تصميم: يوسف أيمن- المنصة

هوس "اللايف": هدية فيسبوك لصحافة مأزومة

عندما تحول "تقطيع البطيخ" إلى مادة صحفية تستحق البث الحي

منشور الخميس 7 يوليو 2022 - آخر تحديث الخميس 7 يوليو 2022

منذ نحو عامين، توقف محمد السيد* عن إنتاج التحقيقات الصحفية، بعدما حجَّمت الجريدة التي يعمل بها قسم التحقيقات، قبل أن تُصدر قرارًا في نهاية المطاف بحله، وبهذا تغيَّر مساره المهني من صحفي تحقيقات لمتخصص في إنتاج "صحافة" البث المباشر على فيسبوك.

يقول الصحفي الشاب إنه شهد أيامًا "تفاخرتُ فيها الجريدة بضمها قسمًا قويًا للتحقيقات الاستقصائية"، ولكنها تبدلت إلى أخرى "تلهث وراء الربح بغض النظر عن أي معايير مهنية"، كـ"الجائع الذي وجد نفسه في سوق للخبز"؛ "فلم يعد مستغربًا أن تجد من تتلمذت على يديه، واعتبرته يومًا أستاذًا عظيمًا، يصفق لبث مباشر يُظهِر اثنين يتراقصان في الشارع.. لقد تغيرت العقلية 180 درجة، من أستاذ ومُعلم إلى نبطشي".

لم يكن ما شهده السيد على مدار العامين الماضيين، غير صورة في لعبة "بازل" بدا أن أشكالها تتبدل رويدًا، وربما قبل ذلك بسنوات أخرى، دُهست فيها الصحافة بقبضة سلطوية قوية.

لكن التحول الذي عاشه السيد، لم يقتصر على جريدته. يقول صحفيون منتمون لمؤسسات مختلفة، ورقية وإلكترونية، تواصلت معهم المنصة، إنهم يشهدون شيئًا من هذا التحول، ولو اختلفت تفاصيله من تجربة لأخرى، لكنها كلها تدور في فلك "صحافة اللايف"، والتي باتت "تجني أرباحًا كبيرة".

وانطلاقًا من الربح راجت تلك الأداة في العمل الصحفي مؤخرًا، ومنه لم يعد مستغربًا أن تتحول من أداة إلى هدف في حد ذاته.

كيف بدأ "اللايف"؟

في أبريل/ نيسان عام 2016، أطلقت شركة فيسبوك خاصية البث المباشر (لايف)، ليصبح ممكنًا لأي شخص بث فيديوهات حية مباشرة لباقي مستخدمي التطبيق، فليس على المستخدم إلا أن يضغط على أيقونة البث المباشر عبر الموبايل لكي يبدأ عملها.

كان إطلاق خاصية البث المباشر استراتيجيًا بالنسبة لفيسبوك، ففي وقت بدا أن الفيديو يحتل رأس قائمة اهتمامات المستخدمين، بات عليها تقديم تلك الخدمة المجانية وتحسينها بمرور السنوات، لجذب المزيد من المستخدمين، في منافستها مع يوتيوب وتيك توك، ومن ثم المزيد من المعلنين ومراكمة الأرباح، بحسب محمد الحارثي استشاري التسويق الإلكتروني في حديث خاص للمنصة.

وكان بالتزامن، أن حجّمت الشركة عبر خوارزمياتها انتشار "البوست" وقللت ظهور الروابط للمؤسسات الصحفية الهادفة للربح، جاعلة الدفع وسيلة زيادة الانتشار والتفاعلية ومن ثم الربحية، كما يقول استشاري التسويق الإلكتروني. 

تلك المعطيات كان لها أثرًا مباشرًا على حال الصحافة المصرية، حيث تعتمد مؤسساتها في تسويق ونشر محتواها بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي، وبخاصة فيسبوك، الذي يستخدمه 53.6 مليون شخص من بين 59.19 مليون هم مستخدمو الإنترنت في مصر، بحسب تقرير صادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. 

قبل حوالي ثلاث سنوات، تنبهت المؤسسات الصحفية المصرية لخاصية "لايف"، نقلًا عن تجارب صحفية غربية استخدمتها بضوابط مرسومة سلفًا في بث محتواها، ثم توسعت في استخدامها تزامنا مع مَنح شركة فيسبوك عائدات مالية ضخمة، نظير بيعها إعلانات تظهر أثناء البث وبعد انتهائه، حيث بلغت إجمالي عائدات إعلانات فيسبوك في العام 2020 مبلغ 84.17 مليار دولار.

وبالتزامن مع تحقيق الإنفلونسرز أو المدونين الجدد لأرباح هائلة من خلالها، كانت المؤسسات الصحفية تعاني أزمات مالية متلاحقة، فعدته "إوزة تبيض لها ذهبًا"، بحسب أستاذ الإعلام الرقمي بالجامعة الأمريكية في القاهرة، فادي رمزي، في حديث إلى المنصة.

"البحث عن الأرباح هو حق للمؤسسات الصحفية لاستكمال مشاريعها" - محمد الهواري، رئيس تحرير موقع الفنار للإعلام

وعن آلية احتساب تلك العوائد، يوضح أستاذ الإعلام الرقمي أنها تتحدد وفق مجموعة من العناصر، منها مدة الفيديو وحجم التفاعل ونوعية الجمهور المستهدف، كمعادلة رياضية متعددة الحدود ليس فيها (1+1=2).

وهو ما يؤكده مدير تحرير سابق لصحيفة خاصة شهيرة، تحدث إلى المنصة مفضلًا عدم ذكر اسمه، موضحًا أن الجريدة التي عمل بها لسنوات طويلة حوَّلت خسارتها المليونية لأرباح مليونية بالتزامن مع هذا التوجه الجديد.

الصحافة vs الربح

يعتقد رئيس تحرير موقع الفنار للإعلام، محمد الهواري، أن "البحث عن الأرباح هو حق للمؤسسات الصحفية لاستكمال مشاريعها"، مُشددا على أن ذلك لا يكون "إلا بالموازنة الضرورية مع تقديم خدمة صحفية جيدة".

أما الكاتب الصحفي عبدالله السناوي، فيستنكر أن يكون الربح الهدف الأسمى للمؤسسة الصحفية، وإلا فالأفضل أن "تتحول الجريدة إلى كافتيريا، لتحقيق أرباح أكثر" وفق تعبيره.

يحذر الهواري من "عدم امتلاك المؤسسات الصحفية المصرية لنموذج اقتصادي يحمل لها رؤية مستقبلية"، وهو ما يدفعها واحدة تلو الأخرى إلى "ركوب الترند"، فالصحفي محمد السيد، ليس وحده الذي اضطُر لمخالفة قواعد مهنية كالتدقيق والتوازن والاقتراب الموضوعي وضمان عدم وجود مواد ضارة في المحتوى، في سبيل ملايين المشاهدات، التي تجني الأموال لصحيفته الخاصة الشهيرة.

يمتلئ الفضاء الإلكتروني بعشرات النماذج التي خالفت تلك المعايير المتعارف عليها منذ نشأة الصحافة، وفق صحفيين بجرائد ومواقع إلكترونية مختلفة تحدثت إليهم المنصة، ذكروا لنا بعضًا منها. 

من أبرز تلك النماذج لايف "أضخم دراع في مصر" الذي يروج لشاب منتفخ العضلات يحقن نفسه بهرمونات مضرة بالصحة، ولايف "امرأة خارقة" تتناول "بودرة اللمبة" ويتحدى رأسها "لفة الشنيور"، وآخر لـ"أضخم تيس في مصر" ونوادره التي منها شرب "البيبسي"، ولايف "أسرع مكوجي في مصر"، و"أغرب طريقة لتقطيع البطيخ"، و"منافسة قوية بين صاحب أطول شنب في مصر وأميرة وحش البوكسينج" حين كاد بنطاله يسقط عنه فأخبرته من تلاكمه بصوت خفيض أن ينتبه لـ"البنطلون"، ولايف "شبلو الجن" ومعاناته كـ"أشهر لص تائب في مصر" قبل أن نكتشف في النهاية بأنه "ممثل"، ولايف "خرافة مياه المجاري المبروكة" التي يرشها الناس الناس على أجسادهم لأنها "تشفي من الأمراض الجلدية".. وهي فيديوهات بث مباشر حققت انتشارًا واسعًا على فيسبوك وحصدت ملايين المشاهدات وبالتبعية حققت للمؤسسات دخلا معتبرًا.

"الناس هي من تبحث عن اللقطات الغريبة.. واللقطة تغلب أي شيء" - محمد زكي*، صحفي لايف

يرى محمد ذكي*، وهو أحد أنشط "صحفيين اللايف" في مصر في الشهور الأخيرة، أن ما يقدمه من مواد مصورة ما هو إلا مواكبة للتطور التكنولوجي في صناعة الصحافة، يطلبه الجمهور وينجذب له، والدليل في نظره ملايين المشاهدات التي يحققها لصحيفته بشكل دوري.

لكن من هذا المنظور، قد لا تعكس المشاهدات الواقع بدقة، ففيسبوك يحتسب المشاهدة الواحدة بعد ثلاث ثوانٍ فقط، أي بما يكفي لعمل المشاهد "سكرول" على "التايملاين"، مما لا يعني بالضرورة أن كل مشاهدة محتسبة تعكس مشاهدة فعلية، بحسب ما يقول أستاذ الإعلام الرقمي بالجامعة الأمريكية فادي رمزي.

لا يتنصل ذكي مما يقدمه، على العكس يدافع عنه، وفلسفته "الناس هي من تبحث عن اللقطات الغريبة.. واللقطة تغلب أي شيء"، وصك نجاحه مدموغ في نظره بما يحققه من مشاهدات مليونية، يقول إنه يفتقدها مع تقديم "تحقيقات ومعايشات نشرت على صفحتين أو ثلاثة، لكن لم يرها أحد، ولم تحقق الانتشار والتفاعل"، محملًا القارئ مسؤولية ذلك "القارئ ليس صبورًا في القراءة، حتى لو كتبت له كلام من ذهب، فهو يستسهل مقاطع الفيديو والبث المباشر".

وهو الرأي الذي يختلف معه كامل مصطفى، الذي يقول إنه كقارئ ومتابع ينجذب إلى "المحتوى الجاد، بغض النظر عن وسيلته، مكتوبة أو مرئية أو مسموعة"، وله مع جريدة المصري اليوم ذكريات، فطالما حرص على الاحتفاظ بأعدادها الورقية التي زادت قيمتها بنظره في زخم ثورة 25 يناير 2011 لما قدمته من مناقشات يرجع لها الفضل في إثراء معرفته واهتمامه بشؤون الحياة السياسية وقتها، لكنه يحزن الآن لما يسميه "انحدار" تعيش كل الصحف في ظله، "انحدار" لم يشهد المحامي الثلاثيني مثله من قبل.

ينفي ذكي عن نفسه التورط فيما هو مشين، رغم اعتقاده بعدم قدرة خاصية البث المباشر على موافاة كامل المعايير المهنية، ورغم اعترافه بالتورط الشخصي أحيانًا في مخالفة تلك المعايير "اللايف لا يسمح لك بسماع الرأي والرأي الآخر"، فبتعبيره هو "طلقة رصاصة، إن خرجت لن تعود"، كما أنه غير صالح ليكون مادة أرشيفية يمكن حفظها والعودة إليها.

هل "اللايف" صحافة معاصرة؟

يرى الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز أن لخاصية البث المباشر مميزات، يمكن أن تستفيد منها المؤسسات الصحفية والإعلامية، كـ"التفاعلية والطزاجة والحدة الإخبارية"، وبخاصة أنه "يحظى بقدر أكبر من الاهتمام والتفاعل لدى قطاعات عريضة من الجمهور".

"صحافة الموبايل في مصر لا تزال في بدايتها ولا تضبطها القواعد" - الكاتب الصحفي عبد الله السناوي

لكن يُذكّرنا الخبير الإعلامي بالكلفة التي على المؤسسات دفعها في المقابل، والتي تتمثل في الانفلاتات الناتجة عن عدم خضوع المادة لمعايير النشر التقليدية، حيث "يزيل البث المباشر فكرة حارس البوابة التقليدية، والتي تُخضع المحتوى للتقييم قبل بثه للتأكد من مطابقته للمعايير المهنية".

لا يجادل الكاتب الصحفي عبد الله السناوي في ضرورة مواكبة الصحافة للتطور التكنولوجي، ضاربًا المثل بنماذج من مؤسسات صحفية غربية طوعت الأدوات الحديثة ومنها الموبايل في خدمة البث الصحفي، ولكنه يؤكد أن ليس كل ما ينتج عن طريق الموبايل يسمى صحافة، فما ساعد تلك المؤسسات أنها "مؤسسات محكومة بقواعد مهنية راسخة.. فلا يمكن ملاحقة العصر دون وجود أسس فكرية ونظرية وعملية تضبط الممارسة".

في رأي السنّاوي فإن "صحافة الموبايل في مصر لا تزال في بدايتها ولا تضبطها القواعد"، وما تطرحه من أسئلة أكثر مما تقدمه من إجابات "فما هو التعريف الدقيق لصحافة الموبايل؟ ما الفرق بينها وبين صحافة المواطن؟ هل هي مجرد أداة تدخل في عالم التريند والكليبات أم أنها تصلح لتطوير المادة الصحفية؟ وما هو التعريف الدقيق لفكرة المتابعة من مواقع الحدث بالموبايل".

غياب تلك الأسئلة، التي اعتبرها السناوي أساسية، عن النقاش في أروقة الصحافة، ومن ثم غياب الإجابات عنها، يعده مبررًا كافيًا لحالة التخبط والعشوائية التي يعيشها الإعلام الرقمي في مصر.

انعكاس لأزمة الصحافة

لكن التخبط والعشوائية الناتجان عن غياب الأسئلة، وإجاباتها، ما هو إلا انعكاس لغياب الحوار عن الفضاء العام الذي يرى السناوي أنه "من الإنصاف عدم تحميل المؤسسات الصحفية كامل المسؤولية عما أصابها من تراجع". تزدهر الصحافة في بيئة عامة قوامها حرية الرأي والتعبير، كما تذبل في بيئة يغلفها الاستبداد. وبحسب تعبيره فإن "الصحافة مسألة حرية"، وبالمقاربة مع الواقع المصري فإننا "نعيش زمن اللا صحافة".

كان اقتحام الشرطة لنقابة الصحفيين في عام 2016، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ تأسيسها قبل نحو 80 عامًا، إيذانا ببزوغ عهد جديد في العلاقة بين السلطة والصحافة.

دُمجت المؤسسات الصحفية الكبرى في كيانات ضخمة تديرها أجهزة سيادية، كما أثبتت تحقيقات صحفية نشرت في السنوات الأخيرة، فيما لم يعد هناك مكان لاستقلالية السياسات التحريرية، ولا مكان لبروز مؤسسات صحفية وإعلامية مستقلة، حيث جاءت مصر بالمرتبة 168 من بين 180 دولة في التصنيف العالمي لحرية الصحافة حسب تقرير منظمة مراسلون بلا حدود لعام 2022، وما حَجب أكثر من 600 موقع إخباري في مصر إلا خير دليل.

"الإفراط في خاصية البث المباشر، يهدد نموذج أعمال الصحافة"

- الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز

يرى السناوي أنه حين تتقلص قدرة الصحافة عن التعبير بحرية عن حقائق مجتمعها، وما يجري فيه من أحداث وتحولات، تفقد مصداقيتها وتأثيرها ويتراجع توزيعها حتى يكاد يندثر. "إذا صادرت حق الرأي العام في أن يعرف، بالمنع والمراقبة، فإنك تُصرح للفوضى الإعلامية والصحفية"، فـ"التعتيم" في رأيه يقابله "الفوضى"، و"الفتح للبلد لكي تتنفس" يساعد في أن "تستكمل الأدوات التكنولوجية مهمتها على الوجه الصحيح".

التماهي مع الأزمات يعمقها

لكن إذا كانت السلطة تتحمل مسؤولية نزعها عن الصحافة أي معنى أو تأثير يهدد وجودها، فإن الجماعة الصحفية تتحمل مسؤولية تماهيها مع الأزمة بالنظر تحت الأقدام، عبر إغراق المحتوى الجاد بالترفيهي، والإفراط في الاعتماد على وسائط تضمن لها الانتشار والربح، بغض النظر عن أي قواعد مهنية وموضوعية.

"الإفراط في خاصية البث المباشر، يهدد نموذج أعمال الصحافة" في رأي الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز، "الإفراط في اللايف، يُخرج المؤسسات الصحفية عن إطار العمل المحدد لها، فيذهب بها من فكرة جمع الأخبار وإعدادها وبثها على أسس مهنية معينة إلى تلفزيون الواقع، والأول ضروري وحيوي وشرط أساسي للديمقراطية والمجتمع الصحي السليم".

البيئة السليمة تلك، باتت أبعد ما يكون عن الصحفي محمد السيد، فبعد سنوات من العمل الشاق داخل قسم التحقيقات بجريدته، وصلته قناعة بأن ما آمن به لم يعد له قيمة، بل بات مصدرًا لخجله "على المستوى الأسري، كانت مهنتي تدعو للفخر، لطالما استقبلت الثناء على تحقيقاتي الصحفية، والجوائز التي حصدتها عنها، ولطالما خضت النقاشات الثرية والممتعة، أما الآن أصبحت أستقبل الاستهجان والضحكات، وما يكون علي إلا أن أتنصل مما أنتجته بيدي".

فكّر الصحفي الشاب في ترك الجريدة، لكنه تراجع تحت وطأة الأزمة المعيشية، وسنوات شاقة في انتظار "كارنيه" نقابة الصحفيين.

أما كامل مصطفى، المحامي الذي كان مهتمًا بما تنشره الصحف، فموقفه أكثر حزمًا، لم يعد يثق في الصحافة المصرية، وبات يعتمد على فضاء فيسبوك في الحصول على المعلومات.

 

* اسم مستعار بناء على طلب المصدر