تعيد فاجعة حريق كنيسة الشهيد فيلوباتير أبو سيفين بإمبابة النقاش مجددًا حول أزمة بناء الكنائس في مصر والاشتراطات اللازم توفرها، وحالة الكنائس الحالية من حيث السلامة الإنشائية وإجراءات الحماية المدنية، وكيفية معالجة أوجه الخلل بها، خصوصًا في ظل حساسية التعامل مع دور العبادة بشكل عام، وتقاطع المسؤوليات ما بين المؤسسات الدينية والسلطات الحكومية والمحلية.
ومن الضروري الاستفادة من هذا النقاش حتى لا تتكرر الكارثة مرة أخرى، فحق أولئك الضحايا الذين قضوا جراء الحادث سيتحقق بالكشف عن أسبابه، ومكامن القصور والإهمال، التي يجب على جهات التحقيقات أن تعلنها صراحة مهما كان المسؤولين عنها، فالحادث جرس إنذار عن حجم الخطر الذي يمكن أن يتكرر في المستقبل لو اكتفينا بخطابات الدعم والتضامن وإعادة تأهيل الكنيسة فقط.
من هنا بدأت المشكلة
لمعرفة كيف وصلنا إلى هذه النقطة، نحتاج للرجوع بالزمن كثيرًا، فقبل قانون بناء الكنائس الحالي رقم 80 لسنة 2016، كانت عملية بناء الكنائس تخضع لتنظيم قانوني قائم على الخط الهمايوني، الذي أصدره الخليفة العثماني السلطان عبد المجيد الأول عام 1856 لإجراء إصلاحات دينية في الولايات العثمانية، وقصر قرار بناء الكنائس على السلطان العثماني، وهي السلطة التي انتقلت بدورها إلى الملك ثم رئيس الجمهورية فيما بعد.
لم يتضمن الخط أية إجراءات إدارية تنظيمية محددة، إلى أن وضع وكيل وزارة الداخلية العزبي باشا عام 1934 شروطًا عشرة، كانت أقرب لمنع لا تنظيم بناء الكنائس.
كانت بعض الشروط خاصة بالمسيحيين، منها عدد أفراد الطائفة التي تريد بناء الكنيسة، وهل توجد أخرى بالبلدة بخلاف المطلوب بناؤها، وأخرى ترتبط بالمسلمين في المنطقة مثل مقدار قرب الكنيسة من المساجد والأضرحة، وما إذا كانت وسط أماكن المسلمين أو المسيحيين، وإذا كانت وسط أماكن المسلمين فهل ثمة مانع من بنائها. بالإضافة للشروط الخاصة بالإجراءات وطبيعة استخدامات الأرض المراد البناء عليها.
أدت هذه الشروط لأن يصبح بناء كنيسة جديدة أشبه بعملية مستحيلة، تارة لرفض الأجهزة الأمنية والإدارات المحلية، وتارة أخرى لرفض أهالي المنطقة المسلمين. وكان بناء مسجد بجوار أي قطعة أرض يخطط لإقامة كنيسة عليها أحد الطرق غير المباشرة التي تستخدم لتعطيل بناء الكنائس إذ يترتب على ذلك فقدان شرط من شروط العزبي باشا المشار إليها سابقًا. وحتى لو حصلت الكنيسة على قرار جمهوري بالبناء فكثيرًا ما يتم العبث بالأرض حتى لا ينفذ القرار.
كنائس البيوت
أدت هذه الصعوبات القانونية والإدارية والشعبية إلى ظهور ما يمكن تسميته بـ "كنائس البيوت"، فالحاجة خلقت نوعًا من التحايل على صعوبات البناء؛ يقوم بمجموعة من المسيحيين بتخصيص منزلهم أو شراء منزل ثم هدم حوائطه الداخلية، وتفريغه ليلائم ممارسة الشعائر الدينية، وفي بعض الأحيان يكون المنزل ورشةً أو مصنعًا صغيرًا ثم يجرى إعداده ليتحول إلى مكان عبادة.
بعد ذلك، تُنظَّم الشعائر الدينية بشكل غير منتظم، ثم يعيَّنُ رجلُ دينٍ للطقوس الدينية. وعنما تعلم أجهزة الأمن بالأمر، إما أن تغلق المكان، خاصة إن كان هناك تذمر من السكان المسلمين، أو يتحول المبنى إلى كنيسة وتوضع عليه حراسة، وهكذا نشأت نسبة كبيرة من الكنائس خلال العقود الأخيرة.
صدر القانون رقم 80 لسنة 2016 الخاص ببناء الكنائس بدون حوار مجتمعي، وفي شكل تمييزي.
هذه الكنائس لا تملك ترخيصًا رسميًّا ولم تصدر بقرار جمهوري، لكنها أصبحت بقوة الأمر الواقع كنيسة. وغالبًا ما تكون حالة تلك الكنائس متهالكة وغير مجهزة لاستقبال مئات المصلين بشكل منتظم ومكثف، خاصة مع مراعاة إقامتها في شوارع ضيقة لا تلفت الأنظار. وبطبيعة الحال لم تراعَ بها إجراءات السلامة، من وجود عدة مداخل ومخارج للهروب، وتجهيزات من حيث البنية الأساسية، تحتمل الكهرباء والمياه وغيرها من الخدمات.
ومع تكرار التوتر والعنف الطائفي خلال السنوات الأخيرة لحكم مبارك بسبب بناء وترميم الكنائس، تعالت الأصوات المطالبة بتغيير هذا الوضع من قوى مجتمعية وسياسية متنوعة، مشيرة إلى أن استمرار هذه القيود يهدر حقوق المواطنة.
وطالب البعض بسن قانون جديد لتنظيم بناء دور العبادة، وهو المطلب الذي تزايد بشكل واضح عقب ثورة 25 يناير، مع فتح المجال العام جزئيًا ووقوع عدد من حوادث العنف الطائفي، لتبدأ حكومة الدكتور عصام شرف في مناقشة القانون، لكنَّ رفض المؤسسات الدينية الإسلامية الرسمية و بعض القوى السياسية اﻹسلامية لوجود قانون يضم المساجد والكنائس معًا، سد الطريق على صياغة ذلك التشريع.
وبعد إزاحة جماعة الإخوان المسلمين عن الحكم، ألقت التوازنات السياسية بظلالها على عملية صياغة الدستور الجديد في 2013، حين رفعت مطالب كنسية ومدنية بضرورة وضع قانون منصف وعادل لبناء الكنائس يعالج الخلل التشريعي القائم.
قانون بناء الكنائس الحالي
صدر القانون رقم 80 لسنة 2016 الخاص ببناء الكنائس من دون حوار مجتمعي، وفي شكل تمييزي، يشرعن الأمر الواقع والقائم على التمييز الصريح بين المواطنين المصريين من حيث الحق في ممارسة شعائرهم الدينية، عن طريق ترتيب شروط معقدة لإقرار بناء كنائس جديدة، وإسناد مهمة تنظيم بناء دور العبادة عمليًا للأجهزة الأمنية، وإن كان القرار في النهاية يصدر بتوقيع محافظ الإقليم.
وأصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بمناسبة مرور خمس سنوات على صدور القانون قائمةً بعيّنة من عشر حالات، أغلقت فيها كنائس ومبانٍ دينية بعد إقرار القانون، وما زالت مغلقة، كنماذج لمخالفة قانون بناء الكنائس رغم كافة التحفظات عليه، وهي موزعة على عدد من المحافظات.
ينظم القانون الحالي موضوعين؛ الأول بناء الكنائس الجديدة، والثاني تقنين وضع الكنائس المقامة بالفعل لكن دون قرار رسمي.
شكلت اللجنة العليا لبناء الكنائس برئاسة رئيس مجلس الوزراء للنظر في الطلبات التي قدمت إليها من الكنائس وبلغ عددها 5415 كنيسة ومبنى دينيًا، صدرت موافقات مبدئية لـ 2401 كنيسة ومبنى حتى اليوم وبنسبة 45% تقريبًا بعد ست سنوات من القانون.
وعادة ما تقترن هذه الموافقات بشروط مثل استيفاء حق الدولة لو كانت الكنيسة مبنيةً على أراضٍ تخضع للملكية العامة، أو الهدم وإعادة البناء لو كان المبنى يهدد سلامة المصلين، أو تركيب أجهزة الحماية المدنية.
لا نملك إحصاءً لا من اللجنة العليا أو من الكنائس المختلفة بعدد الكنائس التي حققت كل الشروط، وكذلك عدد كنائس البيوت التي يصعب الالتزام بجميع الشروط، وهنا يثور تساؤل؛ ما العمل؟
طرح البعض فكرة إصدار قانون موحد لدور العبادة، وهو مطلب ضروري ومهم لتحقيق العدالة والمساواة، لكنه لن يحل المشكلة الحالية المرتبطة بإجراءات الحماية والسلامة للكنائس القائمة بالفعل، خصوصًا بعدما تزايدت حرائق الكنائس صيفًا خلال السنوات الأخيرة، التي وصلت لنحو عشرين حادثًا منذ 2016.
أولى خطوات الحل، أن تفصل الحكومة بين تقنين الكنائس من جهة وتحقيق إجراءات السلامة والحماية المدنية من جهة ثانية.
من ضمن الأفكار التي طرحت غلق الكنائس غير الآمنة أو نقلها إلى مواقع أخرى، وهى أيضًا حلول غير عملية. لا أعتقد أن جهة ما إدارية أو دينية تستطيع اتخاذ قرار الغلق. أما نقل الكنائس فلا يتخيل حدوثه في ظل صعوبات الحصول على قرارات بناء كنائس جديدة في المناطق القديمة، ناهيك عن إمكانية توفير هذه الأماكن وتكلفتها ومدى قربها من التجمعات السكنية.
أولى خطوات الحل، أن تفصل الحكومة بين تقنين الكنائس من جهة وتحقيق إجراءات السلامة والحماية المدنية من جهة ثانية، فعليها أن تصدر قرارًا واحدًا يتضمن تقنين كل الكنائس والمباني الخدمية التي قدمت للجنة، ثم تبدأ بدراسة حالة كل كنيسة على حدة، لأن الربط بينهما إما أنه يجعل من استيفاء الشروط مسألة شكلية بالنسبة للكنيسة التي تسعى للحصول على قرار الترخيص، أو يُستخدم كحجة من المحليات لتعطيل عملية التقنين، مثل المطالبة بوضع بوابات إلكترونية للدخول في بعض كنائس القرى، لا تتناسب مع طبيعة المنطقة أو حتى إجراءات السلامة في المباني الإدارية والخدمية المجاورة.
هنا يأتي دور وزارة الإسكان التي يجب عليها أن تحدد كود السلامة بصفة عامة لكل المؤسسات التي تستقبل أعدادًا كبير من المواطنين، مثل دور العبادة والمدارس والمستشفيات والوحدات الصحية وغيرها، على أن يتضمن حلولًا عملية مناسبة لهذه المنشآت المقامة بالفعل ونشاطها وموقعها، التي يصعب إجراء تعديلات إنشائية عليها، وتوفير سيارات الإطفاء والإسعاف في مواقع قريبة منها.
ولا يمكن إعفاء رئاسة الكنيسة مما حدث، هناك جانب من الإهمال واضح، كان عليها مع تزايد الحرائق، أن تستشعر الخطر، وتبادر بتشكيل لجنة خبراء لوضع إجراءات للسلامة مناسبة للمباني الكنسية، مع تدريب عدد من الموظفين أو الأمن الإداري على الإجراءات الواجب اتخاذها في حالات الطوارئ وسبل إخراج المصلين في وقت الأزمة.
الكنيسة مطالبة الآن من واقع مسؤوليتها الدينية والتنظيمية بأن تصدر تعليمات واضحة بتنظيم الأنشطة والحد منها، وتقليل أعداد المصلين ومتلقي الخدمات واستخدامات الكهرباء، لحين استيفاء متطلبات الحماية المدنية الضرورية، مع معاقبة مسؤولي الكنائس غير الملتزمة.