يتعرض غالبية الناس للتمييز والتهميش والتهديد والتعذيب والقتل بسبب دينهم أو معتقدهم، وفي كثير من الأحيان يأتي الاعتداء من قبل حكوماتهم التي يقع عليها واجب حمايتهم. لدرجة أن بعض الاحصاءات أظهرت أن حوالي 80% من سكان العالم يعانون قيودًا بدرجات مختلفة، وأن الاضطهاد والتمييز على أساس الدين أو المعتقد أو عدم الإيمان هي حقيقة يومية بالنسبة لهم.
ولذلك حظيت قضية حرية الدين والمعتقد باهتمام عالمي خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا في ظل استمرار بؤر العنف والعمليات الإرهابية التي تستهدف المختلفين دينيًا.
في هذا الإطار، شهدت العاصمة البريطانية لندن الأسبوع الماضي فاعليات المؤتمر الوزاري الدولي بشأن حرية الدين أو المعتقد لعام 2022، بمشاركة مسؤولين وقيادات دينية من أكثر من مئة دولة، للمطالبة بمزيد من الإجراءات لمنع الاضطهاد والعنف الديني، والحد من أشكال التمييز القائمة بسبب المعتقد، وكذلك مناقشة التجارب المختلفة في تجاوز النزاعات والتوترات الطائفية التي تنتشر في العالم.
تأثير محدود
ومع أهمية هذا المؤتمر في وضع قضية المضطهدين دينيًا على الأجندة الدولية، وبحث سبل تعزيز التنوع الديني، لكنه وغيره من المؤتمرات يبقى محدود التأثير. تجعل طبيعة المشاركين المؤتمرات أقرب للمنتدي أو المكلمة التي إما يعبرون فيها عن تضامنهم مع الضحايا أو رفضهم لأوجه العنف والتمييز، أو يستعرضون خططًا يرونها نبيلة للتصدي لهذه الممارسات.
كما أن سيطرة ممثلي الحكومات والمؤسسات الدينية التي تكون في أغلبها محافظة، وأحيانا متسامحة مع الانتهاكات التي يهدف المؤتمر إلى إدانتها، تحد من القدرة على إصدار أية قرارات مهمة أو التزامات واضحة ومحددة.
في هذا النوع من المؤتمرات لا تحدث انتقادات واضحة، أو سرد حالات محددة كنماذج للعنف والتمييز على أساس ديني. وبطبيعة الحال، تتراوح مداخلات المسؤولين المصريين في حالة المشاركة ما بين الحديث عن إنجازات مصر وجهودها في مجال تعزيز الحريات، وحرص الدولة على إعلاء مبادئ المواطنة والمساواة وعدم التمييز على أي أساس ديني، أو التحذير من ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب مثلما جاء خلال كلمة السفير أحمد إيهاب جمال الدين، مساعد وزير الخارجية لحقوق الإنسان والمسائل الإنسانية والاجتماعية الدولية، في مؤتمر وارسو لحرية الدين والمعتقد 2020.
كان الموقف سيختلف لو كان المنظمون مؤسسة مجتمع مدني أو جهة بحثية محايدة توفر مساحة لتحليل الظواهر المرتبطة بالعنف والتمييز على أساس الدين والمعتقد، وتتضمن قصصًا إنسانية أو سردًا لحالات محددة، وهو ما لا تفضله الجهات المسؤولة لأنه يعريها ويضعها في موقف الدفاع.
ولكن خلال هذه المؤتمرات، صدر إعلان "بوتوماك" بشأن الحرية الدينية في عام 2018، الذي اعترف أن هذا الحق يتعرض للاعتداء في جميع أنحاء العالم وأن حوالي 80% من سكان العالم يعانون قيودًا شديدة، وأن الاضطهاد والقمع والتمييز على أساس الدين أو المعتقد أو عدم الإيمان هي حقيقة يومية بالنسبة لكثيرين، وأنه حان الوقت للتصدي لهذه التحديات.
بعدها أطلقت الولايات المتحدة بالإضافة إلى 26 دولة التحالف الدولي للحريات الدينية بشكل رسمي (ارتفع العدد حاليا إلى 36 دولة ليس من بينها مصر أو أي من الدول العربية) من أجل التنسيق والاتفاق على إجراءات حماية الأشخاص في جميع أنحاء العالم الذين يتعرضون للاضطهاد أو التمييز ضدهم بسبب دينهم أو معتقدهم.
خريطة الانتهاكات عالميًا
في دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث على 83 دولة، وجد أن 42% منها لديها مستويات عالية أو عالية جدًا من القيود على الدين خلال عام 2017، سواء كانت ناتجة عن أفعال حكومية أو عن أعمال عدائية من الأفراد والمنظمات والمجموعات الاجتماعية. وجاءت مصر ضمن قائمة الدول التي تعاني انتهاكات حكومية لحرية الدين أو المعتقد، ووجود عداوات مجتمعية تساهم بشكل كبير في خلق مناخ من التمييز وبيئة حاضنة لوقوع توترات واعتداءات طائفية.
وفقًا للدراسة؛ من بين 25 دولة من الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، كانت مصر والهند وروسيا وباكستان وإندونيسيا تشهد أعلى المستويات الإجمالية للقيود الحكومية والعداوات الاجتماعية المتعلقة بالدين.
من مصلحة صانعي السياسات في مصر كما في العالم احترام وحماية حرية الاعتقاد وعدم الاعتقاد واحترام التنوع
في حين قسَّم تقرير آخر صادر عن لجنة الحريات الدينية الدولية الأمريكية عام 2022 الدول إلى مجموعتين: الأولى، بلدان ذات مصدر قلق خاص، والتي تشارك أو تتسامح الحكومات مع انتهاكات الحريات الدينية الجسيمة والممنهجة والمستمرة مثل التعذيب والمعاملة القاسية وغير الإنسانية والاعتقال المطول. أما المجموعة الثانية، وهى بلدان المراقبة الخاصة والتي توجد بها انتهاكات، لكن بدرجة أقل من المجموعة الأولى؛ وقعت مصر ضمن المجموعة الثانية.
وحثَّ التقرير الحكومة المصرية على اتخاذ بعض الخطوات منها إلغاء خانة الدين من وثائق الهوية والغاء المادة 98 (و) من قانون العقوبات والمعروفة بمادة "ازدراء الأديان" والتخلي عن الجلسات العرفية في التوترات الطائفية.
تقدم نسبي
رغم ذلك، لا يمكن تجاهل اهتمام المسؤولين المصريين الملحوظ بالحديث عن حرية الدين والمعتقد، والتي احتلت مكانة واضحة في الخطابات الرسمية، يأتي في مقدمتها بطبيعة الحال تصريحات رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي المتعددة عن احترام حرية المعتقد حتى لغير المنتمين للأديان الإبراهيمية الثلاث ولغير المؤمنين.
وكذلك تأكيد الرئيس عدة مرات على ضرورة وجود كنائس بالمدن الجديدة التي يتم تدشينها. كما تضمنت الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان (2021-2026)، جزءًا عن حرية الدين والمعتقد، ثم أصدرت اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان تقريرًا خلال مارس الحالي بشأن الجهود الوطنية لتعزيز الحريات الدينية في مصر لعام 2021.
هذا الاهتمام يعد خطوة جيدة في حد ذاته، لأنه اعتراف رسمي من الدولة بأهمية القضية والحاجة للتعامل معها. كما أنه يساعدنا في تحديد رؤية المؤسسات الرسمية لهذا الحق، وتوجهاتها وسياساتها التنفيذية من أجل تعزيز وضمان تمتع جميع المواطنين بحرية الدين والمعتقد.
في هذا السياق يمكننا القول أن هذا الملف شهد تحسنًا نسبيًا في بعض القضايا، من بينها تراجع خطاب التحريض على الكراهية والتمييز بشكل واضح، والإعلان عن تطوير المناهج وحذف ما كان يدعو للعنف والتمييز، كما شهد ملف بناء الكنائس في المدن الجديدة تحسنًا أيضًا، وإن كانت لا تزال المناطق المحرومة في القرى تعاني الأمرين وتواجه صعوبة بالغة في الحصول على تراخيص إنشاء الكنائس.
ولكن على الرغم من ذلك، لم تطل هذه الإجراءات الملامح التمييزية الصريحة التي تميز مجمل البناء التشريعي والتنفيذي الحاكم لممارسة الحريات الدينية. والتي تناولها تعليق صادر عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. خصوصًا أن التقرير الحكومي أغفل انتهاكات متنوعة للحريات الدينية منها حرية التعبير في الشأن الديني، وحقوق الأقليات الدينية غير المعترف بها، وملف الأحوال الشخصية، وتشابك دور الدولة مع المؤسسات الدينية.
إجمالًا، لم تعد حرية الدين والمعتقد شأنًا محليًا بعيدًا عن الاشتباك العالمي، ومن مصلحة صانعي السياسات في مصر كما في العالم احترام وحماية حرية الاعتقاد وعدم الاعتقاد واحترام التنوع، لأنه المدخل الأساس لتعزيز السلام والاستقرار، وحماية حقوق الأقليات والنساء، وهو ما يفرض جهودًا مضنية لخلق ثقافة معززة للمساواة ومناهضة للعنف والتمييز الديني.