ليس لديّ أدنى شك في أن الناظرين من أبنائنا وأحفادنا إلى صورة فوتوغرافية التقطت عام 1914، سيندهشون إلى درجة أن تنعقد ألسنتهم عاجزة عن التعبير حين تقتحم عيونهم ثلاثة من فلاحي المنوفية، وهم يقفون بجلابيب ممزقة، لم تغن الرقع الكثيرة عن إخفاء أجزاء عارية من أجسادهم التي قدحتها الشمس الساطعة.
ويحتاج الأبناء والأحفاد إلى أن نقول لهم إن الدولة كانت في تلك الأيام البعيدة لديها مشروع لمكافحة الحفاء، وبالقطع فإنهم سيندهشون من جديد، وقد لا يستوعبون ما نحدثهم عنه، لاسيما إن أخبرناهم أن هذه المشكلة لم تكن وليدة الفقر فقط، لكنها كانت أيضا ربيبة ثقافة، لا تجد حرجًا على الإطلاق في ملامسة الأقدام العاربة، بل وانطباعها، في الطين، مصدر الخصوبة والنماء.
اليوم تتعدد مظاهر الفقر في الريف والمدينة على حد سواء، لكن الفرق بين ما جرى في الماضي وما يحدث الآن، أن الناس أصبحت أكثر إدراكًا للعوز والحرمان وضيق ذات اليد، وأعمق شعورًا بهذا كله، بعد أن عرفوا مظاهر الثراء أو على الأقل السترة، من وسائل إعلام ودراما تلفزيونية وأفلام سينمائية ومواقع تواصل اجتماعي على شبكة الإنترنت تنقل لهم طرائق عيش علية القوم، ومن سفر صار سهلًا، مع سرعة المواصلات، واتساع الطرق، وفي ظل ما أتيح لكثير منهم من خروج من الريف إلى المدينة، ومن مصر إلى بلاد النفط، ومن هذا كله إلى الدول المتقدمة اقتصاديًا.
زاد من هذا انفتاح السوق على مصراعيها، وتدفق السلع بلا هوادة، وتنوعها إلى حد مربك. فقديمًا كانت أغلب الفروق بين السلع التي يستهلكها الأغنياء وتلك التي تصل إلى أيدي الفقراء تنصب على الكم وليس الكيف. اليوم صار النوع أنواعًا، تتفاوت في أسعارها، وقيمتها الغذائية، ويبدو، لأول وهلة، أن من قام بتصنيعها كان يقصد أن يكون مشتروها مختلفين في قدراتهم المالية، أو خلفياتهم الطبقية. وأتاحت المتاجر الكبرى التي خلقتها العولمة والإعلانات التي تطارد المرء كظله، للفقراء أن يعرفوا موقعهم الحقيقي من السلع، ويتبينوا، في ظل هذا، مكانهم ومكانتهم في المجتمع كله.
مؤشر الحرمان غير المادي
لكن تلمس الفقر لا يقف عند حد معرفة حجم التباين في القدرة على الاستهلاك، إنما يمتد أيضًا إلى الخدمات التي يحصل عليها الفرد، وكذلك ملكيته لأصول عينية. وربما يكون مؤشر أكسفورد، الذي يقيس أوجه الحرمان غير المادي، أفضل تعبير عن هذه الحالة، إذ إنه ينشغل برصد عدد الذين لم يذهبوا إلى المدرسة أو غير الحاصلين على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، أكثر من انشغاله بالبطون الخاوية.
لكن هناك دليل عالمي للوقوف على حال "الفقر متعدد الأبعاد"، يعتمد على قياس ثلاثة أبعاد أساسية هي: التعليم والصحة ومستوى المعيشة، ليتوزع تحتها إلى عشرة مؤشرات، يوضع لكل منها وزن مرجح. ففي التعليم يقيس المؤشر التحاق الأطفال بالمدرسة، وسنوات الدراسة. وفي الصحة يقيس وفيات الأطفال وحال التغذية.
وفي مستويات المعيشة، ينظر إلى الخدمات التي تكون بحوزة الفرد من كهرباء ومرافق صرف صحي، ومياه شرب، ونوع أرضيات البيوت، التي يمكن أن تكون لدى ذوي الفقر المدقع من التراب أو الرمل أو الروث، ووقود الطهي، الذي قد يكون عند هؤلاء من الخشب أو الروث أو الفحم النباتي، وأخيرًا ملكية الأصول، والتي تتراوح بين الأجهزة المنزلية وامتلاك سيارة.
وحين جاء هذا المؤشر إلى المجتمعات العربية كان لا بد من تعديله، ليناسبها، لذا تم مساعدة الدول على وضع "دلائل فقر وطنية"، تراه من زوايا متعددة، وتفرق بين الفقر المدقع، وذلك الأقل حدة، وتعتمد على أنماط من المسوح العنقودية والسكانية والصحية. ويمكن أن نضرب مثلا على هذا بالمشاورات التي تمت، عبر عدة جولات، بين اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) وممثلي بعض الوزارات المصرية ومنظمة اليونيسيف ومبادرة أكسفورد للفقر والتنمية البشرية، وانتهت إلى مؤشر خاص بمصر يركز على مؤشرات عديدة هي: التحصيل التعليمي، ومدد الانتظام في الدراسة، والتقزم والهزال الذي يصيب الأطفال بسبب سوء التغذية، ومدى توفر تأمين صحي.
وكذلك نوع المسكن، وحالته من حيث كثافة الساكنين، وما إذا كان في منازلهم صرف صحي، ومياه نظيفة غير متقطعة، وحصولهم على خدمات التخلص من القمامة، وقدرتهم على الوصول إلى الإنترنت، ووجود كهرباء في بيوتهم، والأصول المنزلية من أجهزة وغيرها، وأصول الاتصالات، وكذلك أصول التنقل والنقل العام، ووضع العمل، والطابع غير الرسمي له، ووجود التأمين الاجتماعي من عدمه، والحصول على مساعدة اجتماعية، مثل مبادرة "تكافل وكرامة".
هذه المؤشرات لا يمكن تحصيلها عيانًا، أو بالمسح المباشر، لواضعيها، والقائمون على جمع البيانات وتحليلها، إنما يلجأون إلى التقارير الحكومية أو الدولية، لتقديم صورة أوسع لها. وربما يلوذ بعض الدارسين باستخدام منهج "دراسة الحالة" أو فحص عينة ما، عشوائية أو منتظمة، لمحاولة الاقتراب من حالة الفقر في المجتمع، لكن الطريقة الأخيرة تصلح في تقديم دراسات عن الفقر، لكنها لا يمكن أن تنجز تقريرًا شاملًا عنه.
مع هذا فإن كثيرًا من هذه الدراسات القائمة على الملاحظة بالمشاركة أو الاستبيان أو المقابلة المعمقة تقدم صورة مصغرة للمجتمع، قابلة للتعميم إلى حد ما، لكنها تعتمد في النهاية على التحليل الكمي، وتقف عارية أمام سهام النقد والتجريح التي تطلقها السلطة السياسية، مشككة في قدرة هؤلاء الدارسين على بلوغها، ووصف ما انتهوا إليه بأنه معزول ومجتزيِء وغير ممثل للدولة جميعًا.
وبوسعنا أن نعمق النقاش حول التقارير الدولية ونضيف إلى مؤشرات الفقر بنودًا أخرى، لكن هذا لا يؤدي في الواقع سوى إلى زيادة في الأرقام والبيانات إلى حد التخمة الشديدة، التي تخفي وراءها حقائق جلية، لا تخطئها أذن السامع، ولا عين الرائي. وهذه الحقائق تبدو هي المظاهر الحية للفقر في حياتنا. إنها مظاهر من لحم ودم، تبض بالمعاني، وترسم صورة ذهنية عن الحال الاجتماعي حتى لدى أبسط الناس، ولا يغفل عنها إلا جاهل أو غافل أو مغرض.
بعيدًا عن دفاتر الحكومة
بعيدًا عن دفاتر الحكومة، التي تمارس أحيانًا نوعًا من الكذب بالأرقام، فهناك مظاهر لسوء الأحوال الاقتصادية، يمكن أن نلخصها على النحو التالي:
أ ـ الغذاء: تزايد أعداد نابشي القمامة بحثًا عن بقايا طعام، وأعداد من يشترون نفايات اللحوم مثل أرجل الدجاح وهياكله العظمية، وعظام الماشية وأمعائها. وارتفاع معدل استهلاك الخبز، حيث لا يملك الناس بدائل أخرى، أعلى قيمة غذائية، لملء بطونهم. وتراجع عدد موائد الرحمن في شهر رمضان، حيث يصوم المسلمون، أو تدني جودة الأطعمة التي تقدم عليها، وتراجع ذبائح الأضحيات. بل إننا قد نجد، في الأحياء الفقيرة جدًا، أن الحيوانات الضالة من الكلاب والقطط لا تجد ما يُشبعها في صناديق القمامة، ولذا تبدو للرائي هزيلة وضامرة.
ب ـ الكساء: زيادة المترددين على الأساكفة، لرتق الأحذية القديمة، وعلى الخياطين لتدوير الياقات البالية للقمصان القديمة، وعلى حرفيي "الرفَّا" لسد فُرج الملابس الممزقة، وارتفاع معدل الإقبال على سوق الملابس المستعملة "البالة"، أو الاحتياج للأقارب الموسرين لتلبية الملابس والأغطية.
ج ـ الدواء: ازدحام المستوصفات الطبية الرخيصة، وارتفاع الإقبال على المستشفيات الحكومية التي تفتقد إلى إمكانيات حقيقية لتقديم العلاج، وعجز الناس عن شراء أدوية الأمراض المزمنة، أو اكتفائهم بجرعات أقل من الدواء الذي أقره الطبيب، أو البحث عن بدائل أقل سعرًا.
ويمكن في هذه الناحية، وطالما أننا في مجال الطب، أن نتحدث عن زيادة معدل الإقبال على عيادات الطب النفسي، لانتشار أمراض القلق والاكتئاب الذي يعزى إلى سوء الأحوال المادية، وما قد يؤديه هذا إلى زيادة عدد الهائمين على وجوههم في الشوارع من المصابين بالذهان والفصام والصدمات العصبية الشديدة ومختلف أشكال الاعتلال النفسي.
د ـ الإيواء: زيادة عدد المشردين في الشوارع، ممن يفترشون ليلًا الأرصفة، وأسيجة الحدائق، وتحت الجسور، واستمرار الطلب على سكن المقابر، ونشاة بيوت هشة من الصفيح والخشب على أطراف المدن، تفتقد إلى الحد الأدنى من الحياة اللائقة.
هـ ـ انتعاش الأنشطة الاقتصادية الهامشية: حيث تكدس الجالسين في أماكن انتظار العمالة الموسيمة أو العابرة "التراحيل"، وزيادة عدد الباعة الجائلين، لاسيما ممن يعرضون على الزبائن سلعا رخيصة، ويزيد عدد المتسولين، وزيادة عدد بائعي المخلفات والأجهزة المستعملة "الروبابيكيا"، وكثرة التردد على من يقومون بإصلاح الأجهزة الكهربائية الخربة والمعطوبة والمعطلة، وزيادة عدد من يحفرون داخل بيوتهم وفي الصحراء المفتوحة بحثا عن الآثار، من غير تجارها المحترفين، ومن يحلمون بالهجرة لكنهم عاجزين عن توفير نفقاتها سواء كانت شرعية أو غير شرعية.
و ـ تردي الأحوال الاجتماعية: مثل زيادة معدلات الطلاق والعنوسة لأسباب اقتصادية، وزيادة عدد المحبوسين لعجزهم عن دفع النفقة للمطلقات، وارتفاع في معدل قضايا التخاصم التي تنظرها المحاكم بين المعسرين من أصحاب الديون الصغيرة، وزيادة عدد النساء الغارمات، وارتفاع الدروشة، وتوالي فتح المقاهي، وازدحامها بالعاطلين، وازدحام وسائل النقل العامة الأرخص سعرا.
بالطبع فإن كثيرًا من هذه المظاهر منسي، ولا ترصده دفاتر الحكومة، لأن من الصعب حصرها، ولذا تبقى أشبه بمؤشرات معطلة لقياس الفقر، لكنها حقيقية، تنبع من الواقع، وتنبض بالحياة، ولذا يحكم بسطاء الناس على جودة الحال الاقتصادية أو رداءتها من التعرض لهذه المظاهر، غير منشغلين في هذا بما تنطق به التقارير الدولية، أو ما تتحدث عنه دفاتر السلطة من أرقام حول زيادة معدلات نمو، لا ينعكس على حياتهم أبدًا.