تصميم: أحمد بلال - المنصة
الرجل الكمبيوتر

قبل أن نصبح "زي قِلتنا"

منشور الجمعة 29 يوليو 2022 - آخر تحديث الجمعة 29 يوليو 2022

في بداية الألفية كتبت نصًا عن علاقة حب بين امرأة وكومبيوتر، علاقة فيها حلاوة البدايات والشغف، وفيها الفقد والألم. ليصدر  بعد ذلك سنة 2013 فيلم HER الذي يحكي قصة رجل يقع في غرام مُساعِدة إلكترونية افتراضية.

يومها اعتبرت أن خيالي "الفذ" جاء بالفكرة قبل كاتب الفيلم وندمت أنني لم أنشرها، لو كنت لجمعتُ أطراف المجد! لكني اليوم أكثر وعيًا وإدراكًا أنها فكرة خطرت لنا جميعًا وأن كثيرين كتبوها، وأن خيالي ليس استثنائيًا، بل يشبه خيال أبناء جيلي الذين تعرفوا إلى الإنترنت متأخرين نسبيًا، من أبناء السبيعنيات والثمانينيات. 

نحن الذين انفتحت أعيننا على غرف المحادثة وماسنجر، في وثبة هائلة لفكرة أصدقاء المراسلة، التي قطع بها جيلي المسافات وانتظر ساعي البريد على أحر من الجمر. تخيلنا الحب الإلكتروني وعشناه بطريقة أو بأخرى  وتخيلنا حرب الروبوتات والبشر للسيطرة على الأرض. تحولت كل تلك الأفكار إلى مئات من الروايات والأفلام التي نسميها "الخيال العلمي". 

اليوم يمكنك أن تشتري روبوتًا وتعيشان حياة الأزواج، أو تطبيقًا ذكيًا لحبيب على الهاتف يعرف مزاجك ويراعيك أكثر من شريك يقاسمك السرير! الخيال العلمي صار واقعًا إذًا، وما عاد يستدعي الاستغراب. لكن علينا أن نبدأ بالتحضير لما بعدَ بعدَ الخيال العلمي. 

أتذكرون قبل بضعة أيام كان هناك خبر عن طفل كسر الروبوت أصبعه بينما كانا يلعبان الشطرنج؟ الخبر جاء في ختام نشرات الأخبار وعلى صفحة المنوعات في المواقع الإخبارية، لكن "ذكائي الفذ" هذه المرة ينبئني بأنه في يوم ليس ببعيد سيصبح خبرًا مشابهًا عنوانًا رئيسيًا! 

هل يعي الروبوت الطبيعة العدوانية للفعل الذي أقدم عليه؟ أم هو مجرد خطأ تقني بسبب حركة يد الطفل السريعة؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال لا ننسى أن الروبوت مزود بالذكاء الاصطناعي الكافي للتخطيط والتحرك في لعبة تحتاج إلى قدر عالٍ من التركيز والتفكير ولا شك الذكاء. ولا زلنا نتابع قصة موظف جوجل الذي ادعى أن الروبوت لامدا الذي تطوره الشركة يمتلك وعيًا ذاتيًا ويستطيع التفكير واتخاذ القرارات باستقلالية. كم تبدو الأفلام متقدمة جدًا عن الواقع إذا ما قارناهما.

عملية تطبيع العلاقة مع الآلة بدأت في العشرين سنة الماضية، وأصبحت أكثر طبيعية حينما توقفنا عن التذمر من خدمة العملاء الافتراضية في اتصالاتنا مع البنوك والشركات حتى وصلت إلى عيادات الأطباء والمستشفيات.

مثلًا هُنا في بريطانيا تسألك الآلة "قل بكلمات قليلة سبب اتصالك"، فترد "رؤية الطبيب"، وتكررها عليك بصوت بشري، حتى تخال أنها ستقول لك "لا ألف سلامة عليك!"، وتستمر المكالمة الافتراضية حتى يتم تشخصيك مبدئيًا ثم تحويلك إلى الجهة المعنية بحالتك… من الكورونا إلى خدمة الطوارئ والسكتات القلبية.  

قبل أن تصبح "زي قلتك"

العزيزة أليكسا صارت اليوم شريكة في معظم البيوت حول العالم، تعرفها أكثر من أصحابها، تذكرُهم بالواجبات المتأخرة، وتتبضع حاجيات البيت. شخصيا لم أحب أليكسا، ولا زلت أكتب قائمة المشتريات وأضيع الورقة، وأعتمد على ذاكرتي المعطوبة. كما تعرفون كائن مانيوال. 

ربما يجب أن أتصالح مع أليكسا قبل فوات الأوان

هذا يعني أن وجودي في عام 2050 سيصبح زي قلته، كما يبشرنا المؤرخ يوفال نواه هراري  في كتابه الشهير واحد وعشرون درسا للقرن الواحد والعشرين، أن الإنسان سيصبح حينها irrelevant. 

لا أجد مرادفًا في اللغة العربية يعطي هذه الكلمة حقها سوى "زي قلته". لأن اعتمادنا على الذكاء الاصطناعي سيزداد ليحل لنا مشاكلنا وينظم حياتنا ويحفظ أنمطانا. ربما يجب أن أتصالح مع أليكسا قبل فوات الأوان. يقول هراري "قد يجد الإنسان أنه بدلًا من التنافس مع الذكاء الإصطناعي من الأفضل أن يقوم بصيانته وتطويره والاستفادة منه". 

فرضية الكاتب إن تحققت وأصبحنا كبشر "زي قلتنا" أمام الروبوت، تفرض عليّ أسئلة لا تبدو إجابتها سهلة. هل الجنس البشري بعد أن عَقِلَ يجب أن يهتم لوجوده المطلق فقط؟ وهل هذا الوجود يقاس عدديًا أم نوعيا وقد وصلنا إلى ثمانية مليارات نسمة؟ كيف يمكن أن نستفيد من تطور الآلة وذكائها ويظل جنسنا فاعلًا وليس متفرجًا؟ هل نستسلم لهذه الحتمية أم يمكن أن نتلاعب "بجينات تصنيعها"؟ أحب أن أفكر أننا نستطيع. لم يفت الأوان بعد. 

إلى جانب هذا التطور لسيطرة الآلة على حياتنا، هناك ثورة موازية تتسع دائرتها في عالم تطور الذكاء الاصطناعي. تقنيون مختصون وفلاسفة ومفكرون وعلماء، يحذرون من هذا المسار ويحاولون تغييره لصالح الإنسان.

يحضرني في هذا السياق الفيلم التسجيلي المعضلة الاجتماعية the social dilemma، الذي يُعرض على نتفلكس، عن مجموعة من الخبراء عملوا لدى شركات عملاقة مثل جوجل وفيسبوك وتويتر وغيرها، يكشفون تلاعب هذه الشركات بالخوارزميات لتأسر وعينا داخل فلكها في عبودية إلكترونية نعاني جميعًا آثارها.

تحولنا إلى كائنات استهلاكية، سلبية غير متفاعلة لا نستطيع الفكاك من شباكها، ولنا عبرة في الساعات التي نقتلها في تقليب لانهائي لصفحات السوشيال ميديا. 

هذه الثورة إذا جاز التعبير، تحاول أنسنة الآلة، وجعلها عاملًا مساعدًا لمعيشة الإنسان بدلًا من التحكم بها. لكنها لن تكون وحدها كافية. نحتاج إلى اكتساب وعي أكبر بحقيقة واقعنا، وتنظيم العلاقة مع الذكاء الاصطناعي بقرار واعي نتخذه نحن "المستخدمون"، أ لا نسلم رقابنا لها طواعية، وأن نحدد سياق العلاقة معها.

كيف؟ لا أملك الإجابة كاملة. لكني أذكر نفسي دائمًا بأن جد الإنسان الأول قطع القارات مشيًا، وانتشر جنسنا في هذا الكوكب من رحلة واحدة قرر مغامرٌ أن يقطعها مشيًا، لم يحتج إلى طائرات وقطارات. طوع الأرض وشق الصخر واستخرج الماء والذهب.

أذكّر نفسي بأن لدينا القدرة على ابتكار ما يعزز بقاءنا حتى لو طالت الكبوة. قد ينفعنا في هذه الحالة أن نرتكن إلى كبرياء وعينا أن جنسنا البشري روّض الطبيعة الشرسة بعقله وساعديه فقط. فإن حاولنا ونجونا كان بها، لكن إذا استسلمنا فهو فناء مستحق.