تصميم: أحمد بلال - المنصة
بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا

سقوط المهرج السياسي

منشور الجمعة 22 يوليو 2022 - آخر تحديث الجمعة 22 يوليو 2022

في حديث بيني وبين ابنتي ونحن نشاهد نشرة الأخبار المسائية تسألني "هل تعتقدين أنه لا يمتلك من المال ما يجعله يحصل على أفضل تسريحة شعر على الإطلاق؟"، وتجيب نفسها لكنه لا يريد ذلك، فشعره جزء من الشخصية التي يريد أن يقدمها للناس. 

في هذا يشترك رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون مع المغني عبد الباسط حمودة، الاثنان تُميِّزهما تسريحة شعر أصبحت كالعلامة التجارية المسجلة، الفرق أننا نحب حمودة أكثر. 

طوال فترة إقامتي في بريطانيا التي تزيد عن عشرين سنة، لم يمر في الحياة السياسية البريطانية شخص كرئيس الوزراء الحالي الذي يغادر قريبًا مقر الرئاسة في داونينج ستريت، وهو يجر خلفه سلسلة من الفضائح، ستطبع عهده في تاريخ سياسة هذه البلد. 

أتساءل إذا كان الرجل عفويًا زيادة عن اللزوم، أم متكلف حد الافتعال ليخلق تلك الشخصية الكاريكاتيرية التي يقدمها. أميل للتفسير الثاني، لأن من سمة العفوية أن تترافق مع الخفة أو هكذا أظن، وجونسون أبعد ما يكون عن الخفة.

يبدو دائمًا "مفشكل"؛ ملابسه غير مرتبة ولا إبداع فيها. أكاد لا أذكر له ظهورًا سوى في بدلة سوداء وقميص أبيض، ليس من باب التواضع والزهد بقدر ما يبدو إهمالًا. تسريحة أو لا-تسريحة شعره التي تغطي جبينه ونصف عينيه، مشيته التي يقلد بها المشي، ومخارج حروفه المرتبكة التي تؤثر في طريقة كلامه، ومزاحه ومحاولات الاستظراف المتكررة. أتساءل إن كان يدرك أنها ليست أقوى النقاط لديه؟!

"إنجازات" وأثمان

في السياسة مغامرٌ ويبدو كلاعب نرد خبير، متحمس واثق من النجاح. ولا شك أنَّ الرجل نجح في معالجة ملفات شائكة في فترة حكمه القصيرة، توصله إلى إتفاق مع الاتحاد الأوروبي وتنفيذه لتعهداته واحدةٌ من أقوى النقاط التي تحسب له ولحكومته. كما ترك تعامله مع جائحة كورونا وخروج بريطانيا من الحجر الصحي قبل أي بلد أوروبي آخر، انطباعًا جيدًا لدى البريطانيين.

وعندما دقت طبول الحرب في أوكرانيا قدم نفسه كزعيم أوروبي تتصدر بلاده المبادرات وفرض العقوبات والتلويح بدخول الحرب إذا لزم الأمر، وبهذا دغدغ كبرياء البريطانيين وأوهمهم ببعضٍ من أمجاد الإمبراطورية القديمة. 

تلك الانجازات لم تأتِ بالساهل، فالثمن المدفوع فيها سيتردد صداه لسنوات طويلة قادمة. الخروج من الاتحاد الأوروبي كشف للمتحمسين حجم الخسائر عندما توقفت محطات الوقود، ليس بسبب أزمة في سوق النفط، بل لأن بريطانيا بعد ترحيل العمال الأوربيين لديها، خاصة القادمين من دول أوروبا الشرقية، لم يعد لديها ما يكفي من سائقين ويد عاملة لنقل الوقود إلى المحطات!

الإغلاق التام الذي نجح في الحد من انتشار كورونا، قضى على قطاعات أعمال كاملة، خاصة الصغيرة، والتي تعد حجر أساس في حفظ التوازن الاقتصادي والاجتماعي في بريطانيا. أما زعامة الحرب والتحشيد لها، ويبدو أنها مطولة معانا، ستقضي على أي إنجازات ليس في بريطانيا فقط بل في العالم.

ولكي يعوض جونسون نزيف الأموال في قطاع الطاقة، استنزف المواطنين بارتفاع كبير في الضرائب على كل شيء دون استثناء، سوى التنفس ربما إذا ما تغاضينا عن ضريبة تلويث الهواء.

هناك ستائر مظلمة تُمارَس تحتها الخطايا يا بوريس، ولك عبرة في صديقك دونالد ترامب

كل ذلك، سياسة وقرارات تحتمل الصح والخطأ ويتحمل الناخب مع من انتخبه الربح والخسارة، لأنه يدرك أنه يدفع ثمن خياره الديمقراطي ويتحمل تبعاته، مطمئنًا أن الانتخابات قادمة وسيصحح خطأه في المرة المقبلة.

لا تصل الأمور في هذا الجزء من العالم حد الانفجار، لا يضطر المواطن هنا لرفع شعار "إرحل يا جونسون"، ولا يخشى قمع شرطة أو جيش إن اعترض على الحاكم، هذا يحدث في "كوريا الشمالية" فقط. المواطن ينتخب ويراقب ويحاسب من خلال مؤسسات الدولة، وطبعًا يدفع الضرائب!

الاستسهال يليه الاستهبال

لكن لماذا انفرط عقد جونسون سريعًا وانفضَّ عنه مؤيدوه بهذا الشكل؟ في أحد منشورات جامعة أوكسفورد في تعريف الكذب والسياسة، جاء أن فنون الخداع والكذب صنوان دائمان في عالم السياسة.

والكذب ليس بجديد، فحكومة جون ميجور مثلا، اشتهرت بحكومة فضائح الفساد، والكذب في قضايا عدة أمام البرلمان، لكن كانت هناك مساعٍ على الأقل لإخفاء الكذب بطرق تحفظ ماء الوجه، حتى وإن كانت النتيجة واحدة: استقالة السياسي المتهم ومحاسبته. وهناك شواهد كثيرة يمكن الرجوع اليها. أما الجديد في كذب بوريس جونسون أنه كذب صفيق فيه "بجاحة".

نفى جونسون معرفته بتهم وجهت لأحد وزرائه بالتحرش جنسيًا برجال آخرين في الحزب، وكذب بشأن إقامة حفلات صاخبة في مقر رئاسة الوزراء في عز الحجر الصحي في البلاد. تلك وغيرها من التهم التي أنكرها تمامًا لتُثبت التحقيقات صحتها لاحقًا.

حجة بوريس جونسون كانت "آسف لم أكن اعرف"! كيف لا يعرف رئيس الوزراء كيف يطبق القوانين التي وضعها بنفسه؟ وَقْع السؤال كان ثقيلًا على أعضاء حزبه وحكومته، الذين صوتوا على منحه الثقة قبل بضعة أسابيع، ليسحبوها منه باستقالات جماعية بعد أن فاض الكيل. 

خرق جونسون قاعدة هامة في إدارة السياسة، وهي أنك ستتلقى الدعم إن أخطأت وقد نكذب لأجلك، لكننا لن نغفر لك الاستسهال. "الاستسهال يليه الاستهبال" عبارة استعيرها من معلمي الدكتور حسن قبيسي أستاذ الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع في الجامعة اللبنانية، عبارة لم تخب أبدًا.

هناك ستائر مظلمة تُمارَس تحتها الخطايا يا بوريس، ولك عبرة في صديقك دونالد ترامب، فما قضى على حياتكما السياسية سوى الاستسهال والاستهبال. قد تحتمل السياسة الصح والخطأ ولكنها من الواضح لا تحتمل المهرجين السياسين على الأقل في بريطانيا، فيرحلون. 

في أماكن أخرى من العالم، يساق المهرجون السياسيون بزفة إلى نهاياتهم، تختلف عن زفة بوريس جونسون في الإعلام، بل هي زفة بالمعنى الحرفي للكلمة يَحملونهم على الأعناق حين يأتون ويرمونهم إلى جحورهم حين يرحلون. حبذا لو جاءوا بلا زفة ولا أعناق ولا مشانق، حبذا لو يتعلمون الدرس.