من مصنعه الصغير في العاشر من رمضان، يثابر رجل الأعمال الخمسيني معتز القناوي على إنتاج ماكينات تصنيع تنافس المستورد من الدول الأوروبية، ومع أنه يقوم بدور تهتم به الدولة بشدة في الوقت الراهن لتقليل نزيف العملة الصعبة، فهو يواجه ضغوطًا بشأن عدم قدرته على استيراد مدخلات الإنتاج، تسببت في تقليل حجم نشاطه إلى النصف.
تتشابه قصة القناوي في الكثير من تفاصيلها مع مسار التطور الذي ترويه كتب التاريخ عن الرأسمالية في أوروبا. فهو من الجيل الثالث لعائلة كانت تعمل في التجارة ثم قررت التحول إلى صناعة قطع الغيار و أجزاء الماكينات.
المنصة زارت القناوي في مصنعه، وسمعت منه تفاصيل نشاطه الصناعي الذي يتطابق مع مخططات الدولة الراهنة لإحلال الواردات، لكنه يتعرض للكثير من العوائق التي نستعرضها في هذا التقرير كنموذج لمشكلات مئات المصانع الصغيرة والمتوسطة في مصر، نحتاج لدورها الإنتاجي في الأزمة الراهنة.
الحكومة تشجع والدولار يعصف بالجميع
في بداية التسعينيات أسس معتز القناوي مصنعه المتخصص في المعدات الهيدروليكية والنيوماتيك، في نفس التوقيت الذي كانت تتجه فيه الدولة لخصخصة القطاع العام والاعتماد بشكل رئيسي على جهود القطاع الخاص "فكرة إنشاء المصنع تطورت مع تجارة العائلة، كان هناك احتياج لماكينة بعينها لمصنع التعبئة والتغليف الذي تمتلكه العائلة. نجح المهندس معتز في تصنيعها، وتطورت الفكرة بتشجيع من الوالد والأعمام في ذلك الوقت، لتصبح الفكرة مصنعًا في العاشر".
حصل القناوي على الدكتوراة في الهندسة من جامعة عين شمس وعمل في المجال الأكاديمي لفترة قصيرة، قبل أن يختار التركيز في الطريق العملي "أيام عبد الناصر كانت السوق مقفولة على كل الناس وكان فيه اجتهادات في الإنتاج حتى لو نص جودة، بس الدنيا ماشية، المشكلة إن إحنا أصبحنا أمام تيار استيراد لا يمكن الوقوف أمامه".
استطاع القناوي خلال ثلاثة عقود التوسع في مجاله الذي يوفر منتجات هندسية تخدم صناعات متعددة، ويعدد من مكتبه الذي يشبه الكارافان بالدور الثاني منتجات المصنع "نصنع ماكينات تخدم كافة الصناعات المحلية زى ﺍﻟﻤﻜﺎﺑﺲ ﻭﺍﻟﻤﻌﺪﺍﺕ ﺍﻟﺜﻘﻴﻠﺔ ﻭﻣﺎﻛﻴﻨﺎﺕ ﺻﻨﺎﻋﺔ ﺍﻟﺒﻼﺳﺘﻴﻚ وماكينات الطباعة والتغليف".
وتستهدف الدولة في الوقت الراهن تشجيع المستثمرين على الدخول في تجارب مشابهة لتجربة قناوي للحد من استنزاف العملة الصعبة في شراء الواردات، التي تمثل قيمتها الإجمالية أكثر من ضعف قيمة ما نقوم بتصديره.
وعلى عكس الاعتقاد الشائع، فإن ما نستورده من منتجات استهلاكية معمرة وغير معمرة لا يمثل الضغط الأكبر على رصيدنا من العملة الصعبة. قيمة ما نشتريه من الخارج من هذه السلع تصل لنحو ربع فاتورة واردتنا، بينما تمثل السلع الوسيطة، مثل قطع الغيار، والسلع الاستثمارية، مثل الماكينات، ما يقرب من نصف هذه الفاتورة.
لذا تهتم الحكومة بدعم هذه الصناعات، وعبرت عن هذا مؤخرًا من خلال مبادرة دعم وتوسيع قاعدة الصناعات الوطنية وتم تشكيل مجلس تنفيذي لإحلال الواردات وتعميق المنتج المحلي.
وفي مايو/ أيار الماضي أعلنت وزارة التجارة والصناعة عن مبادرة تضم قائمة بالقطاعات ذات الأولوية للتصنيع المحلي، استهدفت تسع صناعات كبداية وكانت الصناعات الهندسية ضمن أبرز مجالاتها. إلا أن المبادرة لم تحدد إطارًا زمنيًا لتطوير هذه القطاعات، كما لم تحدد قيمة الاستثمار المتوقع لتحقيق هذه الأهداف.
يأتي هذا الاهتمام مدفوعًا بأزمة ضعف التدفقات الدولارية لمصر، التي تأثرت بأزمة الحرب الروسية الأوكرانية وسياسة سعر الفائدة في الولايات المتحدة، ما ساهم في خروج استثمارات أجنبية قصيرة الأجل من مصر، وارتفاع تكاليف القروض الحكومية.
لكن حديث الدولة المتكرر عن توطين الصناعة لا يكفي لمساندة القناوي، فهو لا يصنع قطع الغيار وأجزاء الماكينات بشكل كامل، بل يضطر لاستيراد ما بين 40 إلى 50% من مكوناتها من الخارج، لذا فهو يواجه في الوقت الراهن مثل أي مستورد مشكلة صعوبة الاستيراد.
"عندى مكنة بسيطة لكبس المخلفات، في المطبعة لازم تكبس المخلفات حتى لا تشتعل، المكنة دى فيها خرطوم سليندر هيدروليك، وسير كل المكونات دي بنضطر نستوردها مباشرة أو من خلال مستوردين محلين"، كما يتحدث القناوي عن أحد أمثلة المدخلات التي يضطر لاستيرادها.
ويسترسل في حديثه على خلفية ضجيج العمال في الدور الأرضي "انا بالعافية عندي محرك كهربي والموتور هو ده الحاجة الوحيدة اللي بتتصنع هنا، انما الباقي مع الأسف بيجي من بره".
وضعت الأزمة صناعات مثل المجالات الهندسية أمام حقيقة غياب التخطيط الصناعي وتصفية صناعات مهمة مثل شركة الحديد والصلب بحلوان، حيث يقول "حتى المسمار الحديد اللى بيتربط محدش بيصنعه في مصر بعد غلق شركة الحديد والصلب".
يواجه القناوي مثل البقية مصاعب في الاستيراد منذ قرار البنك المركزي في منتصف فبراير/ شباط الماضي، بوقف التعامل بمستندات التحصيل في جميع العمليات الاستيرادية والاستيراد بالاعتمادات المستندية فقط. "السوق قفلت على الكميات الموجودة، وقطع الغيار أسعارها ضربت (..) آخر شحنة استيراد وصلت مصنعي كانت في أكتوبر الماضي، والموافقة الثانية على الاعتماد المستندي كانت في بداية يونيو، والثالثة لسه مقدمين عليها، ويا مسهل".
وساهمت أزمة الدولار في مضاعفة التحديات التي تواجه الصناعات المحلية، خاصة مع ضعف مستوى التكنولوجيا الذي يضطر الكثير من الصناعات للاعتماد على الخارج.
عمر الشافعي، أحد ملاك شركة المجموعة الهندسية الطبية التي تعمل في صناعة حضانات أطفال وأجهزة علاج ضوئى، يقول إنه يحتاج لاستيراد ما يصل إلى 60% من مكونات صناعته لأن "مصر دولة ضعيفة جدًا في الصناعات المغذية، صناعة الأجهزة الطبية تحتاج إلى رقائق الكترونية، وهى صناعة دقيقة نجدها في اليابان والصين وبعض الدول الغربية فقط".
وتم الإعلان مؤخرًا عن استثناء مستلزمات الإنتاج والمواد الخام من الإجراءات التي تطبق على عمليات الاستيراد، في محاولة لتيسير عملية الاستيراد، لكن عمليًا لا تزال مشكلة نقص العملة تحد من القدرة على العودة لتدفق هذه الوردات بنفس مرونة ما قبل أزمة العملة.
يقول عضو هيئة المكتب التنفيذي باتحاد الصناعات، محمد البهي، إن الاتحاد تلقى الفترة الماضية العديد من الشكاوى بشأن توقف خطوط إنتاج بسبب عوائق الاستيراد، مضيفًا "احنا عارفين إن الدولة في أزمة مثلنا، والدليل أنه لا يوجد دولارات في البنوك".
الهدف الأساسي من حل مشاكل الصناعة، كما يرى البهي "هو حماية البعد الأمني والاجتماعي، لأن العاطلين دول خطر على المجتمع".
وبحسب بيانات البنك المركزي، تراجع صافي الأصول الأجنبية بالبنوك المصرية من فائض 2.6 مليار جنيه في يونيو 2021 إلى عجز بـ 182.1 مليار جنيه في يناير الماضي، كما أظهرت بيانات احتياطي النقد الأجنبي تراجع في مايو الماضي إلى 35.5 مليار دولار على أثر سداد مستحقات ديون أجنبية.
هل أسطورة "العربي" قابلة للتكرار؟
يمثل رجل الأعمال الراحل محمود العربي الذي أسس إمبراطورية صناعية ضخمة في مجال المنتجات التكنولوجية أسطورة مُلهمة للقناوي وجيله من المصنّعين، لكن الأخير يرى أن أزمة الدولار الحالية تقلل من فرص توسع الصناعة في الوقت الراهن.
يرى القناوي أن نجاح تجربة العربي قام على إنشاء مجموعة من الصناعات المغذية لصناعته، "الحاج محمود العربي، كان بيعمل كده، محتاج جزء بلاستيك مثلًا في المروحة اللى ينتجها، فكان يشتري ماكينة بلاستيك، ويوديها بلدهم لشخص ومعه الاسطمبة والخامة، ويقوله انا متعاقد على كل إنتاجك".
بينما في الوقت الراهن يعاني القناوي والعديد من الصناعات في مجاله من انخفاض الطاقات الإنتاجية، ما يعوق طموحات التوسع في تعميق الصناعة، حيث يشرح أنه خلال العام الراهن تراجع حجم الإنتاج في مصنعه بنحو 50% ليس فقط بسبب نقص مدخلات الإنتاج، ولكن بسبب ارتفاع أسعار قطع الغيار المتاح منها في ظل ارتفاع الدولار أمام الجنيه.
ويقول القناوي إن تباطؤ الإنتاج في المصنع أثر سلبًا على دخول العاملين أيضًا "اذا حقق العامل تارجت معين، يُصرف له حافز، لكن لو أنا ماعرفتش أجيب خامات، لن يكون هناك عمل إضافي، وبالتالي حجم العمل قل، ولم اصرف الحافز منذ 8 شهور".
ويضيف "نعيش أصعب فترات مرت على الصناعة كل يوم الإجراءات بتزيد، هناك طابور في إجراءات الاستيراد، وتسجيل الشحنات في الميناء، وتسجيل في السفارة، وتسجيل فاتورة إلكترونية، إلخ. كل ذلك يؤثر على حجم الإنتاج، وهو أخطر شيء، لأني لا أنتج ما يغطي مصاريفي".
ويوسع القناوي من دائرة تحليلية لآثار الأزمة الراهنة، حيث يذهب أيضًا إلى أنها ستضر بالمستهلك "فيه شريحة من الصُناع اللى تحت السلم، ستتأثر بقوة من الأزمة الحالية، مثل مصنع الغساله الايديال بالحلة الرأسية تباع ب500 او 1000 جنيه، هؤلاء لهم مستهلكون لن يستطيعوا شراء الماركات الكبيرة".
مشكلة المستثمر المزمنة
بجانب أزمة الدولار، هناك مشكلات هيكلية مستمرة مع الصناعة من أبرزها مشكلة نقص الأيدي العاملة المدربة. في بداية تأسيس مصنع القناوي "كان الاعتماد على عدد قليل من الفنيين، ثم ازداد على حسب حجم الطلب على منتجاتنا، أنا عندي فنيين فوق الستين عاما وانا محافظ عليهم بادائهم الضعيف لان معنديش بدائل من الصغار".
توفير الأيدي العاملة أصبح من المصاعب التي يواجهها القطاع الخاص، "الصغير بيقعد سنين في التدريب، وعندما يكون خبرة يتركنا ويذهب للعمل في المصانع الكبيرة مثل فريش أو السويدى، للحصول على السمعة الطيبة لأن المصانع الكبيرة لديها عربيات بتنزل لحد بلد العامل، إمكانيات لا يمكن اقدر منافساتها". ويتساءل "ازاي أقدر أنافس كيانات كبيرة؟".
الحل الذي يطالب به الحكومة، ضخ عمالة فنية في السوق. "كان فيه مشروع كبير اسمه مبارك كول، الألمان قعدوا 5 سنين يدربوا ويطلعوا كوادر في منتهى الاحترام، وبعد رحيل الألمان تراجع المشروع".
الحلول تنبع من مشاكل المستثمرين
على الأجل القصير، يطالب القناوي بأن تكون الدولة أكثر انحيازًا لتوفير الدولار للصناعة، وأكثر تشددًا في توفيره للمنتجات الاستهلاكية المستوردة تامة الصنع.
أما التراجع عن قرار الاعتمادات المستندية فلم يكن مدروسًا كما يرى القناوي. "كان لابد أن يكون بشروط، مثلًا قطاع الأجهزة المنزلية أشترطوا عليه يقدم خطة لتطوير الصناعة قبل التراجع في القرار، حتى يكون هناك حساب، وممكن امول مصانع الصواميل والمسامير في مصر بشرط ياخدوا مهلة سنة وبعد السنة ماحدش يستورد من برة، وأكون طمنت مجتمع الأعمال إن عندي بديل واتنين مصري".
الشروط كانت ستظهر طلبات رجال الأعمال مثل توفير الأراضي، تخفيض الجمارك، تسهيل القروض … إلخ".
ويقترح القناوي وضع استراتيجية محددة، "الموضوع محتاج رؤية كبيرة من كل المساهمين في المجال الصناعي، وأساتذة جامعة ورجال أعمال واقتصاديين على مالين على شركاء خارجيين اللي بنستورد منهم المكونات، وأحدد إيه اللي أقدر أعمله بالتدريج خلال أسبوع وسنة وسنتين وخلال عشر سنين، وايه اللى ما ينفعش خالص".
ويتشارك مع القناوي العديد من رجال الصناعة في رؤيتهم حول ضرورة وجود استراتيجية أكثر وضوحًا لتوطين الصناعة، وتقليل الاجراءات الحكومية.
كان منهم أيمن الفخراني عضو مجلس إدارة الغرفة الهندسية "أنا بقالى سنتين اشتريت ماكينات من الخارج لصناعة مواد مغذية لعملي، ولا أستطيع البدء في العمل بسبب البيروقراطية من هيئة التنمية الصناعية".
ويرى الفخراني، في حديث للمنصة، أن ما يحتاجه المصنعون المصريون قبل كل شيء هو "القضاء على البيروقراطية. لو حدث هذا ستتوسع الصناعات تلقائيًا".
كذلك يرى محمد البهي أن توطين الصناعة في مصر مرهون بأمرين " تدبير العملة الأجنبية في البنوك لشراء المستلزمات التي لا تنتج في مصر، وتاني حاجة إزالة المعوقات البيروقراطية".
لا يحب معتز القناوي التفكير في المستقبل بعد إغلاق عدد من خطوط الإنتاج، ويقول ضاحكًا "أي واحد في سني هيفكر كتير هيرقد ويقعد في بيتهم، إحنا بننزل ونقول على الله".
لا يبدو على الرجل هذا التشاؤم وهو يهبط السلم في اتجاه مجموعة من العمال مشغولين بلحام إحدى الماكينات أسفل نافذة مكتبه، بل يدخل معهم في حوار ضاحك، قبل أن يعود إلى مكتبه وهو يدعو جهرًا بألا يستمر هذا الوضع طويلًا.