"المرة دي راجل"، الجملة التي عقب بها كثيرون على إلقاء القبض على إبراهيم مالك صانع المحتوى على تيك توك، إثر بلاغ ضده من عدد من المحامين، يتهمه بـ"التحريض على الفسق والفجور والتعدي على قيم الأسرة المصرية".
ليس صحيحًا أن مالك هو أول الرجال المتهمين في قضايا من مثل هذا النوع، فسبقه أدمن صفحة سكسولوجي على فيسبوك محمد الجلالي، الذيي اتهمته النيابة في 27 أغسطس/ آب 2020 بـ"تسهيل ارتكاب الفجور"، حسب تقرير "قيم الأسرة المصرية تحاصر حرية التعبير" الصادر عن مؤسسة حرية الرأي والتعبير 2020.
غير أن مالك كان الأشهر، بعد أن وصل عدد متابعي حسابه نحو 280 ألفًا، يقدم من خلاله فيديوهات مستخدمًا فيها تعبيرات وغمزات، اﻷمر المستنكر في الثقافة المصرية التي تسمح للنساء بالاستعراض بالجمال بينما تبيح للرجال استعراض القوة والحكمة وفقًا لأدوارهما الاجتماعية المنمطة.
قدّم مالك نفسه مهندسًا كهلًا في منتصف اﻷربعينيات، يرغب في الزواج لـ"يعف نفسه" حسب وصفه. وسعيًا لذلك عقد عشرات اللقاءات الحية مع نساء من مصر وخارجها، كي يؤكد أنه "الملك" الذي يريد أن يختار امرأة ليجعلها ملكة.
وخلال اللقاءات يطلب من النساء الرقص واستعراض أجسادهن؛ كي يعاين البضاعة باعتباره "حق الملك" الذي يستحق أن يُرص له صفين من الجاريات، كونه رجلًا لا يعوض تجرى النساء وراءه.
بعد إذن اﻷسرة
حتى عام 2020 رُصد نحو 15 قضية لصانعات محتوى ألقي القبض عليهن بتهمة التعدي على قيم الأسرة، جراء الرقص والتمايل على الأغاني في فيديوهات مصورة لهن، ونشرها على حساباتهن الشخصية.
صدرت في حق بعضهن أحكام قضائية مثل حنين حسام ومودة اﻷدهم، في ظل اعتراضات من مؤسسات حقوقية، رأت أن سلوكهن لم يخرج عن أطر ممارستهن لحقوقهن الشخصية سواء الخاصة بحرية الرأي والتعبير، أو حرية إستخدام الإنترنت أو حرية الجسد.
ومع هوجة مجتمعية ضد "فتيات تيك توك" كما اشتهرن وقتئذ، أطلقت ناشطات نسويات حملة على فيسبوك بعنوان "بعد إذن الأسرة المصرية"، للمطالبة بالإفراج عن المتهمات في مثل هذا النوع من القضايا.
ترى لبنى درويش، مسؤولة ملف الجندر وحقوق الإنسان بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن الدولة تفترض وجود نموذج واحد للأسرة المصرية المثالية، ولديها نسق أخلاقي واحد، على الجميع الالتزام به، وتسن القوانين وفقًا لهذا المنطق المعيب؛ لأنه ببساطة يفتح الباب لأحكام قضائية مبنية على انحيازات شخصية.
وتضيف درويش في حديثها للمنصة أن القوانين تُسن لتجريم أو السماح بالأفعال المادية وليست بالقيم أو اﻷمور المعنوية، فاﻷخيرة مختلفة من شخص إلى آخر، ولا يمكن اعتبارها معيارًا، مضيفةً "لحد دالوقت مش فاهمين بالظبط إيه هي قيم اﻷسرة، ولا امتى نعتبر فعل ما تجاوزًا، كلام فضفاض يخليها تهمة تتربص بنا كلنا، وتهدد أي صانع محتوى".
"فسق" أول مرة
كان أول ظهور لما عرف بجرائم التحريض على الفسق أو الفجور في القانون، وقتما عُدل قانون العقوبات بشأن "نشر أخبار كاذبة والتحريض على الفسق" بالقانون 568 لسنة 1955، بعد أن جرّم القضاء عام 1949 الدعارة بعدما كانت مقننة ولها ضريبتها المسددة للدولة.
وقتها قصد القانون بالتحريض على الفسق "القوادين" الذين "يدعون الناس لممارسة البغاء في السر". وفي عام 1961 صدر التعريف محددًا في المادة 1 من قانون مكافحة الدعارة رقم 10 لسنة 1961. تنص على "كل من حرض شخصًا ذكرًا كان أو أنثى على ارتكاب الفجور أو الدعارة أو ساعده على ذلك أو سهله له. كذلك كل من استخدمه أو استدرجه أو أغواه بقصد ارتكاب الفجور أو الدعارة. يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على ثلاث سنوات وبغرامة من مائة جنيه إلى ثلاثمائة جنيه".
والدعارة، بحسب القانون، تعني إقامة علاقة جنسية مع امرأة بمقابل مادي، أما الفجور فكان يعني إقامة علاقة جنسية مع رجل بمقابل مادي.
إشكاليات قانونية
ثمة إشكاليات تحيط بجريمة التحريض على الفسق والفجور في قانون الدعارة، يتوقف هنا المحامي ياسر سعد ليؤكد أن الصياغة الأولية لمادة الفسق والفجور تستلزم حدوث الفعل، بمعنى أن الدعوة تصدر من الشخص المحرض وتُقبل من المدعو ويُرتكب الفعل واقعيًا.
يشدد سعد للمنصة على عدم توفر عنصر ارتكاب الفعل في حالات نشر المحتوى على منصات السوشيال ميديا، بالتالي لا دليل على أن الفتيات اللاتي دعتهن حنين حسام مثلًا للاشتراك في منصة لايكى أو غيرها استجبن للفعل أو ارتكبن "أعمالًا فاسقة" بناءً على ما قيل، ولا حتى على تلبية النساء اللاتي دعاهن إبراهيم لممارسة علاقات غير شرعية لدعواته.
"عنصر آخر غير متوفر في المحاكمات، وهو ما استقرت عليه محكمة النقض من ضرورة توافر مبدأ (الاعتياد) فيما يخص مسألة الفسق والفجور، وتقرّ الإدانة في حالة اعتياد المتهم تكرار الفعل"، بحسب سعد.
لغياب عنصري الاعتياد وارتكاب الواقعة فعليًا غالبًا ما تسقط التهم عن أصحابها. لكن السلطة لابد لها أن تعيد "تقييف" التهمة من جديد، وهنا يظهر قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات الصادر في 14 أغسطس/ آب 2018.
وتنص المادة 25 منه على أنه "يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تجاوز مئة ألف جنيه، أو باحدى هاتين العقوبتين، كل من اعتدى على أى من المبادئ أو القيم الأسرية فى المجتمع المصري، أو انتهك حرمة الحياة الخاصة، أو أرسل بكثافة العديد من الرسائل الإلكترونية لشخص معين دون موافقته، أو منح بيانات إلى نظام أو موقع إليكتروني لترويج السلع أو الخدمات دون موافقته، أو بالقيام بالنشر عن طريق الشبكة المعلوماتية أو بإحدى وسائل تقنية المعلومات، لمعلومات أو أخبار أو صور وما في حكمها، تنتهك خصوصية أي شخص دون رضاه، سواء كانت المعلومات المنشورة صحيحة أم غير صحيحة".
ويتصور سعد أن الحملة الشرسة على صناع المحتوى التي تزعم المحافظة على الأخلاق في باطنها معركة أخرى تقودها الحكومة ضد الاقتصاد التي تراه غير رسمي. فرغم أن عمل المنصات والتعامل مع صناع المحتوى غير مجرم قانونًا، طرحت الحكومة في نقاشات عدّة ضرورة خضوع التكسّب من النشر للضرائب، وعليه دعت صناع المحتوى لتقديم تقارير ضريبية ودفع الضرائب عن أرباحهم.
حوار طبقي
تدعونا درويش هنا إلى تأمل رحلة تيك توك في مصر والسياق الذي انتشر من خلاله، إذ بدأ كمنصة مغلقة على طبقات مهمشة، قبل أن يتغول بين فئات أخرى مع فترة الحجر الصحي في بداية انتشار فيروس كورونا، وهجرة الناس للعالم الرقمي ودخول فئات له على رأسها الفنانين والفنانات.
تقول درويش "التقت الطبقات الاجتماعية ببعضها بعضًا، وتضاربت الأنظمة الأخلاقية فيما بينهم، ويبدو أنه أمر مقلق للمؤسسات الرسمية لأنها منشغلة بالفصل الطبقى وغلق مساحات التحاور بين الطبقات".
وترى درويش أن الفقراء أكثر المتهمين بـ"الابتذال"، وهو حُكم تمرره الطبقة الوسطى صاحبة الرأسمال الاجتماعي، ومن خلاله تمارس سلطتها في تعميم معاييرها الأخلاقية.
وحسب تقرير "دليل السائلين عن قضية مودة وحنين" الصادر من المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، زاد في الربع الثاني من 2020 عدد مستخدمي تطبيق تيك توك على نحو هائل بسبب إجراءات كوفيد-19 الوقائية،التي انتهت بقضاء عدد كبير من المواطنين وقتًا أكبر بمنازلهم وبالتبعية على مواقع التواصل الاجتماعي.
ويوضح التقرير تغيير تركيبة مستخدمي تيك توك، حين بدأ في استخدامه بعض من مشاهير الصف الأول في مجالات السينما والغناء. وبدأت فيديوهات قدامى مشاهير تيك توك في الانتشار على المنصات الأخرى، بالأساس كمادة للسخرية من صانعيها وخلفياتهم الطبقية والتعليمية.
التحليل الطبقي والاقتصادي كفيل بفك معضلة ازدواجية المعايير في التعامل مع المحتوى على الأنترنت، ويمكن أن يفسر لنا كيف أن الأعداد المهولة من المواطنين الذين يسجلون الإعجاب والمتابعة لصانع محتوى في اللحظة نفسها يرونه متجاوزًا للأخلاق، ويفرحون لردعه من قبل الأجهزة الرسمية، وكأن مطالبة الدولة بمحاصرة صناع المحتوى ومعاقباتهم على ما يعتبرونه منافيًا للأخلاق أسهل كثيرًا من ضغطة زر عدم المتابعة.