قبل عشرين عامًا أو أكثر قليلًا، كان فلاحو مركز إبشواي بمحافظة الفيوم يشاهدون نبتةً جديدةً عليهم، ليس معتادًا زراعتها في أراضيهم، وكانت تلك واحدة من المحاولات النادرة لزراعة الشاي، الذي نعتمد على استيراده من الخارج.
مع أهمية تلك التجربة، إلا أنها وئدت سريعًا و"بأوامر عُليا لأسباب غامضة"، كما روى لنا من عاصروها في هذا الوقت، رغم أن الشاي سلعة أساسية في نظام التموين آنذاك وواحدة من أهم الصناعات الاستهلاكية. بل إن محاولة إبشواي لإنتاج أول شاي مصري 100% كانت تتم تحت إشراف وزارة الزراعة.
نتذكر هذه التجربة في الوقت الراهن، خاصة مع تفاقم أزمة الاستيراد التي أدت إلى استغاثة شركة شاي العروسة، من عدم قدرتها على الإنتاج كالمعتاد في ظل أزمة الدولار.
مسألة أمن قومي
السؤال عن زراعة الشاي في مصر يبدو منطقيًا، إلا أن مسؤولًا ما في الدولة رأى أن الإجابة عنه مسألة "أمن قومي"، وبالتالي ليس مستحبًا أن تطرحه الصحافة، وفي حال طرحه على أي من الباحثين في المركز القومي للبحوث الزراعية، التابع لوزارة الزراعة "يجب رفض الإجابة عليه وإلا..".
هذا ما أبلغنا به ثلاثة باحثين في المركز تحدثنا إليهم وطرحنا عليهم السؤال نفسه، وكانت إجاباتهم متشابهة "المكتب الإعلامي في وزارة الزراعة أبلغنا بعدم الحديث في هذا الأمر وإلا يحال الباحث للتحقيق".
وقال أحد الباحثين للمنصة إن هذا التوجيه جاء بعدما نشرت صحيفة قومية على لسان أحد الباحثين في المركز رأيًا يقول إنه من الممكن زراعة الشاي في مصر. وهو ما أزعج الوزارة، فقررت منع الحديث عن زراعة الشاي في مصر سواء بالإمكانية أو الاستحالة.
تواصلنا مع الدكتور محمد القرش، معاون وزير الزراعة والمتحدث باسم الوزارة، للاستفسار عن سبب القرار، فطلب منا أسماء الباحثين الذين أبلغونا ذلك، وعندما رفضنا، قال "مفيش مشكلة هجبلكم تصريح بالكلام معاهم"، ما يؤكد رواية الباحثين للمنصة بالمنع من الحديث للإعلام.
ومع رفضنا الكشف عن هويتهم، بناء على طلبهم، قال القرش "طيب ممكن تنتظروا لغاية ما أجبلكم باحث متخصص في زراعة الشاي وأبعتلكم رقمه"، وهو ما لم يحدث حتى مرور أسبوع من الاتصال به.
مزاج المصريين
اعتياد ملايين المصريين على شرب الشاي سواء "للحبس" بعد الطعام، أو كنوع من المنبهات في أوقات العمل، جعل البلد يحتل المركز السابع عالميًا، والأول عربيًا، في استيراد الشاي.
هذا الاستيراد الكثيف يبدو طبيعيًا في سياق تاريخي كان فيه الشاي، الذي لا نزرعه، سلعةً أساسيةً في حصص التموين وجزءًا من عاداتنا اليومية. ما جعلنا في حاجة كل عام لشراء أطنان هائلة من الخارج، بلغت في 2021 نحو 485 ألف طن من الشاي الأسود والأخضر.
ومع تفاقم أزمة ضعف تدفقات النقد الأجنبي خلال الأشهر الأخيرة، أصبح تدبير العملة الصعبة لشراء الواردات المعتادة أمرًا بالغ الصعوبة، ما أصاب صناعات الشاي بالتعطل، ودعا واحدةً من أكبر الشركات للاستغاثة.
حاولت المنصة التواصل مع مسؤول في شركة شاي العروسة لكنه رفض الحديث.
وبحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء استهلك المصريون شايًا في 10 أشهر، خلال الفترة من يناير/ كانون الثاني إلى أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ما قيمته 190 مليونًا و633 ألف دولار ،ما يعادل (وقتها) نحو 3 مليارات جنيه.
وبحسب موقع statista المتخصص في بيانات السوق والمستهلكين، جاءت مصر في المرتبة السابعة بين الدول المستهلكة للشاي.
أثارت أزمة الدولار أسئلةً حول أسباب غياب زراعة الشاي عن مصر، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أنَّ بلادنا كان لديها مشروعًا قوميًا لزراعة الشاي نهاية التسعينيات، ثم اختفى فجأة.
في إبشواي.. كان للشاي حكاية
بحسب باحث في المركز القومي للبحوث، طلب عدم ذكر اسمه، فالمسؤول عن إحياء فكرة زراعة الشاي خلال السنوات الأخيرة من تسعينيات القرن الماضي كان الدكتور مرتضى خاطر، الباحث في المركز نفسه (وقتها)، إذ استغل علاقته بوزير الزراعة الأسبق يوسف والي، وأقنعه بتجربة زراعة الشاي في مصر.
سافر خاطر إلى أمريكا وجلب شتلات للشاي، وبدأ بالفعل في تجربتها بمساعدة شركة أمريكية متخصصة في زراعة الشاي.
إبراهيم حجازي، المزارع في قرية تلات، بمركز إبشواي بالفيوم، كان شاهدًا على تلك التجارب "في البداية زرعنا الشتلات في مساحة صغيرة، ولما لقينا الجذور بتنمو وتتشعب نقلناها في مساحة قيراطين، ومع تأكيد النمو اتوسعنا في زراعة الشاي وخصصناله حوالي 7 فدادين".
كان ذلك في 2002، بحسب حديث حجازي للمنصة، وأُخذت عينات من النبات أُرسلت إلى المعامل لتحليل جودته، وكانت النتائج جيدة "قالولنا إنه زي المستورد ويمكن أحسن كمان"، ويضيف "بدل ما يخلوا ناس تانية تزرع والبلد تستفيد بلغونا بوقف التجربة".
الباحث الذي تحدث إلى المنصة يوضح أنه بعد سنتين من بداية المشروع (2003) أُوقف تمويله وأنهي عمل الشركة الأمريكية، "محدش يعرف الأسباب حتى الآن".
يقول حجازي إن مديرية الزراعة وقتها أجبرتهم على اقتلاع الزرع من الأرض قبل حصاده، وعندما سألوا عن السبب جائهم الرد بأن "الدولة مش عاوزة تزرع شاي، ودي مسألة أمن قومي وفيه اتفاقيات بينا وبين دول تانية، ومش عاوزين نزعل حد مننا".
لا يعرف حجازي طبيعة هذه "الاتفاقات"، غير أن الدولة لا تستورد بنفسها الشاي، بل تتولى ذلك شركات القطاع الخاص. ومن أهم الدول المورِّدة الهند وكينيا وسريلانكا.
خلافات فنية
تقدم وزارة الزراعة حاليًا تفسيرًا "فنيًا" لغياب زراعة الشاي، وهو ما نقلته صحيفة الشروق عن مسؤول في الوزارة مؤخرًا، قال إن "أشجار الشاي تحتاج إلى تربة حمضية وهي غير متوفرة في مصر التي تعتبر تربتها قلوية".
وهو ما يرد عليه المدير السابق للمشروع القومي للشاي، الدكتور مرتضى خاطر، في حديثه للمنصة التربة يمكن معالجتها باستخدام الأحماض العضوية في مياه الري، وهو ما نجح في التجربة.
كذلك، لم ينكر الباحث الذي تحدث إلى المنصة، أن الشاي يحتاج إلى تربة حامضية ما بين 4.5 إلى 5.5 ph بينما التربة المصرية قلوية ph 7، لكن "هذا الاعتقاد كان سائدًا في الماضي والبحوث العلمية أكدت فيما بعد أن الشاي يمكن أن ينمو في التربة التي درجة الـ ph بها ما بين 5.4 إلى 7 درجة"، وتابع "هذه الدراسات هي التي تم الاعتماد عليها في التجارب السابقة لزراعة الشاي في عدد من محطات البحوث".
ويشير مقال حديث لأستاذ بايوتكنولوجيا النباتات، الدكتور خالد سالم، إلى أن العديد من البلدان التي تقع خارج نطاق الموطن الطبيعي لزراعة الشاي قطعت خطوات مهمة في توطين هذه الزراعة ونجحت بالفعل.
وبحسب المقال، بدأ تركيا في زراعته وبعدها جورجيا عند خط عرض 42 شمالًا، وكذلك الأرجنتين على خط عرض 33 جنوبًا، وتقع مصر بين خطي عرض 22 و 32 درجة شمالًا و"هو ما يعني أن مصر تقع في منطقة حزام الشاي".
وأكد سالم أن نبات الشاي يمكن أن ينمو في أنواع مختلفة من التربة تتراوح ما بين الرملية الطميية والطينية الثقيلة، وأضاف أن "نمو نبات الشاي يحتاج لدرجة حرارة من 10 لـ30 درجة مئوية وهو ما يتناسب مع أجواء مصر".
دعوات برلمانية
مع تصاعد أزمة الشاي في الفترة الأخيرة، تحدث عضو لجنة الصناعة بمجلس النواب، علاء حمدي قريطم، عن أن مصر تستهلك وحدها ما يقرب من 4% من الإنتاج العالمي للشاي، داعيًا إلى "تبني استراتيجيات جديدة الهدف منها الحل الجذري لمسألة استيراد الشاي".
واقترح "تبني مصر خطةً لزراعة الشاي، بعد إجراء العديد من الدراسات والبحوث اللازمة"، مشددًا على "تمتع الأراضي في صعيد مصر بتربة مناسبة إلى حد كبير لزراعة الشاي". ودعا إلى "النظر في تجارب بعض الدول التي سبقتنا في مجال زراعة الشاي ودراستها".
أما الدكتور مرتضى خاطر فقال إن تكاليف زراعة الفدان الواحد فى السنة ما بين 12 إلى 15 ألف جنيه "شاملة كل حاجة؛ تعديل حامضية التربة والأسمدة والحصاد وغيرها"، مضيفًا أن هذا الفدان تصل إنتاجيته إلى نحو 2 طن أوراق شاى جافة، ويباع الطن الوحد بنحو 100 ألف جنيه.
لكن، كل هذه المطالبات بزراعة الشاي محليًا لم تجد صدىً لدى صنّاع القرار حتى الوقت الراهن، ولا تزال صناعة الشاي المحلية تحت أسر أزمات العملة التي يمكن أن تصيبها بعطل مفاجئ في أي لحظة.