تصميم: يوسف أيمن- المنصة

هنا مسطرد.. انبعاثات ضارة وحكومة مطمئنَّة

منشور الخميس 3 نوفمبر 2022

مساء 19 يوليو/ تموز الماضي جلست دينا عاشور في منزلها بحي الزيتون تستمع لمداخلة هاتفية على إحدى الفضائيات مع مسؤول بيئي رفيع، كان يقلل من خطورة انبعاثات الغاز الخانق من مجمع التكسير الهيدروجيني بمسطرد، الذي يبعد عن بيتها بحوالي ستة كيلومترات.

كان علي أبو سنة، رئيس جهاز شؤون البيئة، الذي سمعته دينا، وهي ثلاثينية تعاني من ضيق التنفس، يعلّق على طلب إحاطة تقدم به عضو مجلس النواب عمرو رشدي بشأن الانبعاثات الضارة. لم ينفِ أبو سنة الانبعاثات بصورة كاملة، لكنه قال إنها "ليست عالية الخطورة" وتخضع للقياس المستمر.

وتوسع اهتمام الخطاب الرسمي المصري منذ قمة باريس للمناخ عام 2015، بالمساهمة في محافل البيئة، خاصة بعد تعهد مصر بخفض الانبعاثات والحد منها، وبدء التعاون مع المجتمع الدولي، سعيًا لدور أكثر حيوية، ليس داخل مصر فحسب، ولكن على المستوى الإفريقي.

كما تستضيف الحكومة المصرية مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ COP27 الشهر المقبل، في مدينة شرم الشيخ.

لم تكن دينا تعرف سر ضيق التنفس الذي ينتابها منذ ثلاثة أشهر، في أوقات متفرقة من الليل وفي ساعات الصباح الأولى، خاصة وأنها لم تكن مريضة حساسية، وسجلها الصحي سليم. ولكنَّ حديث المسؤول نبهها إلى أن انبعاثات مجمع التكسير الهيدروجيني المجاور قد تكون وراء تلك الحالة.

بحسب أبو سنة، تضم منطقة مسطرد ثمانية مصانع و16 مدخنة، يقومون بإنتاج 40% من المواد البترولية، رُبطت على شبكة الطوارئ الخاصة بوزارة البيئة، وستخضع للمراقبة لمدة ثلاثة أشهر، بحسب تصريحاته التليفزيونية.

تحركات من المواطنين

بدأت الانبعاثات تصل بشكل كبير لسكان مصر الجديدة منذ نهاية عام 2021، وهو ما دفعهم إلى إنشاء جروب على فيسبوك بعنوان "كفاية ريحة انبعاثات بترولية"، لكي يحصروا أكبر قدر من الشكاوى من المناطق المحيطة بالمصنع، وتطوعت دينا بالمساعدة في تجميع بيانات المناطق المتضررة.

في 23 يوليو/ تموز الماضي، أصاب دينا دوار صاحبه زيادة في دموع العينين والتعرُّق، وبرودة في أطرافها مع ارتفاع درجة حرارتها، ما دفعها إلى زيارة طوارئ مستشفى مصر الجديدة العسكري، حيث خضعت لجلسة تنفس بالبخار، وأُعطيت عقاقير مضادة للحساسية "لم أكن يومًا مريضة حساسية ولم أتعرض لأي أمراض تنفسية"، تقول دينا للمنصة.

وصلت دينا لمجموعات المتضررين عبر البحث على فيسبوك بكلمتي "ريحة غاز"، بعدما انتابها الفضول لتعرف هل يشم أحد ما تشمه في الهواء، لتجد الكثير من البوستات ذات الصلة، مع شكاوى صحية متشابهة ومن هنا بدأت حصر المناطق.

صورة من نافذة أحد منازل مسطرد لمداخن مصنع التكسير الهيدروجيني

لا نستطيع الجزم

مصدر رسمي مطلع على ملف الانبعاثات بوزارة البيئة، فضل عدم ذكر اسمه، قال للمنصة إنه لا يستطيع الجزم بأن الانبعاثات التي تصدر من منطقة مسطرد آمنة "أقول منطقة مسطرد، ولا أستطيع الإشارة إلى مصنع بعينه. فالموضوع سيأخذ الكثير من الوقت لنعرف المسؤول عن تلك الانبعاثات، فالمنطقة بها أكثر من 8 شركات بترولية ما بين إنتاج وتوزيع ونقل، فهي أكبر مجمع للطاقة في مصر".

وأضاف أن هناك لجنة داخلية شكلتها وزارة البترول، وجميع تقاريرها توضع تحت عنوان "هام جدًا" وترسل مباشرة لأعلى الجهات الحكومية والرئاسية، لبيان الوضع البيئي في منطقة مسطرد.

وعن نقل المصانع، أوضح المصدر أن ذلك غير وارد، لأنها عدة شركات إنتاج ضمن مشروع بترولي متكامل، وتكلفة نقلها ستكون كبيرة جدا، "البديل الآن أن نسيطر على تلك الانبعاثات، لأنها تصب عكس اتجاه الدولة التي تسعى لاستخدام الطاقة الخضراء".

تضع دراسات هذه المشروعات ضوابط عامة لتلافي المخاطر، وكذلك "يستخدم مجمع مسطرد أحدث تكنولوجيا للحد من الانبعاثات"، بحسب المصدر، "ولكن أثناء التشغيل تظهر مخاطر، مثل العوامل الجوية المفاجئة أو التغير في المدخلات وفي العملية الإنتاجية، وبالتالي فالأمر وارد حدوثه".

وعن مدى أمان الانبعاثات قال المصدر "لا نستطيع الجزم. فالأمر معقَّد، وتحديد مصدر التلوث يحتاج شهورًا. نحن نواجه كيانًا ضخمًا جدًا، وسيكون السؤال الآن، هل اختلف الوضع عما كان منذ شهرين؟ هل حدث تغيير نسبي حتى؟"، مشيرا إلى أن اللجنة المشكلة من وزارة البيئة ستعكف على استمرار زياراتها لمسطرد حتى موسم الربيع القادم في مارس/ آذار المقبل.

وبسؤاله ما إذا كان الأمر سيشكل حرجًا اذا أثيرت تلك القضية في مؤتمر المناخ بشرم الشيخ، أوضح أن ذلك سيثير بالطبع حالة من الحرج، ولكن وزارة البيئة تقوم بما عليها من أجل خفض الانبعاثات والسيطرة عليها حتى تخلق نوعية هواء صحيَّة، وأردف "ولكن حرية التظاهر مكفولة للجميع لإبداء الرأي، وهناك منطقة مخصصة لذلك على هامش القمة".

دراسة الأثر البيئي

قبل إنشاء أي مشروع بترولي يتم عمل دراسة لتقييم الأثر البيئي، وهي عبارة عن عملية تدريجية منظمة توفر هيكلًا لجمع وتوثيق المعلومات والآراء حول الآثار البيئية، لمساعدة المنشأة في تحسين أدائها البيئي.

لم نستطع أن نصل لدراسة الأثر البيئي لمشروع مجمع التكسير الهيدروجيني، ولكن توصلنا لواحد ممن اطلعوا عليها، وهو الدكتور هشام القصاص، عميد كلية البحوث البيئية بجامعة عين شمس سابقًا.

قال القصاص للمنصة إنه اطلع على الدراسة في 2010، بطلب من مجلسي مدينة مسطرد وبهتيم لبيان رأيه العلمي فيها، فأرسل ملاحظاته، وكان على رأسها أنَّ هذا المشروع سيؤثر بيئيًا ليس على سكان مسطرد فقط، ولكن سيمتد إلى مصر الجديدة، وستسبب انبعاثاته 20 ألف حالة سرطان سنويًا بواقع أرقام الانبعاثات الواردة في الدراسة، "وهذا ليس من عندي بل بناء على التحليل العلمي لما ورد في الدراسة".

وضع القصاص وقتها عدة اشتراطات من ضمن ملاحظاته، على رأسها عدم سحب المياه يوميًا من ترعة الإسماعيلية أو إلقاء أي مخلفات بها، وعمل فلاتر لمعالجة الانبعاثات داخليًا على أكثر من مرحلة بسبب خطورتها، وحتى لا تسمّم هواء المناطقة المحيطة بها.

كما اشترط في ملاحظاته تشجير المنطقة بشكل كبير لخلق توازن بيئي لمواجهة الانبعاثات، وهو ما لم يحدث بناء على مناظرتنا للمنطقة، وبناء على حديث القصاص الذي عاين المنطقة في 2010.

وأيضًا تبين له خطأ قول الدراسة بعدم وجود سكان إلا على بعد خمس كيلومترات، وهو غير صحيح فالكتلة السكانية تقع على بعد 50 مترًا من المجمع.

الشبابيك المغلقة

أكرم صبري، أحد سكان منطقة مصر الجديدة، قرر اتباع المسلك القانوني واستعان بقسم الشرطة منذ شهر يوليو الماضي لإثبات حالة انتشار غاز خانق بشقته "وصل نقيب بصحبة أمين شرطة في الخامسة فجرًا وأكد لي أنه سيبلغ إدارة البيئة"، يقول للمنصة.

ثم قام في أبريل/ نيسان الماضي باستدعاء شركة الغاز الطبيعي، لبيان إذا ما كانت تلك الرائحة نتيجة تسريب ما بأنابيب الغاز، لكنها أكدت أن التوصيلات التي رُكّبت حديثًا في المنطقة "سليمة".

أما س. أ. من مصر الجديدة فحدثتنا قائلة "بقالنا أربعين سنة في مكاننا، ومكناش بنعاني من تلوث بسبب عوادم السيارات، زي ما ردت علينا وزارة البيئة. احنا مبنقدرش نفتح الشبابيك بسبب ريحة الغاز".

منطقة مسطرد "كارثة بيئية"

أُنشئت منطقة مسطرد في ستينيات القرن العشرين شمالي القاهرة، وبحكم موقعها فتلوث الهواء بها سيمتد للقاهرة لأن اتجاه الرياح شمالي (شرقي وغربي)، بحسب العميد السابق لكلية التخطيط العمراني بجامعة القاهرة، الدكتور عباس الزعفراني "هناك انبعاثات لمصانع تمتد لنصف كيلومتر فقط فتكون غير مضرة ونسبة انتشارها قليلة، وهناك ما تمتد لعشرات الكيلومترات، وهذا يرجع لعدد من الأمور، منها حجم الملوثات وارتفاع المداخن، وماهية المخرجات، والمعايير التي لم تراعها".

أغلب الشكاوى التي اطلعت عليها دينا باعتبارها من ضمن المسؤولين عن إدارة مجموعة "كفاية ريحة انبعاثات"، كانت من سكان مسطرد، ومصر الجديدة، وحلمية الزيتون، والمطرية، والألف مسكن، وجسر السويس، وكانت هناك عدد قليل من الشكاوى في مدينة نصر.

وهو ما استبعده المسؤول البيئي قائلًا "أبعد من مصر الجديدة ندرجها تحت تناقل الإحساس العام".

وتابع موضحًا "هناك 6 ملوثات للهواء حددتها منظمة الصحة العالمية، هي الجسيمات الدقيقة وأوّل أكسيد الكربون والأوزون وثاني أكسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكربون".

الأحياء المتضرر سكانها من رائحة الانبعاثات البترولية حسب الشكاوى في جروب فيسبوك

ويوضح الدكتور عباس الزعفراني أن مسطرد امتداد لمنطقة شبرا الخيمة، التي أنشئ بها محطة توليد كهرباء ضخمة على النيل عام 1982، وكل هذا تسبب في ملوثات تدخل في رئة الناس هناك، ومع تزايد عدد السكان ونزوح السكان للمناطق الزراعية حول المنطقة، ارتفعت معدلات التلوث.

يشيد الزعفراني بتجربة وزارة البيئة في التسعينيات بنقل المصانع من المناطق السكنية، ما كان له أثر في تقليل نسب التلوث. غير أن مصنع تكرير البترول شرقي شبرا الخيمة، لم يدخل ضمن الخطة، خاصة أن فكرة نقل مصنع بتلك الضخامة كان شيئًا غير وارد، وهو ما استبعده أيضًا مع مجمع مسطرد.

في البحث الذي أعدته الأستاذة بقسم التخطيط البيئي بجامعة القاهرة، الدكتورة وسام مصفي، تحت عنوان التخطيط البيئي للمناطق الصناعية في مصر، أشارت إلى أنه يجب الاتجاه نحو التخطيط البيئي للمناطق الصناعية أو ما يعرف بصفة عامة بالتخطيط الإيكولوجي. وهو أحد التوجهات البيئية الحديثة في مجال التخطيط الصناعي، ولكن مع الأخذ في الاعتبار أن ذلك التخطيط لا يمثل بديلًا عن كل من التخطيط الاجتماعي والاقتصادي والعمراني، لكنه مكمِّل لهما.

وأشارت مصفي في بحثها إلى أن مصافي البترول ينتج عنها ثاني أكسيد الكبريت، والضباب، وحمض الكبريتيك، وثالث أكسيد الكبريت، وهو ما يمكن أن يسبب العديد من الأمراض، بالإضافة إلى انبعاثات الكربون التي ينتج عنها الشعور بالخمول والإرهاق والتعب في الأعصاب.

 ووفقًا لتقديرات البنك الدولي في تقرير له فإن التردي البيئي الناتج عن تلوث الهواء يكلف مصر نحو 2.42 مليار دولار سنويًا.

المسلك القانوني

يسعى سكان تلك المناطق إلى جمع توكيلات لمكتب محاماة، لرفع قضية لوقف انبعاثات المجمع ولبيان من المسؤول تحديدًا عنها، ولكن الأمر يسير بوتيرة بطيئة نظرًا لخوف الأهالي، كما حدثنا نمير نشأت، أحد المتضررين والذي تولى أمر المباردة.

وأكد نشأت أن المسار القضائي هو الحل الأخير "بعد أن فشلت الشكاوى اللي تم إرسالها لمجلس الوزراء، ولكن هناك فقط 10 توكيلات تم جمعها".

ما زالت دينا مستمرة في سعيها لإيصال أصوات المتضررين وهي منهم، حتى يتم إيقاف تلك الانبعاثات الخانقة التي ما زالت تستنشقها هي ومن عبروا عن ضيقهم منها، وما زالت أيضًا تقوم بحصر الشكاوى الخاصة بالرائحة وتسجّل توقيتاتها، مطالبة جيرانها بعمل التوكيلات القانونية، حتى يمكنهم استنشاق الهوء بلا خوف.