بمقدار ما تصدق النوايا وتشعر السلطة بعمق الأزمة المجتمعية، ينتُج الحوار ويُثمِر تغييرًا مطلوبًا وجادًا.
هذه هي القاعدة الأولى والبديهية في قصة الحوار السياسي المطروحة الآن.
الحوار ليس عيبًا ولا هو أحد المحرمات السياسية والوطنية، إذا ما قرَّرت الأطراف المختلفة النظر إلى الماضي والحاضر بعين ناقدة، وإلى المستقبل بعين متطلعة للأفضل والأنسب.
تجارب الحوار السياسي في مصر والعالم تنوعت واختلفت في نتائجها، لكنها ظلت إحدى الأدوات السياسية التي تلجأ إليها الأنظمة في وقت الأزمة.
بمعنى أوضح فإن فكرة الحوار المطروحة الآن هي تعبير عن أزمة تعيشها السلطة تعددت أسبابها ووصلت لدرجة مستحكمة.
تجارب سابقة
في المجال السياسي المصري تجارب متعددة للحوار سبقت ثورة يناير 2011، لكنها لم تحقق النتائج المرجوة دائمًا، وظلت مجرد مناورات سياسية فلا صدقت نوايا الحكام ولا انتقل المجتمع خطوات للأمام. الفارق الوحيد دائما هو الرغبة الصادقة، بلا مناورات، في أن يخرج المجتمع من أزمته عبر حوار وحراك جاد وحقيقي، وبنظرة سريعة سندرِك أننا جرَّبنا، وجرَّب العالم، فكرة الحوارات السياسية، وتابعنا جميعنا النتائج:
في عصر مبارك تعدَّدت تجارب الحوار السياسي بين السلطة ومعارضيها، وتنوعت بين حوارات في شؤون سياسية أو اقتصادية، لكنها ظلت حوارات شكلية ومناورات من الحكم ليكسب غطاءً سياسيًا من معارضيه دون أن ينتج الحوار خطوات جادة في المجالات السياسية والاقتصادية.
في عام 1982 وبعد عدة أشهر من تولي حسني مبارك حكم مصر خلفًا للسادات، أجرى حوارًا ضم السلطة من جانب وأحزاب المعارضة من جانب آخر، وتم تخصيصه وقتها لمناقشة الأزمة الاقتصادية التي كانت تعيشها مصر، وقد شهد مؤتمر الحوار تنوعًا في وجهات النظر ومناقشات مستفيضة، ورسم المتحاورون خريطة لمستقبل الاقتصاد المصري ونفذت سلطة مبارك "بعضًا" قليلًا مما تم الاتفاق عليه وتجاهلت كثيرًا مما قيل، واتهمتها الأحزاب السياسية المعارضة وقتها بتجاهل وجهة نظرها والسير في طريق اقتصادي خاطئ نهايته مسدودة.
الطوارئ تنهي "الحوار"
بعدها بعدة سنوات أجرت سلطة حسني مبارك حوارًا جديدًا مع المعارضة، ففي عام 1986 أجرى الحوار الوطني حول قضية الدعم وسط أحوال اقتصادية متردية، وتم الاتفاق خلال الحوار على تنظيم ما يسمى "بالمؤتمر الوطني" ليناقش بشكل كامل وباستفاضة قضية الدعم وكيفية التعامل معها، وقتها شعرت الأحزاب السياسية بأن السلطة ترغب في خلق غطاء سياسي لقراراتها برفع الدعم عن الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وقرر حزبا الوفد والتجمع، وكانا أكبر الأحزاب المعارضة، الانسحاب من الحوار كي لا يكونا شريكين في أية قرارات تصدر عن الحوار وتثير الغضب الشعبي ضدهما.
في عام 1988 أجرت السلطة حوارًا آخر حول قضايا الإصلاح السياسي، وانتهى الحوار مبكرًا بعد قرار مبارك بمد حالة الطوارئ قبل أن ينتهي المؤتمر وفي نفس وقت انعقاده!
الغياب التام لصدق النوايا وعدم احترام السلطة لوجهة نظر معارضيها كان هو الحاكم في كل تجارب الحوار في زمن حسني مبارك، لذلك لم يتقدم المجتمع خطوة للأمام، وظلت تلك التجارب مناورات سلطوية لم تصنع تغييرًا حقيقيًا وانعكست على المجتمع.
فيما قبل مبارك كانت فكرة الحوار قائمة أيضًا، فقد كانت تجربة "مؤتمر القوى الشعبية" وقت حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر جيدة ومختلفة، ونتج عنها الوثيقة السياسية الشهيرة التي أصدرها جمال عبد الناصر تحت اسم "ميثاق العمل الوطني"، وقد اختلفت تلك التجربة قليلًا من حيث الشكل ونتج عنها بالفعل وثيقة مكتوبة عام 1962، إلا أن الوثيقة ظلت تعبيرًا عن رغبة وأفكار السلطة الناصرية أكثر من كونها التعبير الجاد عن توافق مجتمعي شامل.
عبد الناصر يقدم وثيقة ميثاق العمل الوطني
اختلاف تجربة الحوار ظهر قبل إصدار الميثاق الناصري في وجود ما سمي وقتها بمؤتمر القوى الشعبية، وهو المؤتمر الذي ضم 1750 عضوًا يمثلون مختلف القوى السياسية والاجتماعية بينهم 1500 عضو جرى انتخابهم، ورغم أن التجربة كانت جيدة من الناحية الشكلية إلا أنها ظلت تعبيرًا عن سلطة تفرض أفكارها أكثر مما تتحاور مع القوى الحية في المجتمع.
التجربة التايوانية
تجارب الحوار في العالم تزهر بنقاط مضيئة ومتألقة، إذ نجح الحوار أحيانًا في انتزاع دول من براثن الديكتاتورية وحكم الفرد إلى انتقال ديمقراطي آمن وجاد.
تايوان ضربت مثالًا حيًا ورائعًا في كيفية حدوث انتقال ديمقراطي عبر آلية الحوار والانتخابات، بمجرد إيمان قادتها السياسيين بوجوب وحتمية التغيير والانتقال الديمقراطي.
في عام 2000 قاد الرئيس لي تنج هوي، الذي لُقب بأبي الديمقراطية في تايوان، تغييرات دستورية بعد حوار سياسي داخلي كان الهدف منه الوصول لتحول ديمقراطي وانفتاح سياسي حقيقي، فتايوان التي انفصلت عن الصين بنظامها الشمولي ظلت تعاني الحكم الفردي حتى أدرك قادتها ضرورة الوصول للديمقراطية والتنوع واحترام حقوق الإنسان، هذا الحوار والانفتاح السياسي قاد تايوان إلى انتخاب تشن شوي بيان، أول رئيس منتخب ديمقراطيًا في عام 2000، بل وصنفتها عدد من المنظمات الحقوقية في العالم كأحد أكبر الدول حرية وديمقراطية في قارة آسيا.
بالحوار وآلياته يمكن أن تصل الدول إلى طريقين: إما البدء في طريق الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، أو الثبات في المكان والوقوف في مربع الاستبداد والحكم الفردي، وهنا نتحدث عن نموذجين: الأول هو النموذج المصري الذي غلّب تاريخيًا رؤية السلطة وتجاهل آراء معارضيها فلم يتحرك من مكانه، والثاني هو النموذج التايواني الذي صنع بالحوار وآلياته بلدًا حرًا وديمقراطيًا.
لعلنا نرجو جميعًا أن يكون الحوار المقبل في مصر من النوع "التايواني".