رائحة خل وثوم ولحم مشوي، أطفال يفرقعون البُمب بصوت مدوي، رنين متواصل للهواتف، ومن التليفزيون ينبعث صوت ضحكات، وقتما تُعرض إحدى المسرحيات الكوميدية القديمة التي باتت مشاهدتها طقسًا للعيد.
من العيال كبرت إلى مدرسة المشاغبين وموسيكا في الحي الشرقي، تتنوع قائمة عرض القنوات، بما فيها المملوكة للشركة المتحدة، التي لا ينسى القائمون عليها حشو الفواصل الإعلانية، بمشاهد متعددة لسيادة الرئيس الأب وهو يحتفل بالعيد مع أبناء الشهداء والأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، في ترسيخ للقاعدة السلطوية "الرئيس أب للجميع".
بعد مشهد الرئيس الأب، يظهر بهجت الأباصيري ومرسي الزناتي ورفاقهما ناقمين على المنظومة عابثين بمعايير المدرسة، ويجتمع كمال مع أشقائه محاولين تصحيح مسار الأب البعيد عن مصلحة الأسرة، ويناضل أبناء الضابط الحربي المتقاعد كي يستمعون إلى الموسيقى التي يرفضها أبوهم.
مسرح الضحك على السلطة
تنتمي المسرحيات الثلاثة إلى مسرح السبعينيات، وهي المرحلة التي انتعش فيها المسرح الكوميدي "التجاري" وخفت فيها صوت مسرح الدولة، فعبّر ذلك المسرح عن صوت جيل جديد شهد هزيمةً وانكسارَ السلطة الأبوية الناصرية في يونيو 1967، واستفاد بما أتاحه السادات من مساحات التعبير كسلاحٍ في مواجهة رجال عبد الناصر، فأصبح المسرحُ ساحةً متاحةً للتعبير والسخرية بعيدًا عن رصانة مسارح الدولة ومع قدر أقل من قيود الرقابة.
قدمت تلك المسرحيات على تنوع موضوعاتها نقدًا للسلطة الأبوية على نحو ساخر، سواء السياسية أو الاجتماعية، فكانت نموذجًا لما يمكن أن يقدمه العملُ الفنيّ الذي يستطيع الصمود أمام الزمن والدخول في علاقة طردية تزيده شعبية متجددة كلما مرّ عليه الوقت.
ومع الوقت، تختفي الانتقادات الضيقة، والأحكام القيمية، التي وصمت تلك الأعمال، ولا يتبقى منها غير قدرتها على الإضحاك والسخرية، ولا مثال أفضل من مسرحية مدرسة المشاغبين التي ثارت الدنيا عليها عند عرضها، واُتهمت بإفساد جيل، والتحريض على العصيان في المدارس، بينما صارت حاليًا الوجبة الرئيسية على موائد الأسر كلّها، بما في ذلك أكثرها راديكالية، والقنوات التي تمثل صوتًا للنظام، في مفارقات لافتة.
تثير تلك المسرحيات التأمل في سياقات إنتاجها والفرص الغائبة لتكرار تجارب مثلها الآن.
مسخرة عسكرية طراز سمير غانم
اُستوحت أحداث مسرحية موسيكا في الحي الشرقي من الفيلم الشهير صوت الموسيقى المأخوذ بدوره عن مسرحية موسيقية، ويمكن القول إنه جرى تمصيرها ومسخرتها عن طريق سمير غانم، الذي جسد دور الضابط البحري المتقاعد الصارم الكاره للمرح والموسيقى، الراغب في تربية أبنائه بطريقة عسكرية صارمة، تتضمن الطابور العسكري، والأكل في مواعيد محددة، والالتزام بالزي الموحد.
مسرحية موسيكا في الحي الشرقي
بداية من الاسم، القبطان عز الدين الحسيني، الذي يبدو كاسم بطلّ تاريخي يجمع بين الاعتزاز والدين، يحوله غانم لدليل على إصابة القبطان بالبارانويا باتهامه لفايزة أحمد بالكلام عن بيته في أغنية "بيت العز يا بيتنا"، ويعزز حالة المسخرة الشكل المهيب للقبطان بالبدلة البحرية، ممسكًا بعصا شبيهة بعصا المارشالية عندما يحولها غانم لإكسسوارٍ كوميدي ساخر.
الأب في المسرحية شخصية تريد أن تظهر صاحبة سلطة وهيبة وقدرات غير عادية، لكن الأومباشي حسن المساعد له هو من يعرف حقيقة ذلك الأب، ويقوم بتعريته، فيحكي قصة الهزيمة والعلقة التي تلقياها في هونج كونج، وكيف أن الأبّ يصطاد السمك يوميًا من الجمعية الاستهلاكية لا من البحر.
يبني الأب سلطته على أكاذيب ويعوض هزائمه وفشله بالتحكم في حياة الأبناء وعمل المربية ومدرسة الموسيقى، لدرجة منع الموسيقى "مافيش مزيكا في الحي الشرقي كله يا آنسة"، وبسبب غروره وعدم سماعه لرأي المحيطين به، يقوده اختياره العاطفي للوقوع في خداع "طنط صافيناز" الطامعة في ثروته، التي يكرهها أبناؤه.
ومع دخول المربية نرجس لحياة العائلة بالموسيقى والحب، يصدمه تمرد الأبناء على النظام الأبوي وإفساد ارتباطه بصافيناز بالهتافات والمقالب، ليتخلى الأب في النهاية عن صرامته وديكتاتوريته التافهة في جوهرها، ويرتبط بنرجس، اختيار الأبناء المرتبط بالحرية والموسيقى.
الناظر فقد السيطرة فتحول لمسخرة
رغم وجود أب في مسرحية مدرسة المشاغبين، وهو الأباصيري والد بهجت الذي يؤدي دوره نظيم شعراوي، لكن مفهوم السلطة الأبوية يتضح على نحو أوضح في شخصية الناظر حسن مصطفى، الذي تمرد عليه فصل المشاغبين، ولم يعد باستطاعته السيطرة عليهم.
في بداية المسرحية نشاهد زعيم المشاغبين بهجت الأباصيري ومساعده مرسي الزناتي وهما يمسكان بالخرزانة (السلاح الذي يتم به قمع التلاميذ)، ويهددان به الناظر الذي يستغيث بالأباصيري الأبّ، بعدما فقدت السلطة سلاحها وأصبحت مستباحة.
الناظر هنا يمثلّ كلّ خطايا السلطة، فبينما يتظاهر بالنجاح، فشل في تربية واستيعاب ابنه الذي انضم للمشاغبين، وبينما يعارض بيع التلاميذ للمنتجات الانفتاحية في المدرسة، يصادرها لحسابه الشخصي، ويرفض مغازلة الطلبة للأستاذة التي يرغب هو في الزواج منها، رغم فارق السن وزواجه السابق، ثم تتحول قوته أمام الطلبة المحكومين منه لانسحاق أمام الوزير "صباح الوزير يا سعادة الخير".
المسرحية إذًا لا تتناول فصل أو مدرسة، بل منظومة أبوية وسلطوية، انتهى تمردها بعدما جرى احتوائها بمساعدة الأستاذة عفت، مدرسة المنطق.
هذا ما أكده مخرج المسرحية جلال الشرقاوي، عندما قال إن فكرة المسرحية في الأساس "الصراع بين السلطة والشعب، الشباب بيمثلوا الناس، والأب وناظر المدرسة بيمثلوا السلطة، وإزاي العلم والحب من خلال أبلة عفت (سهير البابلي) اللي حاصلة على الدكتوراه في التربية وعلم النفس يفض الاشتباك بينهم".
أبّ انفتاحي سيهدم البيت فوق دماغ أهالينا
بعد نجاح المشاغبين الساحق، قدمت فرقة الفنانين المتحدين مسرحية العيال كبرت التي اعتبرها البعض الجزء الثاني من المشاغبين بفريق الطلبة نفسه مع غياب زعيمهم عادل إمام. مرة أخرى حسن مصطفى هو الأب، لكنه تحول مع تغير الظرف السياسي والانفتاح الساداتي لأب انفتاحي، يترك التعليم الذي لا يدر المال ليصبح رجل أعمال، وعندما تسأله زينب:
- هتشتغل حرامي يا رمضان؟
- أنا ماشي حسب القانون يا زينب، القانون يقولي اشتغل حرامي.. أشتغل حرامي.
أصبحت السلطة نفسها غارقة في الفساد والانفتاح العشوائي في السبعينيات، ولم تصبح مظاهرها هي الصرامة والتظاهر بالالتزام، بل تفخر بعدم التزامها بالمبادئ القديمة والكلام الكبير، لكن عندما يصل هذا الانفتاح للأبناء، تبدأ السلطة في التناقض ورفض الانفتاح، الذي سيجعل سوسو ابنة رمضان السكري تعمل راقصة في ملهى ليلي، وسيجعل سلطان عاطلًا وراسبًا في الثانوية العامة، وسيدفع كمال للزواج من جارتهم متعددة العلاقات، ويجعل عاطف متيمًا بنجمة خللي بالك من زوزو، بل سيدفع الأب نفسه لترك العائلة والزواج من سكرتيرته الخاصة، مما يعني هدم كيان الأسرة كله بسبب الانفتاح.
تؤدي تلك التغيرات إلى اجتماع "شعب" الأسرة بمكوناته المتنافرة لبحث ذلك الخطر، لكنهم يتفقون في النهاية على فكرة الإصلاح من أنفسهم والخضوع للسلطة الأبوية والابتعاد عن التمرد، لإقناع الأب بعمل الشيء نفسه، وهو ما ينجحون فيه مع نهاية المسرحية.
تمرد ينتهي في الفصل الثالث
تكتفي هذه المسرحيات بالتمرد خلال الفصلين الأول والثاني، ليظهر التصالح في الفصل الثالث، الذي غالبًا ما يهبط فيه إيقاع المسرحية، وينصرف عنه كثير من المشاهدين لقلة الأحداث الدرامية و المواقف الكوميدية فيه. لإنها في النهاية مسرحيات إصلاحية لا تهدف لحثّ المشاهد على الشغب والثورة، بل التعبير عن رغباته في التمرد بطريقة سلمية، ودعوة أصحاب السلطة لاستخدامها على نحو رشيد.
وباسدال الستار يعود الجمهور لتذكر أن الأخ الأكبر دائمًا يراقبه، كما في رواية 1948 لجورج أورويل، فيضحك مداعبًا السلطة الأبوية، ويستمر في طاعتها والاستمتاع بأكل الفتة والكحك في العيد والعودة للحياة الاعتيادية بعد إجازة العيد الطويلة.