Rawpixel
مشنقة

حقوقيون ينتقدون إحياء "الإرث البائد" بدعوات الإعدام العلني

منشور الخميس 28 يوليو 2022 - آخر تحديث الخميس 28 يوليو 2022

 لم تكن توصية محكمة جنايات المنصورة بتعديل القوانين لبث وقائع تنفيذ حكم الإعدام الذي أصدرته بحق محمد عادل قاتل الطالبة نيرة أشرف، فريدة من نوعها. المناشدة التي وجهها القاضي في حيثيات حكمه، سبق وحدثت عام 1997 خلال تنفيذ حكم الإعدام على ثلاثة متهمين أدانتهم المحكمة بقتل سيدة وطفليها، خلال واقعة سرقة منزلها في مدينة نصر.

لم تذع لحظة تنفيذ الحكم بالطبع بل لقاءات مع المُدانين الثلاثة قبل دقائق من تنفيذ الحكم، بعد قرار سياسي في جريمة أثارت غضبًا شعبيًا على غرار جريمة قتل نيرة، وحضر عملية التنفيذ وقتها رئيس النيابة بالمكتب الفني للنائب العام، المستشار عمر مروان، الذي أصبح الآن وزيرًا للعدل. 

قال مروان يومها في تصريحات لبرنامج مساء الخير "دي أول مرة الحقيقة أحضر حكم إعدام ينفذ في تلاتة مرة واحدة. طبعًا دي قضية رأي عام، ولأهميتها كلفني معالي النائب العام إن أنا أحضر تنفيذها بنفسي"، وأعرب عن أمنيته بأن تكون هذه العقوبة تكون رادعة، وتبين أن الجريمة لا تفيد بأي حال من الأحوال.

واليوم، بعد مرور نحو 25 سنة على هذه الواقعة، أعادت حيثيات حكم محكمة جنايات المنصورة الجدل بشأن علانية تنفيذ العقوبة وجدواها ومدى اعتبارها وسيلة ردع.

الانتقام لا يحقق العدل

اعتبر المحامي باسم طارق أن تبني المحكمة لمناشدة من هذا النوع بمثابة ردة للعصور الوسطى، التي كانت تشهد آليات أكثر إيذاءً في تنفيذ العقوبات البدنية "العالم كله الآن في سبيله لتجاوز فكرة العقوبات البدنية من الأساس، فبدلاً من إلغاءها، نجد من يطالب بإذاعة تنفيذ أحكامها علنًا، فأين المنطق في ذلك؟".

وألغت مصر تنفيذ عقوبة الإعدام علنًا عام 1904، حسبما ذكره المستشار إيهاب عبد المطلب نائب رئيس محكمة النقض في كتابه "العقوبات الجنائية في ضوء الفقه والقضاء" الصادر عن المركز القومي للدراسات القانونية، بعد حملات صحفية بدأت في 1903.

ووفقًا لما أورده عبد المطلب فإن عقوبة الإعدام كانت تنفذ في مصر علنًا "لتحقق الأثر المطلوب منها في الجماهير من الرهبة والاعتذار". ويروي أنه "قامت حركة في الصحف في سنة 1903 ضد علانية تنفيذ الإعدام فعدلت الحكومة عن التنفيذ العلني لهذه العقوبة، ومنذ سنة 1904 تنفذ عقوبة الإعدام في داخل السجون".

وفي الوقت الحالي ينص قانون الإجراءات الجنائية في المادة 274 على أن عقوبة الإعدام ينبغي تنفيذها "في مكان مستور"، ويُلزم القانون أن يحضر التنفيذ أحد وكلاء النيابة ومأمور السجن وطبيب، ومحامي المُدان إذا طلب، ولا يجوز لغير من ذكروا أن يحضروا التنفيذ إلا بإذن خاص من النيابة العامة. 

ويرى طارق أن الردع العام لا يتحقق بتخويف الناس وإرهابهم بمشاهد قتل القاتل بقدر ما يتطلب تبني ضمانات المحاكمة العادلة والإحساس بالرضا تجاه إجراءات منظومة العدالة، بالإضافة إلى شعور الناس بالخشية من مخالفة القانون، لافتًا إلى أن ذلك يتحقق أكثر بضبط مرتكبي الجرائم.

حدثت تطورات كبيرة فيما يتعلق بتنفيذ عقوبة الإعدام التي تعد عقوبة همجية تعود لممارسات القرون الوسطى - المحامي ناصر أمين

ماذا يحقق الإعدام؟

مدير البرامج في المفوضية المصرية للحقوق والحريات، شريف عازر ، يشير إلى أن "مصر التي تحتل المركز الثالث عالميًا في تطبيق عقوبة الإعدام بعد إيران والصين، لا يتحقق بها الردع العام".

ويقول عازر للمنصة إنه لا يوجد أي دليل على أن تطبيق عقوبة الإعدام يحقق أي نوع من ردع الجرائم، بل أصبحت الفترة الأخيرة أكثر شراسة وعنفا، مشددًا على أن أغلب الإجراءات المؤدية للإعدام بها "شبهة انتهاكات"، بما فيها محاكمة المتهم بقتل نيرة أشرف، قائلًا "لا منطق لصدور حكم إعدام في أسبوع، يوجد تحقيقات نيابة ومحاكمة وتشريح طب شرعي ودفاع ومرافعة، كل هذا انتهى في أسبوع".

وبشأن تحقيق الردع العام قال عازر "نحتاج لسير العدالة بشكل سليم من أول التحقيقات. في مصر محامون لا يحضرون مع المتهمين التحقيقات، وقد يلتقي المحامي المتهم في المحكمة".

ولفت إلى وجود ملاحظات من المجلس الدولي لحقوق الإنسان تجاه مصر، وأن مصر رفضت جميع التوصيات الخاصة بمراجعة عقوبة الإعدام في المراجعة الدورية الشاملة الأخيرة في 2019 بالمجلس.

الردع يحتاج عدلًا

بما حدث بعد إذاعة تنفيذ حكم الإعدام عام 1997، يدلل المحامي ناصر أمين رئيس المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، على أن علانية التنفيذ لا تحقق الردع "هل شهدت معدلات جرائم السرقة والقتل انخفاضًا على المستوى الإحصائي تأثرًا بذلك الاتجاه؟ في الحقيقة الإجابة لا".

يقول أمين إن إذاعة الإعدام كان مرتبطًا بالحالة الشعبوية القاصرة في معالجة الجريمة والمرتبطة بفكرة إذاعة أو نشر وتصوير التنفيذ لتحقيق الردع العام، معتبرًا الأمر "مجرد قصور في الوعي"، مضيفًا "بعد هذا التاريخ حدثت تطورات كبيرة فيما يتعلق بتنفيذ عقوبة الإعدام التي تعد عقوبة همجية تعود لممارسات القرون الوسطى، حيث أوصت الأمم المتحدة بالبحث عن عقوبات بديلة"، موضحًا أن العقوبة التي تحقق العدل في جريمة ما، تشكل في الوقت نفسه اعتداء على الحق في الحياة.

واستعرض أمين تطور التعامل مع عقوبة الإعدام منذ التسعينيات حتى 2022، مشيرًا إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة تجري مراجعة سنوية لعقوبة الإعدام وتدعو كل البلدان لإلغائها، كما تلجأ إلى توصية الدول التي تستند لتشريعات دينية في تطبيق العقوبة إلى وضع معايير وضوابط محددة، بحيث تطبق في أضيق نطاق ممكن.

ولكن على العكس من توصيات الأمم المتحدة تتوسع مصر في تنفيذ الإعدامات. يقول أمين "لدينا 102 تشريع وجريمة تطبق بها عقوبة الإعدام، وبالتالي فهذا مناخ خطر للغاية". ويشير إلى تنوع هذا العدد ما بين جرائم القتل والمخدرات والاغتصاب، معتبرًا أن "المشرع المصري مصاب بقصور شديد في معالجته للأمور، ويوجد استسهال لتغليظ العقوبة. كلما اصطدم بجريمة غريبة يرفع العقوبة من السجن للإعدام".

ويرى أمين أن إذاعة جلسات محاكمة المتهم بقتل الطالبة نيرة أشرف انتقص من إجراءات العدالة؛ "الأصل في القانون عدم النشر بلا بموافقة المحكمة، في هذه الحالة اتخذت المحكمة إجراء ضد قيم العدالة، وحفزت الرأي العام وشكّلت ضغطًا على المحكمة أثناء نظر الدعوى".

والقانون الذي يشير إليه أمين هو القانون 71 لسنة 2021، الذي يحظر ويجرّم إذاعة أي "صور أو [..] كلمات أو مقاطع أو بث أو نشر أو عرض بأي طريق من طرق العلانية وقائع جلسة محاكمة لنظر دعوى جنائية" دون إذن من المحكمة.

ويرى خبراء قانونيون ومنظمات حقوقية أن هذا القانون تحيط به شبهات عدم الدستورية، لأنه يتعارض مع المادة 187 من الدستور المصري التي تنص على أن "جلسات المحاكم علنية، إلا إذا قررت المحكمة سريتها مراعاة للنظام العام، أو الآداب، وفى جميع الأحوال يكون النطق بالحكم فى جلسة علنية".

عودة إلى الخلف

أستاذة القانون الجنائي بالمركز القومي للبحوث الاقتصادية والاجتماعية، الدكتورة سهير عبد المنعم، أبدت تعجبها الشديد من ظهور مناشدة على هذا النحو في مصر في الوقت الذي اتجهت فيه أغلب دول العالم لإلغاء عقوبة الإعدام من الأساس، وبالتالي فكيف للسلطات المصرية أن تأتي في هذا المناخ العالمي الرافض لتطبيق عقوبة الإعدام وتجعل وقائع التنفيذ علنية.

وأكدت عبد المنعم رفضها المطلق لفكرة علانية تنفيذ أحكام الإعدام تحت مزاعم تحقيق الردع العام، مؤكدة أن مجرد تطبيق العقوبة كافٍ لتحقيق الردع العام.

ولفتت أستاذة القانون الجنائي إلى الآثار الاجتماعية التي ستترتب على فتح الباب أمام التنفيذ العلني لأحكام الإعدام، في جرائم مثل جرائم الثأر التي يحكم في بعضها أحيانًا بإعدام ثلاثة متهمين أو أكثر بالإعدام. محذرة من أن إذاعة هذه الأحكام سيوسع دائرة الثأر التي تحاول الدولة إغلاقها.

عبد المنعم أشارت كذلك في حديثها مع المنصة إلى إحصائيات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية التي تثبت أن جرائم القتل في تناقص داخل المجتمع المصري وليست في تزايد، مؤكدة أن أول بحث أجراه المركز عن قضايا القتل في عام 1955 انتهى إلى أن نسبة القتل تبلغ 4.41 لكل مائة ألف من السكان، في حين أن آخر دراسة مشابهة أجراها المركز في العام 2020 انتهت إلى أن نسبة جرائم القتل تقلصت إلى أن وصلت إلى 1.5 لكل مائة ألف من السكان.

وتابعت "إحنا مش ناقصين الناس يشوفوا دم زيادة، لأنهم بيشوفوه كل شوية على مواقع التواصل الاجتماعي"، مؤكدة أن بث مشاهد القتل هو ما دفع المحكمة لتبني "مناشدة قاصرة كتلك التي نتحدث عنها"، وولدت لديها ولدى جمهور الناس شعورًا زائفًا أن مشاهد القتل في ازدياد، مقارنة بنشرها خلال التليفزيون فقط قديمًا.

العلانية المطلوبة للردع العام بخصوص هذه القضية تحققت بالفعل منذ اللحظات الأولى

لحظة غير هيّنة

الأثر الاجتماعي لعلانية تنفيذ أحكام الإعدام سيكون "وخيمًا" وفقًا لأستاذة علم النفس ومديرة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الدكتورة هالة رمضان، خاصة في "عصر السوشيال ميديا" الذي تحكمه العوامل المادية والاقتصادية المرتبطة بصناعة المحتوى، والتي تضع على رأس أولوياتها تحقيق معدلات وصول و"لايكات" عالية تحصد المكاسب المادية؛ ومن ثم فلن تتحقق فكرة الردع بقدر ما ستتحقق الآثار السلبية لنشر وقائع الأعدام وما تتضمنه من تشهير وسخرية وتنمر وتعرض لأسرة المتهم، وما قد يترتب على ذلك من رفع معدلات العنف وإثارة مشاعر الانتقام.

وترى رمضان أن العلانية المطلوبة للردع العام بخصوص هذه القضية تحققت بالفعل منذ اللحظات الأولى للمحاكمة، مع تغطية الإعلام، وهو ما يعد كافيًا لتحقيق الردع دون الحاجة لبث وقائع تنفيذ الحكم على الهواء أو تنفيذه في ميدان عام، كما كان يحدث قديمًا.

وأكدت أن لحظة تنفيذ أحكام الإعدام غير هيّنة، ولا بد من مراعاة الجانب الآخر من الأزمة، المتمثل في أسرة المتهم، مع إقرارنا بضرورة أن ينال جزاءه وفقًا لما انتهت إليها المحكمة. ولكن والدته على سبيل المثال بين ليلة وضحاها أصبحت أمام ارتكاب ابنها لجرم لم تكن تتصور أن يقدم عليه، وبالتالي فماذا عنها حينما ترى لحظة إعدام ابنها على الهواء ويرى المجتمع كله تلك المشاهد؟ وماذا عن أصدقائه؟ أتصور أن ذلك سيولد لديهم رغبة أكثر للعنف والانتقام بشكل بشع تجاه المجتمع ككل.

ستشبع مشاهد أحكام الإعدام العلنية رغبة الانتقام لدى البعض، ولكن هذا لا يعني أنها ستحقق الردع العام في المجتمع، ولكن شيوع لقطات لجثامين معلقة على أحبال المشانق، هو ما سيفتح الباب أمام دائرة جديدة من العنف الاجتماعي، لن يكون إغلاقها سهلًا.