كانت أيامي الأولى في الغربة في إيطاليا هي الأثقل والأصعب. منذ وصولي في سبتمبر/ أيلول 2019 كنت أجوب شوارع مدينة بولونيا على قدميَّ بالساعات بعد يومي الدراسي في الجامعة طمعًا في إيجاد أي ونيس أو ونيسة، هربًا من الوحدة التي تضعني في أسوأ حالاتي النفسية. بعكس ميلانو وروما، لا يوجد في بولونيا الكثير من المصريين، فالمدينة الواقعة في شمال إيطاليا غالبية سكانها من الطلاب.
وحتي مع إتقاني اللغة الإنجليزية كانت عملية خلق علاقات جديدة واكتشاف البشر بعيدًا عن الوطن ثقيلة. خصوصًا أن حياتي في مصر كانت مليئة بالأصدقاء والخروجات والأحداث و"الكورة". وحتى بعد أن نجحت في خلق مجتمعي وأسرتي الكبيرة هناك، ظل حلم زيارتي لمصر يراودني.
وفي فبراير/ شباط 2020 كانت لدي ثلاثة خيارات لقضاء إجازتي القصيرة بعد انتهاء الفصل الأول من دراستي للماجستير في النوع الاجتماعي وقضايا المرأة.
ألمانيا كانت الخيار الأول، وتحديدًا مدينة ماربورج، لمساعدة أحد أقرب أصدقائي الذي ضاق به الحال في مصر على التأقلم على الحياة في أوروبا. حدد صديقي الخامس من فبراير موعدًا لسفره، واتفقنا أني سأحاول اللحاق به لمرافقته في معاناة إيجاد سكن وتخطي الأيام الأولى للغربة التي اختارها مضطرًا.
قطر والإمارات كانتا الخيار الثاني؛ رحلة لحضور مباريات الزمالك في رحلته الآسيوية لاستحقاقات كأس السوبر الإفريقي في قطر وبعدها الأهلي في الإمارات في كأس السوبر المصري. كان ذلك الاختيار محاطًا بالكثير من المخاطر لما كانت عليه العلاقات بين مصر وقطر وقتها. ولأن مجال عملي لا يسمح لي بزيارة بعض الدول درءًا للشبهات، استشرت زميل عمل له دراية بالمخاطر وكان رده حاسمًا "اتفرج في بيتك زي الناس إنت مش ناقص".
الخيار الثالث والأصعب كان أمي. قررت ماما ممارسة الابتزاز العاطفي المعتاد تجاهي، وكالعادة رضخت. كانت رحلتي الى القاهرة مليئة بالتوتر؛ فهناك احتمال التوقيف الأمني نتيجة لعملي في مجال حقوق الإنسان أو لنشاطي السياسي، وكان ذلك شائعًا وقتها مع معظم الباحثين والنشطاء العائدين من الخارج. بالإضافة الى الاستحقاقات الصعبة التي تنتظر نادي الزمالك في مباريات الدوري، والسوبر الإفريقي، ثم السوبر المصري تواليًا مع الإسماعيلي، الترجي التونسي، وأخيرا الغريم اللدود. مباريات كلها في أسبوعين بداية من 8 وحتى 19 فبراير 2020، كنت اتفقت مع عدد من الأصدقاء من مشجعي الزمالك على لقاء طال انتظاره ومشاهدات جماعية، ولكن لم يتفق القدر مع خططي.
بولونيا - طلخا
وصلت مطار القاهرة وفي شباك الجوازات طلب مني الضابط المسؤول عن التصريحات والأختام الانتظار لأن هناك "تشابه أسماء". سذاجة الحجة جعلت اللحظة مضحكة مبكية في آنٍ. طوال حياتي لم أقابل مصريًا غيري اسمه باتريك فما بالك باسمي الرباعي. أدركت ما أنا مقبل عليه فأبلغت والدي بما قد أواجهه في الساعات القادمة، دون أن يخطر ببالي أبدًا أنها ستكون قرابة سنتين.
في قسم شرطة المنصورة كانت أيامي الأولى هي الأصعب، إلا أنني بعد أول زيارة لأحد زملاء الحجز، وجدت نفسي مهتمًا بمعرفة ما إذا كانت هناك أخبار متداولة عن اعتقالي، ثم أخبار المباريات. ربما بحكم العادة وربما هربًا من ثقل الموقف.
مرت مباراة الإسماعيلي ولم أعلم عنها شيئًا، ثم تلتها مباراة الترجي. كانوا قد منعوا عنا الجرائد في الحجز إلا أن أحد المحامين أثناء جلسة التجديد أبلغني أن الزمالك فاز على الترجي، هكذا دون أية تفاصيل. بعد عدة أيام تم نقلي من قسم ثاني المنصورة إلى قسم طلخا وهناك كنا أكثر من ثلاثين شخصًا في نفس الزنزانة، كلهم من الجنائيين وأنا السياسي الوحيد. تنوعت اتهاماتهم بين جرائم النفس، والهاربين من تأدية الخدمة العسكرية، وأطفال الشوارع، وتجار الكيف، والمتهربين من دفع النفقة.
كانت زنزانة طلخا أكبر حجمًا من سالفتها في قسم المنصورة، ولكن مع كبر عدد المحتجزين وصوت الشفاط المرعب لا يمكنك سماع من يجاورك. مع هذا العدد الهائل، لم أتمكن من الجلوس سوى في وضع القرفصاء. ابتسمت حين طلب مني أحدهم أن أخلع الجاكيت لأنه "واخد مساحة".
في المساء كنا ننام "تسييف" أي أن تنام على سيفك، كل واحد على جانبه وليس ظهره حتى تتسع الزنزانة لنا جميعًا. لم يشغلني في ذلك الوقت طريقة النوم، أو الحمام الذي لا يوجد له باب، أو سوء المعاملة. أقلمت نفسي على التعايش بأقل القليل. تكفيني مياه شرب نظيفة وصابون. كان كل تفكيري أن أهلي لن يجدوني في قسم المنصورة، فهل سيخبرونهم هناك بمكان احتجازي الجديد أم سوف يعانون للحصول على تلك المعلومة؟
في أحد الأيام كنت أعرف أن مباراة الزمالك مع الفريق الأحمر ستبدأ في السابعة مساءً. حاولت بكل الطرق الوصول إلى مصدر صوت فالتصقت بالشباك إلا أن محولات الكهرباء و الشفاط قضوا على كل آمالي. كان صوتهم أعلى حتى من أصوات المشجعين على أقرب مقهى.
لم يكن أمامي سوى "بتاع الشاي"، في الحجز هناك صوت شخص ما يسألنا كل ساعة أو ساعتين "حد عايز شاي؟"، ونقوم بسحب الشاي من خلال "نظارة" وهي عبارة عن شباك في باب الزنزانة به مساحة صغيرة تكفي لتمرير ساندوتش أو علبة سجائر أو زجاجة مياه معدنية صغيرة. وكان السجناء يلفون الزجاجات البلاستيكية المعبأة بالشاي في بطانية داخل الزنزانة حتى يحتفظ بحرارته لوقت أطول.
طلبت شايًا للمرة الأولى منذ احتجازي أملًا أن يبلغني بتاع الشاي بنتيجة الماتش. وبالفعل جاء بعد بداية المباراة "صفر صفر لسة"، انتظرت لمدة ساعة أو أكثر لكنه لم يعد، وكنت فقدت الأمل في معرفة النتيجة، لكنه ظهر فجأةً من العدم "الأستاذ السياسي.. الزمالك كسب بلنات"، حاولت سؤاله "مين ضيع؟ مين جاب؟"، لكنه اختفى.
طلخا - طرة
في اليوم التالي كانت جلسة التجديد الأخيرة في المنصورة، كنت أعامل معاملة الإرهابيين شديدي الخطورة وبالتالي أُنقل منفردًا ومعي سيارات "بوكس" و "أتاري"، وسيارة الأتاري هي الاسم الدارج بالعامية لسيارة الشرطة التي تعلوها سرينة، كما يتم سحب الموبايل من الشرطي المرافق لي في الكلبش. سألته "ليك في الكورة؟" رد "مين مالوش في الكورة" قلت له "كويس، احكي لي الماتش بقى. مين ضيع البلنات؟" فقال "إنت ايه اللي عمل فيك كدا؟ شكلك محترم"، ومن بعدها انتقلت إلى القاهرة.
وصلت إلى سجن طرة تحقيق في ضاحية المعادي جنوب القاهرة، وأودعت زنزانة مع شخص في أوائل الستينيات ناقم على كل شيء، مستاء من تواجدي معه، قليل الكلام، ومتحكم جدًا. إلا أن الميزة الأهم في صحبته أن لديه راديو مكنني من متابعة الأخبار والماتشات، والميزة الثانية أنه لم يكن يشجع الغريم التقليدي، وهو أمر كان يمكن أن يتسبب في مشاكل أكبر بيننا.
كان التواصل بيننا محدودًا ومقتضبًا إلى أن جاء أحد الأيام كان لقاء العودة بين الزمالك والترجي. أقنعته أن نستمع إلى المباراة ووافق، في هذة اللحظة شعرت بأني استعدت لمحة من ملامح حياتي خارج السجن. بعد أيام قليلة وجدت أحد المخبرين يطلب مني اللبس والحضور "ضابط الأمن الوطني عايزك ضروري"، كان ذلك بعد وصولي إلى طرة تحقيق بحوالي أسبوع.
"إحنا عرفنا إنك زملكاوي من منى سيف" دهشت لسماع اسم منى في هذا السياق، قلت للضابط "تمام" وأنا قلق، هل سيسبب لي ذلك مزيدًا من المشاكل؟ فاجأني الضابط بأن أحد اعضاء مجموعة الوايت نايتس سينضم إلى زنزانتي.
كان الشاب مقبوضًا عليه من أمام استاد القاهرة أثناء حضور مباراة لفريق السيدات في البطولة العربية للكرة الطائرة. أوقفه أحد الضباط وطلب منه ورفاقه بطاقات هوياتهم، ليجدوا أنفسهم داخل سيارات الترحيلات وتبدأ رحلتهم مع الحبس الاحتياطي.
حاولت أنا وصديقي الألتراس إقناع زميلنا الثالث كبير السن أن يأذن لنا بالاستماع إلى المباريات، ولكنه لم يكن مرحبًا بتواجدنا معه أصلًا، ومع تفاقم المشاكل نُقل لزنزانة أخرى. أصبحت الزنزانة بلا راديو. كان ذلك كارثيًا لأنه في تلك الفترة كانت كل الزيارات مجمدةً بسبب جائحة كورونا، والتواصل مع العالم الخارجي منعدمًا تمامًا إلا من خلال رسائل مقتضبة تدخل مرة و عشرة لأ.
شغلنا ليالينا الأولى بالحديث عن تاريخ الزمالك واللاعبين وتاريخنا معهم، كان الوقت كبيرًا والليالي طويلةً. استعدنا ذكرياتنا مع المدرج ونهائي الكونفدرالية الأخير، وتوافقنا على تخاذل حازم إمام، وكره مرتضي منصور "حتى لو هنروح كأس العالم بسببه مش عايزينه".
ليالي الشتاء الطويلة
تربيت في منزل معروف بالتعصب الكروي بشكل عام وبشكل خاص لنادي الزمالك. لا أتذكر أن أمي مارست معي أي نوع من العنف في صغري إلا بسبب انصرافي عن الدروس عند سماع الكابتن حمادة إمام يصرخ "وخطييييييرة" أو مقدمة الكابتن ميمي الشربيني عن مدربي المباراة أصحاب "الكرفتات الشيك". كان ميمي يشير دائمًا إلى أناقة المدربين في تلك الفترة. وصلت مع أمي إلى مقايضة؛ قبل الماتشات المهمة أقوم بتسميع عدد من الدروس في مادة مقابل مشاهدة شوط من المباراة، وأحيانا استعطفها لاستكمالها. كان عنف أمي يبدأ من التعنيف اللفظي ويصل إلى "تمليص" الأذن، وهي أمور كانت مقبولةً من الأهل في تلك السنوات للأسف.
على عكس والدتي، لم يكترث والدي بما أدرس. الأمر كله كان لا يعنيه من قريب أو بعيد. زار بابا مدرستي ست مرات أتذكرها جيدًا، الأولى في أول يوم دراسي في سنة أولى ابتدائي عندما رفضت الذهاب للمدرسة، رافقني يومها في جولة في ملاعب الكرة بالمدرسة وأخبرني أنني سألعب كل يوم في تلك الملاعب، بل وجاء بمدرس ألعاب قال لي إنه صديق للاعبي الزمالك، كانت تلك أول كذبة من مدرس في حياتي، أما الثانية فكانت أنني لم أقترب من تلك الملاعب إلا بضعة مرات في الصف الثاني الابتدائي، وكانت تلك المرات أشبه بساحة حرب حيث يجري حوالي 35 طفلًا وراء كرة واحدة.
المرات الخمس الباقية التي زار فيها والدي مدرستي كانت لاصطحابي منها مبكرًا لنستطيع اللحاق بمباريات نادي المنصورة، مدينة نشأتنا. وفي الأغلب كان المنصورة يواجه الزمالك أو المنافس التقليدي ذا الزي الأحمر. كانت تلك من أفضل وأقرب اللحظات إلى قلبي؛ مشاهده فريقي المفضل في الملعب. حتى في هذا السن كنت أفضل الكورة على مشاهدة برامج وأفلام الأطفال.
لم يتوقف الأمر على المباريات، بل كان أبي يصطحبني الى فندق اللاعبين في ليالي المباريات. كانوا في تلك الفترة يقيمون في فندق مارشال المحطة بالمنصورة الذي يقع مقابل محطة القطار. علاقة أبي الجيدة بمسؤولي الفندق سمحت لنا بالدخول إلى اللوبي والتقاط الصور مع اللاعبين. لم يكن هذا يومًا عاديًا، إنما أحد الأيام التي تظل عالقة في الذاكرة.
إلى جوار الفندق تقع أكبر "فرشة جرايد" في المنصورة، وكنا نذهب إليها بعد منتصف الليل لشراء جرائد اليوم التالي، ولأنها فرشة كبيرة كانت من المصادر النادرة لتوزيع الجرائد الرياضية المتخصصة.
مررت من باب الفندق الضيق المصنوع من الألوميتال لأجد مدخلًا مكتظًا بالحضور، وشخصًا يسأل أبي "تبع مين ورايح فين؟" فيجيبه باسم مسؤول في الفندق لأدخل إلى مكان كله خشب بني وكراسي فاخرة نوعًا ما نسبة لأن الحدث كان منذ ما يقارب ثلاثة وعشرين عامًا. حالة من الانبهار انتابتني عندما وجدت نفسي أمام أشرف قاسم، كوليبالي، محمد كمونة، إسماعيل يوسف، سامي الشيشيني، وعبد الحليم علي. كل النجوم التي أحببتها في مكان واحد. فقدت النطق من كم الانبهار.
جلست منتظرًا دوري في التصوير مع نجومي المفضلين، لم يكن أبي يمتلك كاميرا ولكن وجدنا المصور الذي يلتقط الصور المدرسية أول كل عام دراسي في المدرسة هو نفسه الذي يلتقط صور اللاعبين مع معجبيهم. كيف يمكن أن يوجد مصور واحد فقط في مدينة بحجم المنصورة؟
عندما وجدت نفسي أمام معشوق الجماهير سوماليا كوليبالي، المحترف المالي في صفوف الزمالك، والذي لقب بالمدفعجي لما يخرجه من طلقات قوية في مرمى المنافسين، قفز في ذهني هدفه في مرمى المنافس التقليدي في موسم 99-2000 بقذيفة من منتصف الملعب. لم يستمر لقائنا سوى لثوان معدودة، تمنيت أن أطلب منه عدم الرحيل، وكانت تسربت أخبار سفره إلى الاحتراف في ألمانيا، ولكن اللقاء مر أسرع من قدرتي على الكلام. وعندما تكلمت تسببت لأبي وأمي في مواقف محرجة؛ أذكر اني قلت لمهاجم الزمالك "لازم تركز أكتر من كده" فابتسم وقال لي "حاضر هحاول".
وفي أحد المرات اصطحبنا أبي في رحلة عمل إلى الإسكندرية، وتصادفت إقامتنا في الفندق الذي يستضيف معسكر فريق الاتحاد السكندري قبل إحدى مباريات الدوري، وجدت نفسي في المصعد مع الكابتن أحمد ساري. بعد خروجنا من الأسانسير ابتسم لي ونحن في طريقنا إلى مطعم الفندق، قلت له "أنت أحمد ساري بتاع الاتحاد أنا عارفك"، كان نجمه خفت بعض الشيء بعد انتقاله من الزمالك للاتحاد رغم حصوله على لقب هداف الدوري في موسم 94 / 95، رد علي "أنت شاطر أوي تعرفني إزاي؟" قلت "ياريت تغلبوا الأهلي بقى" فضحك وتدخلت أمي معتذرة "آسفة أصله مهوس بالكورة".
سكوراية راديو
انتهينا أنا وصديقي الألتراس من تبادل الذكريات وبدأت رحلتنا في البحث عن راديو للاستماع لأي شيء يتعلق بالكورة. ما يجعلها رحلة شديدة الصعوبة هو ضرورة التعامل مع السجناء الجنائيين، وهي مغامرة يمكن أن تنتهي بالتجريد أو بتفتيش الزنزانة وقلبها رأسًا على عقب، وهو آخر ما قد يريده السجين.
بدأنا رحلة البحث وكانت أشبه بـ"سكوراية" وهي لفظة عامية تطلق على مغامرة شراء المخدرات، وما يزيد المغامرة تعقيدًا أنك لا تبحث عن راديو فقط، إنما أيضا عن بطاريات قابلة للشحن، وبالطبع العرض لا يناسب الطلب فكل مسجون يريد راديو.
يحصل أغلب الجنائيين بسهولة على راديو من خلال الزيارات ويدخل إليهم بشكل رسمي، على عكس السياسين. وكانوا يستغلون تلك الميزة في بيع الراديوهات لنا. كما كان لدى الجنائيين تلفزيونات في الزنزانة، فتحولت الراديوهات إلى سلعة لها بورصة أسعار معلومة للجميع، أثر عليها منع الزيارات أثناء الجائحة.
سعداء الحظ في السجن هم من يمتلكون سماعات لتجنب الخناقات والمشاكل، ومن يمتلكون ماكينة حلاقة بالكهرباء تمكنهم من إعادة شحن البطاريات بشكل مستمر. إذا امتلكت الاثنين فقد ضمنت الجنة ونعيمها في تلك البقعة السوداء من الحياة.
أثناء رحلة البحث "لبست" أكثر من راديو خربان. بعد فترة حصلت على الراديو الأبيض، وهو راديو المسموح دخوله للجنائيين عندما كانت الزيارة مفتوحة، وكان يدخل بعد معارك وليس بمجرد الطلب. كنت أنام وأصحو متمنيًا أن يعمل حتى لا تقتلني وحدتي، خاصًة بعد انتهاء القصص بيني وبين زميل الزنزانة.
أخيرًا تحصلنا على راديو مش بطال وأربع بطاريات شحن بمساعدة المعتقل الأجدع على الإطلاق أحمد دومة. ومن هنا عقدنا صفقة العمر؛ نشحن البطاريات في ماكينة الحلاقة الكهربائية بتاعة دومة قبل الماتشات، وبين الشوطين يأتي لنا السجان بالبطاريات المشحونة فنسمع الشوط الثاني لأن تشغيل الراديو بدون سماعات يفرغ البطاريات في وقت قليل جدا فلا نستطيع إكمال الماتش. كلفنا ذلك الراديو ثلاث "قرايص كيلوباترا" العملة المعتمدة داخل السجن، بما يساوي 730 جنيه تقريبًا، ولم أكترث مطلقا رغم علمي أني دافع ثلاثة أضعاف السعر.
استقر الوضع بعض الشيء، وفي أحد الأيام تلقيت "عرضًا لا يمكن رفضه"، أحد السجناء الجنائيين وكنا نطلق عليه اسم "حرز" عرض عليَّ راديو كهربائيًا، وهو ما يعني انتهاء مشاكل الشحن وكوابيس إني هصحى على حاجة غير "الكحة وعفوًا" بتوع الكابتن أحمد شوبير كل يوم الساعة تسعة صباحًا.
علاقات كروية
تجمع الكورة في السجن فرقاء السياسة. لا غرابة أن يقف قيادي اخواني في نفس جبهتي أثناء نقاش حول الفائز بنهائي إفريقيا للأندية بين الزمالك والنادي الأحمر، أو أثناء المناوشات حول الصفقة التاريخية لنادي بيراميدز بضم رمضان صبحي. كانت فرصة ممتازة لي لأستفز أكبر عدد من "المشجعين إياهم"، وبناء عليه كنت أسأل بشكل يومي "هو رمضان طار؟".
وصل الأمر لحد الرهان مع أحد الجنائيين من خلال نظارة زنزانتي أثناء تريضهم. كان يؤكد أن رمضان باقٍ فراهنته على ثلاث علب سجائر، وعند إعلان الخبر بشكل رسمي طالبته بدفع الرهان لكنه تهرب. تدخل الوسطاء حتى اقترب الشاب من دخول التأديب بسبب عدم وفائه بالرهان، والتخاذل عن الدفع أمرًا ليس هينا بين الجنائيين "بيطير فيها رقاب". إلا أنني في النهاية تحليت بأخلاق الزمالك وعفوت عنه، خاصة أننا فزنا بعدها بثلاثية. صرخت يومها من نظارتي "مش عايز أشوفك بكرا يا إسلام يا مانشستر" مصحوبة بسباب لكل من هو منتمٍ للنادي الأحمر ومشجعيه داخل السجن.
لا يتوقف الأمر عند المساجين، كان الشاويشية الذين تجمعنا بهم علاقات إنسانية يأتون لزنزانتنا، خاصة بعد انتقالي لزنزانة أحمد دومة، بعد هزيمة الزمالك متهكمين "مش هنفتح عليكم بكرة، عارفين ظروفكم".
بعد 20 سبتمبر 2019 والأحداث التي سميت بـ "هوجة محمد علي" قدر عدد المقبوض عليهم بما يزيد عن ثلاثة آلاف أغلبهم ممن تضرروا من القرارات التي اتخذتها الحكومة بهدم منازل محدودي الدخل. كان معظم المقبوض عليهم من مناطق بعيدة عن القاهرة، بالأخص من الصعيد والاسكندرية.
فقد معظمهم منازلهم وأصبحت أسرهم مشردة، إلا أنه مع مرور الأيام أدركوا أن ما باليد حيلة وأن الموضوع "شكله مطول"، فكان أول ما طلبوه بعد الشاي والسكر والسجائر، أن احتفظ لهم بصفحات الرياضة من جرائد الأمس، وأسلمها لهم من النظارة. لأنهم في البداية كانوا ممنوعين من التريض كما هو معتاد في فترة الإيراد.
كنت أتمنى أن أكون محبوسًا في عنبر به ملعب كرة أو مساحة للعب، ولكننا صنعنا "كورة شراب" بعد أن تبرع كل فرد بما يستطيع من شرابات لنحسن من هيئة الكورة واستدارتها. وكنا نلعب في الممر الصغير الذي كان يُسمح لنا بالتريض فيه.
وفي آخر الأيام عندما نقلوني إلى سجن المنصورة حيث أطلق سراحي، كانت جلسة محاكمتي بالتزامن مع مباراة مصر والجزائر في كأس العرب. بعد يوم مليء بالتوتر وأحلام الخروج لم يخبروني بقرار القاضي، فتحول مطلبي من التلويح بالإضراب عن الطعام لمعرفة القرار إلى الإضراب للحصول على الراديو الخاص بي للاستماع للمباراة.
وعندما رفضوا بشكل قاطع قسمنا الأدوار أنا وزميل مهووس بالكرة مثلي؛ أحدنا على شباك الزنزانة المطل على استاد المنصورة لمحاولة رؤية جزء من الشاشة الضخمة في النادي الاجتماعي تكتب فيه النتيجة، والآخر بأذنه على نظارة الزنزانة يسأل الزنازين الأخرى على النتيجة بعد كل صيحة تحمل أحداثًا جديدة.
كان ضمن أكثر ما أفتقده الالتفاف حول الماتشات وتبادل "الهبد" الكروي مع أصدقائي الذين يتحولون بعد المباريات إلى محللين محنكين. إلا أنه أثناء مباريات المنتخب الأوليمبي الأخيرة ولتزامنها صباحًا مع أوقات التريض، استطعنا أخيرًا الالتفاف حول الراديو أثناء مباراة البرازيل التي خرجنا بعدها. يومها استعدت بعضًا من ذكريات الحرية وحاولت الهرب من السؤال الذي لا توجد له إجابة "امتى هيخلص الكابوس دا ونقعد نتفرج على القهوة مع حجر المعسل زي العادي".
دعم كروي
لم تخلو حملات دعمي من الطابع الكروي. في ثاني جلسات تجديد حبسي علمت بما قام به زملائي في الجامعة عندما ذهبوا إلى مباراة بولونيا ويوفنتوس بعد القبض عليَّ بأيام رافعين لافتة "العدالة لباتريك". وفي مصر "زملاء الكورة" شديدي التعصب للنادي الأحمر الذين اعتادوا اللعب معي في نادي التوفيقية الثلاثاء من كل أسبوع التقطوا صورة مجمعة لهم بتيشرتات الزمالك مكتوبًا عليها اسمي. وحجز زملاء مغاربة تذكرة الكترونية باسمي لمباراة الزمالك والرجاء في نصف نهائي دوري أبطال أفريقيا نسخة 2020.
وفي أكثر من مرة عرض ملعب بولونيا صوري قبل وأثناء المباريات لإظهار الدعم لي ولقضيتي، وبعد خروجي مباشرة أرسل النادي قميصه الرسمي موقعًا من كل اللاعبين ودعوني للعودة في أسرع وقت للمدرجات لمشاهدة الفريق في بولونيا.
لم يتوقف الدعم عند ذلك الحد، أثناء بطولة أمم أوروبا الأخيرة قام مشجعين إيطاليين بطباعة اسمي على رابطة يد مدونين عليها "الحرية لباتريك" حضروا بها المباريات وصنعوا من صورتي مجسم كان مصاحب لهم في الاستديوهات التابعة للقنوات الرياضية "Rai"وأيضا قام لاعب منتخب إيطاليا السابق كلاوديو ماركيزيو بالإشارة لها ودعمي قبل المباراة النهائية التي فازت بها إيطاليا.
لم أكن أحلم بكل هذا التضامن من الأندية الإيطالية واللاعبين العالميين والاعلاميين الرياضيين لي ولقضيتي. من كنت أشاهدهم في التلفزيون وفمي مفتوحًا من الإعجاب بما يقدموه وجدت نفسي في أحد الأيام مُعلق على صدورهم يطالبون بخروجي من السجن. في أول يوم لي خارج محبسي تلقيت رسالة من رئيس نادي بولونيا يقول لي "ننتظرك في الملعب لمشاهدة المباريات من المدرج مرة أخرى"، وفي إحدى الندوات التي شاركت فيها أونلاين بعد خروجي فوجئت بتواجد أحد أبرز نجوم الكرة الإيطالية ماركو دي فايو يدعوني لمشاهدة إحدى مباريات فريق مدينتنا بولونيا معه.
الصيع والمهندسين
أظن بعد كل هذا أن كرة القدم أنقذتني، أو كما يقول معظم المعلقين "بتدي اللي يديلها". وأظن نفسي ممن قضوا ساعات طويلة من حياتهم بين الاستديوهات التحليلية، المباريات، الاستاد، المقاهي، والترحال.
تلاشى حلم الطفولة بأن أكون لاعبًا محترفًا مع بداية مرحلة الثانوية العامة بسبب والدتي "معندناش صيع عندنا دكاترة ومهندسين". تأكدت في ذلك الوقت أنني سأتحول لأحد المتفرجين مدمني الكرة الذين تركوا حلمهم لأنهم وقعوا في فخ مطالب الأسرة والضغوطات المجتمعية التي تصهرك في قوالب الأغلبية. ولكني أبدًا لم أتخيل بأي شكل أن الكورة سيكون لها كل ذاك الأثر في حملة المطالبة بخروجي ولا أنها ستكون أهم ما ينقذ روحي داخل السجن إلى جانب القراءة.
جعلت الكورة السجن أقل حدة على نفسي، كنت كل مرة أقرأ خبرًا عنها في ورق الجرائد الملفوف به طعام الزيارة في خطة اتفقت عليها مع أختي في بداية الحبس قبل أن يُسمح لي بالجرايد. ساعدتني تلك الأخبار في الخروج من حبسي ولو للحظات واستدعاء لحظات من النوستالجيا تأخذني داخل عقلي لصرخة على مقهى تتبعها ضحكة، أو عراك في المكتب مع الزملاء الأهلاوية، وإلى صرخات الحرية في الاستاد.
رتبت يومي ليبدأ في السابعة صباحًا بأول برنامج رياضي وينتهي بسماع النشرة الأخيرة على إذاعة أون سبورت في منتصف الليل، وأحلى أيامي هي التي تخللها عدد لا بأس به من المباريات شغلت عقلي عن التفكير في الزنزانة والسجان والتعلق بالأمل والغرق في الاحباط قبل وبعد جلسات التجديد. رغم أني فشلت في أن انتمي لـ"الصيع" إلا أنه لولا الكورة لفقدت عقلي في الأيام التي ضربني فيها الاكتئاب القاتل وظننت أنه لا أمل في الخروج.
أخيرًا، سلامي إلى زملائي القابعين في السجون الذين يغامرون من أجل الوصول إلى راديو ليقتنصوا 90 دقيقة للهروب من واقع ظالم ومجحف لا يستحقونه.