تشكل عملية غسل الأرز الذي أحبه متعة تضاهي الطبخ أحيانًا- الصورة: فليكر برخصة المشاع الإبداعي

كيف تصنع طبقًا من الأرز: درس في الطهي والشعر والذاكرة

منشور الثلاثاء 7 يونيو 2022

 

قليلة هي النصوص الشعرية التي لها حس أنثروبولوجي يكون محورها الطعام. هناك نص للشاعر البحريني قاسم حداد اسمه درس الأرز، لم يبرح ذاكرتي، منذ قرأته قبل عقدين تقريبًا، بسبب بساطته، وتفاصيله العديدة التي تتناول علاقة الشاعر بالأرز.

تحولت عملية غسيل الأرز قبل الطهي، وهي الخطوة الأهم بالنسبة لصانعيه، التي لا تأخذ سوى دقائق، إلى نص شعري مليء بالتفاصيل والرموز والمجازات. في هذه المساحة الضيقة من الوقت، قام الشاعر بتوسيع ثقوب نسيجها الزمني والمادي معًا، لتتحول في النهاية إلى قصيدة تشرح بحس سردي "أسطورة الأرز"، وكيفية التعامل معه، للحصول على وجبة شهية، بجانب تأصيل وجوده المعرفي والرمزي في الثقافة الخليجية بشكل عام.

ربما الخبز، وليس الأرز، له هذا الحضور الرمزي الكثيف في مصر، ويمكن تحميله الكثير من الدلالات والمعاني التي تشغل حيزًا من الذاكرة الجمعية للمصريين. أشعر بحضور " آخر"، "فرد"، يراقبه قاسم، وهو يتناول حبات الأرز في يده، وهي تجري تحت مجرى المياه ليقوم بغسلها وتخليصها من شوائب الحقل. هذه "الفردانية" لا تظهر في أرز الثقافة المصرية، فالأرز المصري عبارة عن كتلة جمعية لا تتمايز حباتها، بعكس حبات الأرز التي يصفها قاسم في قصيدته، كل حبة منفصلة عن الأخرى، ولا تتحول إلى كتلة متماهية، ويظل هذا مصيرها حتى النهاية.

من نافذة القطار، في الطريق للقاهرة، تظهر مزارع الأرز الغارقة في المياه، وهناك أعواد خضراء تخرج منها، وحولها يحوم أسراب من طيور أبو قردان. حقل الأرز مثل حمام سباحة أرضه الماء. هذه الكمية الكبيرة من المياه التي يتشربها الأرز، يعود ويتخلص منها ليخرج لنا في النهاية تلك الحبات البيضاء الجافة، التي سرعان ما تستعيد ذاكرتها بالمياه عند الطهي، كأن جفاف الحبة خدعة، فتحت هذه القشرة الجافة هناك ذاكرة قديمة تتعطش للمياه.

الأرز / الآخر

الأرز ليس فقط وجبة شهية، ولكن رمز لتفاعل عدة ثقافات، فالأرز نبات عشبي مهاجر، يجمع القصص في رحلته، في كل بلد توقف فيه. مايكل. و. تويتي، مؤرخ الطعام، ذو الأصل الإفريقي، وصاحب كتاب الأرز، يصف فيه حوالي 51 طريقة مختلفة لطهي الأرز، يذكر في مقال له "وقد أدركت بعد 20 عامًا من العمل في هذا المجال، سواء من خلال الأبحاث أو السفر أو الطهي، أنه يتعين على المرء وهو يستمتع بمذاق الطعام أن يقدر التفاعل الثقافي الذي أفرز هذا الطبق. فإلى جانب الرغبة في إشباع الجوع، قد يحتاج المرء أيضًا لفهم الثقافة المادية وتقديرها. فإن كل مكون من مكونات الطعام قد يسرد قصة مختلفة".

 

الشاعر قاسم حداد- الصورة: ويكيبديا برخصة المشاع الإبداعي

يكتب قاسم حداد في نصه الشعري درس الأرز"يقال إن الأرز ذهب الحقول وفضة المأدبة. وهو أنواع كثيرة، عليك أن تختار منها ذي الحبة الطويلة. وستكون محظوظًا إذا تسنى لك العثور على النوع الغني بقدرته على الاكتناز في القِدر ساعةَ النار. فالأرز نوعان، نوع بخيل، كثيرُه في الكيل قليلٌ في الأكل، تضع منه مقدار كيلة واحدة فلا يكاد يطعم شخصًا واحدًا بعد الطبخ. والنوع الآخر غني، كريم، تزيده النار ازدهارًا. تضع منه الكيلة فيمنحك ما يكفي خمسة أشخاص لما فيه من طاقة العطاء الكامنة التي تتفجر طالما اطمأنَ لك وألفَ حبك وشعر بتقديرك لطيب منبته. وسوف يشعر بك منذ لمستك الأولى وأنت تجسّ حباته، فيما تدعكه بلطف كمن يداعب طفله في المهد يعلمه العوم لكي يبدأ السباحة في الماء الوفير. وإذا أنت لم تحسن عملية الغسل ببطء الحالم، سوف تقرر مسبقًا فشلك في الغليّ، وقد لا تحصل على الأرز الأبيض الشهيّ".

أسألُ حداد، برغم سردية النص كأنه بالفعل درس تعليمي كما سميته "درس الأرز"، في شكل كتابته ومفرداتها ووضوحه، لكن به طاقة شعرية ربما أتت من دقة الملاحظة لهذا "الآخر"، يجيبني باقتضاب "ربما كتبت هذا النص بولع يجاري حالة غسل الأرز بالفعل، كما أنني لا أكتب شيئًا بدون لغة الشعر".

 ويرد على سؤالي الآخر "بعد عقود من كتابة هذه النص، هل مازالت هذه العلاقة الحميمة قائمة حتى الآن بينك وبين الأرز"؟ قائلًا "تشكل عملية غسل الأرز الذي أحبه متعة تضاهي الطبخ أحيانًا، بل أن زوجتي تحاول أن تقوم بعملية غسل الأرز بنفسها، حتى لو كنت أنا من يطبخ. أحيانًا سيتوقف نجاح الطبخة على الغسل الجيد للأرز".

بالنسبة لي لم يكن للأرز شخصية واضحة المذاق في طفولتي، كان الأرز عبارة عن "سنيد" يمكنني أن أستغني عنه بسهولة. أسأل قاسم عن دور الأرز في مائدة طفولته، يقول "منذ وعينا والأرز هو مادة غذائنا ووجباتنا الأساسية، هو في مكانة الخبز في حياة المجتمع المصري، بل أن التسمية التي نطلقهاعليه هي "العيش"، كما يسمون الخبز في مصر، وهذا يتصل بدلالة العيش في الحياة. وبرغم وجود الخبز العادي في حياتنا، لكن الأرز له المكانة الأهم والأكبر في حياة البحرين، ودول المنطقة عمومًا".

وأنا أقرأ القصيدة، شعرت أن وراءها ردًا لدين ما، أو إحياء لذاكرة الأمومة، فهذه الذاكرة هي الأكثر ارتباطًا بالأرز من أي شخص آخر. ينفي قاسم أن يكون علاقته بالأرز ردًا لدين الأمومة بطريقة ما، ولكنه يمنح زوجته الفضل في منحه "درس الآرز" قبل أن يكتبه.

" ليس في الأمر رد دين لأحد، ولكن تعلمت من زوجتي أن الغسل الجيد يجعل الأرز أكثر لذة في الطعم. وقد عشقت ذلك قبل ولعي بالطبخ. أتذكر في ستينيات القرن الماضي، كنت أعمل في ميناء الدمام، كان وقتها قيد الافتتاح، في تفريغ السفن. وعلى إحدى السفن الصينية دعاني أحد البحارة إلى تناول الغداء معه على باخرته، وعرفت لأول مرة كيف يعد الصينيون ويطبخون الأرز مباشرة بدون غسله، وعرفت من البحار الصيني أنهم يحتفظون بالمادة النشوية لكي يتمكنوا من تناوله بالأعواد، حيث يكون في كتل متماسكة. في حين نحن نغسل الأرز قبل الغلي. مما يجعله ناصع البياض وزكي الرائحة وخصوصًا يكون خفيف الحبة، بعد تخليصة من 'ذاكرة الحقل'".

ذاكرة الأرز

هناك تكرار في النص لمصطلح "الذاكرة"، وربطه بالأرز، كأن الأرز لا يحضر إلا بوصفه ممثل لذاكرة إنسانية كبيرة، أو لنقل أن له تاريخ وماض بعيد عن ناظرنا، يظل محفوظًا هناك في الحقل قبل خروجه منه. يكتب قاسم في نصه "تسكب كيلة الأرز في الإناء فتسمعه ينهالُ في الصفحة مثل تدفق اللؤلؤ الناعم على قطيفة. تدسُّ أناملك بحنان بين الحبات فتشعر بها مثل بشرة الرضيع الذي ولد توًا. ترفع بالقبضة الرؤوفة حفنةً وتفرج كفّك لتدع الحبات تسيل بين أصابعك مثل حليب رائب. وترى بياضًا يفضح بضع شوائب صغيرة تقوم بانتشالها في رشاقة الصائغ البارع لكي تخلّص الأرز من ذكرياته الأخيرة عن الحقل".

أستفسر منه عن طبيعة هذه "الذاكرة" التي يحتفظ بها الأرز في الحقول، وهل لها علاقة بذاكرة جمعية ما، يقول "عندما قلت في النص "ذاكرة الحقل"، كنت أعني الأرز عندما كان في سنابله وأعواد القش التي تختزن حبات الأرز بالمادة النشوية التي ترافقها، حيث الغسل الجيد ثم الماء الساخن في الغلي، سوف يتكفلان بتخليص الأرز من بقايا ما يعلق به من تلك الفترة. بين الأرض والمائدة".

 

تسجيلي عن زراعة الأرز


أمسك بخيط الفكرة من جديد، كأن الماء يجرد الأرز من ذاكرته الأرضية، وفي الوقت نفسه يربطه عبر طهيه وتناوله بذاكرة جمعية. يجيبني قاسم كاشفًا عن أحد أبطال هذه الذاكرة الشعبية وهو الجن "أعتقد أن في نسيج الثقافة الشعبية ما يجعل الأرز أحد عناصر الذاكرة الجمعية، حتى من بين المعتقدات الشعبية، سعي الناس بمشاركة الجن في طعامهم عندما يشعر الإنسان أن ثمة غضب يعبر عنه الجن من البشر. فيقوم الناس بتوزيع بعض الأرز المطبوخ على جوانب البيت أو الحي في الأرض المظلمة".

أقول له "أحيانًا من دقة الوصف في النص أشعر بأنك تتعامل مع الأرز كإنسان آخر، له ملامح مميزة، وأحد أبطال هذه الذاكرة الجمعية"، يرد "الأرز، في حياتنا، هو المعادل الحيوي والموضوعي بلا جدال، فنحن لا نستطيع اعتبار أي وجبة معتبرة تخلو من الأرز. وأذكر أننا في الطفولة، عندما نشتهي أكلة المعكرونة، وتطبخها لنا الوالدة على الغداء، وبعد أن يتناول أبي الغداء، ينادي على أمي متسائلًا: (ها أم جاسم، ما طبختي غدا اليوم؟)، كناية عن أن الغداء لابد أن يكون من الأرز".

الأرز والعالم الآخر

حول الأرز الذي يوضع للجن درءا لشره، أو توددًا له، في الظلام حول جنبات البيت، هناك علاقة مباشرة بين الأرز والأرواح، أو العالم الآخر بشكل عام.

في مصر ربما يستبدل بالأزر الملح، الذي له القدرة على اختراق ذلك العالم وتكبيل شره، فالملح له طاقة حماية ضد الشر المحلق من حولنا ومن حول أفراحنا، سواء لإرضاء أو للوقوف ضد ما يحاك في هذا العالم اللامرئي.

في قبائل في جنوب شرق آسيا، بالتحديد في ماليزيا، يتصل شعب الإيبان، عبر علاقته بالأرز، مباشرة بهذا العالم الآخر، فيقوم بالتضحية بالخنازير والدجاج في الصلاة من أجل نمو الأرز، وأيضًا يصبح حقل الأرز مكان اللقاء بين اللا مرئي والمرئي، فيرون أن أرواح الموتى، التي تعيش في السحب، تدخل في حقول الأرز، من جديد، ويصبحون أرواحًا بشرية.

أعود لقاسم بالسؤال، مؤكدًا هذا الجانب اللا مرئي الذي يتصل به الأرز بالعالم الآخر، هل هناك طقوس ما لتناوله أو أكلات محددة تؤكل معه تقوي من رمزيته مثلًا. ينفي وجود مثل هذه الطقوس "ولكن أهم وأفضل الأكلات الشعبية المعروفة في البحرين، وبعض دول المنطقة، هو كبسة مع سمك الهامور الأشهر عندنا. ومن الأرز ثمة أطعمة مختلفة يحبها ويحسن إعدادها أهل البلد".

الغريب أن مزارع الأرز لكثرة مياهها يربى فيها عادة السمك، كأن العلاقة بين الأرز والسمك نشأت قديمًا في الحقول، قبل أن يصل للمائدة.

الأرز أنثى الحياة

ألاحظ في النص تأرجح الأرز بين الذكورة والأنوثة، أحيانًا يتصف بصفات الذكورة وهذا وضعه الطبيعي اللغوي، ولكن أغلب الصفات والتشبيهات في القصيدة تذهب به بعيدًا ويظهر له ذلك الوجه الأنثوي "فترى الماء يمور في الإناء، وحبات الأرز تتأوّد في غنجٍ والماء يتصاعد طالعًا إلى ظاهر الإناء، متعكرًا مشوبًا بما يشبه الرغوة الثقيلة، مفصحًا عن الكلام الأخير الذي لم يزل في ذاكرة الأرز من الحقل".

يجيب قاسم على ملاحظتي، معززًا هذا الجانب الأنثوي "ثمة إحساس لا شعوري بأن الأرز هو أنثى الحياة، بوصفه خالقًا لها، كما أنه مرتبطا في البيت والمجتمع بما تصنعه المرأة لإطعام العائلة".

أبحث عن تاريخ الزراعة في عائلته، لعل أحدهم كان له حضور إنساني يتخفى وراء ذاكرة الأرز في الحقول "جدي لأمي كان فلاحًا يزرع ويعمل في الحقول. من مدينة القطيف، وكان يعمل في مزارع البحرين عندما كنت طفلًا، في منطقة مني بسنابس. وكنت أذهب أسكن معه وزوجته بالقرب من الحقل الذي يعمل به، وأتذكر أنه كان، وقتها، بالقرب من ساحل سنابس. وكنت أدخل معه الحقل منذ الصباح حتى يرجع في المساء".

تطهر الأرز

"وبقدر ما يتسنى لك الشعور بأن عملية الغسل هذه ممتعة ولذيذة، تتوفر لك فرص أكبر للحصول على أرز غاية في اللذة. فالماء ليس ترفًا بالنسبة للأرز، على العكس فأنت قد تستغني عن الماء في بعض طرق إعداد الأرز، لكنك لن تستغني عنه في الغسل. فهنا تتأسس المتعة منذ اللحظة الأولى التي تختار فيها الأرز وتضع يدك عليه وهو في الماء الجاري. فاتصال حبات الأرز بتاريخ الحقل من الأصالة بحيث تظل المادة النشوية عالقة بالحبة قميصًا يحميها ويذكرها ببيتها الذهبي الأول. ويقال إن في كل حبة أرز من المادة النشوية ما يكفي للصق تسعة من طوابع البريد الصغيرة. وأعرف شخصًا ابتكر وضع حبة الأرز ذاتها بين تروس ساعة اليد المضطربة للتحكم في الخلل الذي يؤثر في انتظام الوقت".

من كثرة حضور مفردة الماء في القصيدة وارتباطها بعملية الغسيل التي هي بشكل ما طقس "تطهري"، وكونها تقطع بين الأرز وذاكرته في الحقول، قفز في ذهني شيء مشابه في ريف مصر، أن الأرض يجب أن تفدى بذبيحة أو تخضب بالدماء. هل للأرض علاقة بذنب ما، وبالتالي حضور الماء بكثافة هنا أصبح له دور رمزي، هل وراء ثقافة غسيل الأرز تقع شعيرة ما في الثقافة البحرينية، أو لها علاقة بشعيرة ما مضمونها التطهر مثلًا، يوافق قاسم على حضور طقس غامض يرافق كل خطوات الأرز، ولكنه ليس له علاقة بالذنب "ربما ارتباط الماء بالأرز سيبدأ منذ لحظة البذار والزراعة، فالمعروف أن الأرز هو من بين كل أنواع المزروعات يحتاج للكثير من الماء. وتعرف أنهم يغرقون حقول الأرز بالماء الغزير كما البحيرة، ويظل اتصال الماء بالأرز مستمرًا حتى الغسل والطبخ المغلي، ليبدو لنا أن طقسا غامضا يرافق الأرز طوال الوقت. حتى أن أفضل أنواع الأرز هو الأكثر بياضًا، ويقال أنه الأبيض الناصع يزداد لذة كلما طالت حبته".

بالطبع الخليج لندرة مياهه يقوم باستيراد الأرز من الهند وباكستان، وبالطبع أثرت تلك الثقافات وتوابلها على الثقافة الخليجية وخاصة في طرق طبخ الأرز. أسأل قاسم عن الأرز البسمتي الهندي، وطرق تحضيره، يقول "يتفنن الطباخون في عمل الكبسة أو البرياني أو البخاري، مع اللحم او الدجاج أو السمك. المهم أن السوق الآن يتوفر على أنواع كثيرة جدًا من البسمتي الهندي".

البهارات والمجبوس

لم أعرف الكاري الهندي إلا في السبعينيات، عندما سافر أخي للعمل في سلطنة عمان، وعاد بأحمال من أكياس الكاري، من يومها بدأت أتعلم الطبخ بسبب هذا اللون والمذاق الذي يضيفه الكاري للأرز، بعد أن كان طعامًا أبيض محايد.

بالطبع كان للأرز في بيتنا، مذاقات وألوان عدة حسب طريقة الطبخ، غير الأبيض المحايد، فقد تعلمت بعدها الأرز الصيادية البني، الذي نأكله مع السمك، وأيضًا كان هناك الأرز بالشعرية، والأرز بالطماطم، وبعدها تعرفت على الأرز المعمر، وكان هناك أيضًا الأرز المحمر، الذي يطهى بتحمير نصف مقدار الأرز في الزيت أو السمن، ليكتسب هذا اللون البني الفاتح، وبعدها يضاف النصف الأبيض الباقي من الكمية ويستكمل الطهي.

أسأل قاسم عن عالم البهارات الهندية المنتشر في الأطعمة البحرينية. يقول" بالطبع الكثير من البهارات الهندية يدخل في الطبخ في البحرين ودول المنطقة. يدخل في إعداد البهارات عندنا أكثر من خمس عشرة نوعًا من المواد العشبية والنباتية التي تأتي مخلوطة جاهزة للطبخ مباشرة، أو تأتي في حالتها الأولى. يعتمد الكثير من العائلات بشرائها والعمل على انتخاب ما يحبونه من هذه الأنواع الكثيرة، فيقومون بغسلها وتحميصها ثم أخذها إلى محل الطحن لطحنها واعتمادها كبهار منزلي خاص بالعائلة. وهذا ما نفعل في بيتنا منذ بداية حياتنا العائلية الخاصة في بداية سبعينيات القرن الماضي. والحق إننا اعتدنا على هذه الوليدة الخاصة في مطبخنا".

أعجبني وصف خلطة البهار بالوليدة، كأنها أحد أفراد العائلة الجدد، أسأله عن مكوناتها "ما أذكره من المكونات هو التالي: فلفل أسود، فلفل أحمر، كركم، دارسين (قرفة)، قرنفل، هال، هال جبلي، جنزبيل، سنوت، كزبرة، جوز الطيب، عرق الهال. وأشهر الطبخات التي يستعمل فيها البهار البحريني كثيرة منها: المجبوس، وهو الطبخة المفضلة عند شعوب المنطقة، وعادة تعمل للضيوف والأعياد وأحيانًا كثيرة في الأيام العادية حسب الرغبة، وتعمل باللحم أو الدجاج وأحيانًا بالسمك أو الربيان".


اقرأ أيضًا| الفوود ستايلينج: عن فتح الشهية وصورة الطعام اللامعة أكثر من اللازم

 


هل تطبخ كل هذه الأنواع من المجبوس، أم هناك تفضيل بينها؟ يصحبني قاسم بهذا السؤال إلى واحدة من أهم الطبخات التي يحبها، كأننا نقرأ إحدى الوصفات في أحد كتب الطبخ الخليجية "يمكنني أن أصف طريقة عمل المجبوس باللحم. تغلى اللحمة حتى النضج في قدر البخار، يحمر البصل المفروم في قاع طنجرة ويرش بالماء، يوضع البصل في الطنجرة على النار، وعندما ينشف الماء المرشوش، ويتحمّر البصل المفروم منه يرش بقليل من الماء ويقلب إلى أن يتحول لونه الى اللون البني بعدها يرش بالزيت ويقلب بعض الوقت بعد ذلك تضاف له قليل من البهارات قليل من الليمون الأسود المطحون وقليل من الملح".

أتوقف قليلًا، ذكرتني الوصفة بطريقة طهي الأرز الصيادية في مصر، الذي يؤكل مع الأسماك ويكتسب لونه البني من درجة تحمير البصل، وبعدها يضاف إليه الأرز، ليعوم وسط هذا اللون البني مع دوائر الزيت التي تطفو على سطحه، ولكن دائمًا هناك حذر ألا يحرق البصل أو يسود، لأنه يسرب مرارة ما داخل الأرز.

أستكمل معه خطوات الطبخة، وبعد أن يحمر البصل "يرفع جزء من البصل المحمر ويوضع جانبًا. ثم توضع اللحمة المغلية في قدر البخار على الباقي من البصل المحمر في الطنجرة.. يوضع فوقه اللحم كمية من خليط البهار المطحون والملح وبعض حبات الهيل وبعض أعواد الدارسين (القرفة ) وثلاث أو أربع حبات من الليمون الأسود اليابس بعد خرم كل حبة بالسكين، ونجمة كوشين (الينسون) وعدد من ورق الغار، يصب ماء اللحم فوق اللحم في الطنجرة وبترك يغلي بعض الوقت ليمتص اللحمُ البهارَ ".

ولكن لم يظهر الأرز حتى الآن.

يرد قاسم "الآن يأتي دوره. يُغسل الأرز وينقع في ماء ساخن فترة من الوقت ثم يصفى من الماء وبعد إخراج اللحم من الطنجرة. ووضعه جانبًا يضاف الأرز في الطنجرة ويراقب حتى ينشف الماء قليلًا .. ولما ينشف الأرز نكون مجهزبن قليل من ماء الورد بالزعفران، نرشه على الأرز وهو على النار .. نضع اللحم على الأرز وايضًا نرش عليه قليل من ماء الورد بالزعفران، وقليل من الدارسين (القرفة)، وقليل من الهيل المطحون، ونضع "الرساية" تحت الطنجرة . و"الرساية" هي قطعة من الصفيح تكون عازلًا بين النار والطنجرة، لحجب حرارة النار قليلًا عن قاع الطنجرة، ونتركه فترة حتى يتبخر كل ماءه.. ثم نخفف النار من تحت الطنجرة".

أستكمل العناصر المكملة لوصفة المجبوس، وأسأله عن المقادير "طبعًا المقادير تكون عادة حسب كمية الأرز التي نحتاجها. وعند وضع الأرز في الصحن للتقديم، يوضع فوقه اللحم والبصل المقلي المحمّر. أيضًا يضاف إلى البصل مقدار كوب من الحمص المفلوق، الذي يكون مغليًا في الماء حتى ينضج وينشف منه الماء".

الوجه العادل للأرز

يذكر مايكل. و. تويتي في مقاله السابق "إن رحلة الأرز إلى الولايات المتحدة هي رحلة شعوب نهضت على أكتافها وبخبرتها زراعة الأرز في الولايات المتحدة. ففي الفترة بين عامي 1750 و1775، اختُطف أكثر من 50 ألف عبد أفريقي مما عرف بساحل الأرز، أي المنطقة التي يزرع فيها الأرز بين غينيا وغينيا بيساو وغربي ساحل العاج. (....) فإن هؤلاء الرقيق وجدوا بعض المتعة الخاصة التي كانت تهون عليهم مرارة العيش. فقد كان الرقيق الأكثر خبرة يتمكنون من إنهاء مهامهم سريعًا حتى ينعموا ببعض الوقت لزراعة الأرز في حيازاتهم الصغيرة، أو صيد الحيوانات والأسماك".

يظل للأرز وجهه العادل، حتى في هجرته من مكانه ظل نصيرًا للبسطاء. فالرقيق الذين نقلوا خبرة وثقافة الأرز للولايات المتحدة، كانت متعتهم الوحيدة وسط سنوات استعبادهم، أن يحيوا هذه الثقافة في أماكن استعبادهم، وتقوم السيدات والرجال بزراعة الأرز في أراضيهم الصغيرة. وتحول الأرز إلى وطن بديل.