطاعات الإنتاجية وخلق فرص عمل
يجب التذكير بالتزامات مصر الدولية في هذا الصدد، فانضمام مصر للمنتدى العالمي للشفافية وتبادل المعلومات للأغراض الضريبية يضع عليها التزامات بشأن جمع معلومات عن الملاك المنتفعين للأصول. وقامت الكثير من البلدان، مثل المملكة المتحدة، بإتاحة سجل الملاك المنتفعين على الإنترنت.
باختصار، تعملق القطاع العقاري في مصر، بعيدًا عن احتياجات مصر السكنية، وتغول كرد فعل على وضع اقتصادي واجتماعي هش، لا يملك القطاع الخاص فيه القدرة على المنافسة في قطاعات مرتفعة القيمة المضافة عالميًا.
حدث هذا بالتزامن مع تخلي الدولة عن دورها في حماية ودعم القطاعات الإنتاجية وخلق فرص عمل، ولا يبدو أيضًا أن التقسيم الدولي للعمل سيعاد تشكيله في أي وقت قريب بشكل يحافظ على مصالح دول الجنوب، ويحول دون توجيه رأس المال للقطاعات العقارية بسبب ضعف ربحية القطاعات التي يتخصص فيها الجنوب العالمي.
يأتي في هذا السياق الاستثمار العقاري كمسكن للصراع الاجتماعي، قادر على الحفاظ على مصالح التراكم الرأسمالي المصري، والعمل كقناة تصريف لفوائض رأسمالية خليجية، وتوفير مخزن للقيمة لأصحاب الفوائض والمدخرات من الأسر المصرية، وتوفير بعض فرص العمل غير الرسمية والموسمية ومنخفضة الأجر لقطاعات عريضة من المجتمع.