في الساعات الأولى من صباح السبت 7 مايو/ آيار الجاري، استحوذ علي كسّاب، المحامي بالنقض، على صدارة الأخبار، التي لم تكن عن قضية حقق فيها انتصارًا، أو أيّ مما يتعلق بالمحامين وشؤونهم، لأنه كان محبوسًا في ليمان طره منذ ديسمبر/كانون الثاني الماضي، وكذلك لم تكن الأخبار تتعلق بما يخص شؤون سجنه، وإنما كانت عن وفاته، التي حدثت بصورة مفاجئة بعد شهور قليلة من القبض عليه، من دون أن يعلم بها ذووه إلاّ بعد 24 ساعةً من وقوعها.
قبل وفاة علي كساب بشهر ونصف، تحديدًا يوم الأربعاء 23 مارس/ آذار الماضي، كان شخص آخر على موعد مع قدر مشابه وإن نجا من الموت هذه المرة؛ عاد المحامي الشاب يوسف منصور إلى منزله في حي دار السلام بمحافظة القاهرة، أملاً في راحة أسبوعية بعد أيام تنقّل فيها بين نيابات ومحاكم، موكلاً عن متهمين، لكنه لم يدرك، أنه بعد يومين من ذلك التاريخ، سيعرض كمتهم أمام نيابة أمن الدولة. فبعد أن حاصرت بيته قوة أمنية بعناصر مُلثّمة ومُدجّجة بالسلاح، انتهى الأمر بالقبض عليه دون ذكر أسباب، وإخفائه يومين، ليصبح الآن محبوسًا احتياطيًا على ذمة قضية برقم 330 لسنة 2022، تحقق معه النيابة فيها بزعم ارتكابه جريمتي "نشر أخبار كاذبة، والانضمام لجماعة محظورة".
بهذه الواقعة، وبينما يحتفل الوسط الحقوقي والمحامون بإخلاء سبيل عدد من زملائهم على ذمة قضايا مختلفة خلال الأيام الأخيرة من شهر رمضان المنقضي، انضم يوسف إلى قائمة محامين بعضهم محبوس منذ أعوام، بعد القبض عليهم من منازلهم أو مكاتبهم ومن الشوارع كذلك، بحسب قصص استمعت إليها وتابعتها المنصّة.
كمين للمحامين
المحامي والباحث الحقوقي كريم عبد الراضي، خال يوسف، الذي علم بالواقعة من أصدقاء مشتركين بينهما، كونه مُقيمًا خارج مصر، وحينها أثارت تفاصيلها شكوكه وحفيظته، يقول للمنصّة "دي واقعة غريبة في تفاصيلها وملابستها. خاصة إننا بنتكلم عن محامي معروف شغله وتاريخ عيلته وانتمائها لليسار المصري. بجانب إن يوسف محامي بيؤدي عمله يوميًا في النيابات. وبالتالي، طريقة القبض عليه بمحاصرة قوات أمنية مُلثّمة ومُسلّحة للعمارة اللي ساكن فيها، بتقول إن كان فيه استهداف".
تؤكد المحامية هالة دومة للمنصة، أن إلقاء القبض على المحامين، وبنسبة تصل إلى 80% تقريبًا، وفقًا لما رصدته على مدار سنوات، "بيكون من البيت أو المكتب، لأن اللي متوجه له مش رايح اعتباطًا أو صدفة، ده بيبقى رايح له مخصوص، وده حصل مع محامين مثل عمرو إمام".
لا تجري مصادفة أو اعتباطًا حسب المحامية، بل وفق ترتيب، لكن هذا لا يمنع وجود مساحة للمفاجآت سيئة كالتي ذكرتها هالة "فيه استثناءات بسيطة، زي الباقر اللي اتقبض عليه من داخل النيابة. كان رايح يحضر مع متهم في قضية، فاتفاجئ إنه بيتقال له: أنت أساسًا متهم). وماهينور خرجت من مكتب النيابة اتقبض عليها، وعمرو نوهان كان داخل بزيارة لسجينة وماخرجش لمدة 3 سنين".
قبل سنتين، مرّ الحقوقي والمحامي بالنقض محسن بهنسي، بتجربة مؤسفة، إذ أنه، وكما حكى للمنصّة، كان سيقابل شخصًا أخبره بأنه لديه قضية وفي حاجة سريعة للقائه حتى يطلعه على تفاصيلها ويمنحه مُقدّم أتعابها. لكن وقت اللقاء، انقلبت الأمور رأسًا على عقب، إذ فوجئ بنفسه وحيدًا في مواجهة قوة أمنية، قبل أن ينضم لمتهمي إحدى القضايا.
تلك الواقعة التي يعود تاريخها إلى مارس 2020، والمحفوظة في الذاكرة الحقوقية بما تضمنته من "نهج بوليسي خاص"، يسترجع بطلها، الذي لم ينسها، تفاصيلها التي بدأت من الشارع "اتاخدت، واتكلبشت واتغمت عينيا واترميت في عربية الشرطة بالمخالفة لقانون الإجراءات الجنائية. فلم يكن هناك حتى إذن نيابة".
وبناءً على تجربته، يتفق بهنسي مع عبد الراضي، فالاعتقال دون إذن نيابة، وبالخروج عن قانون الإجراءات الجنائية، لم يكن مُجرد مخالفة للقانون بالنسبة له، بل دلالة على ما رآه أبعد من ذلك "الأمر قد يكون مُخطط له بصورة مسبقة، ثم يتم ترتيب إجراءاته الرسمية وأنت تحت تحفظ الضابط اللي قبض عليك، وهو ما يُخالف الدستور والقوانين".
المخالفة ربما تجسدت أيضًا فيما حدث مع المحامي الراحل كسّاب، فبعد العلم المتأخر بوفاته، توجّه الأهل إلى المشرحة ليجدوا كل الإجراءات منتهية، حسبما حكى للمنصّة، عضو مجلس نقابة جنوب القاهرة، الذي رافقهم منذ بداية الرحلة، المحامي عمرو الخشّاب.
يقول للمنصة "توجهت مع الأهل بصفتي عضو مجلس نقابة؛ فوجدناه تم تسليمه للمشرحة من ليمان طره، والنيابة أنهت كل الإجراءات الخاصة به دون إعلان سبب الوفاة، وكان المكتوب في تصريح الدفن هو أنه جارٍ البت في السبب؛ فتسلّم الأهل الجثمان، ومشوا".
مضى الأهل بالجثمان، وكان من المُمكن اتخاذ إجراءات بديلة لذلك تتمثل، وفقًا للخشاب في "تحرير محضر برفض استلام الجثّة، وإعادة التشريح والتحقيقات"، لكن الأهل قرروا تسلّم جثمان كسّاب، الذي لم تكن علاقته بالسجون إلاّ الترافع في قضايا سياسية، وكانت تلك هي المرّة الأولى والأخيرة، التي يخطوها كحبيس، وللمفارقة، في قضية سياسية كمتهم بـ"الانضمام لجماعة إرهابية، وتمويلها".
حق على ورق
لم تغفل التشريعات المصرية، ما يكفل حقوق السجناء. وكان في صدارتها الدستور الذي نص بوضوح في مادته 55 على "معاملتهم بما يحفظ الكرامة، وعدم التعذيب أو الترهيب أو الإكراه". بجانب ما يذكره بهنسي من أن "قانون الإجراءات الجنائية كفل للمحامين مزايا، ومثله أيضًا قانون المحاماة. لهذا؛ من المفترض بقوة القانون عدم تفتيش منزل أو مكتب المحامي. لكن في الواقع، يتم الاقتحام والتفتيش".
لهذا، يقول كريم "المشكلة ليست في النصوص القانونية، رغم محاولات تشويهها بتشريعات جديدة كقانون الإرهاب وغيره. فرغم ذلك، هي موجودة، لكنها غير كافية وحدها للحماية. إنما الإرادة السياسية والمحاسبة على إهدار القانون غائبتين".
حديث كريم قد يفسر ما تعرّض له بهنسي، الذي يرى أن القانون "به حماية لكنها من دون حصانة"، مُدللاً على ذلك بقوله "فمن الممكن أن يتعرض المحامي لانتهاكات وهو في المحكمة، أو يتم كتابة مذكرة ضده للنيابة، بل والتحفظ عليه واحتجازه. وأحيانًا يصل الأمر لتقييده بالكلابشات. فلا يوجد حصانة له أو أي جزاء على ارتكاب مثل هذه الأفعال ضده".
وهذا الأمر حدث معه شخصيًا، فمخالفة القانون لم تتوقف عند إجراءات القبض عليه، بل صاحبته إلى قسم الشرطة، حيث تم ترهيبه "الضابط هددني وقال لي هكتب فيك مذكرة زي الزفت ماتطلّعكش (من الحبس)، وفضلت لتاني يوم ولوقت ما وصلت النيابة وأنا متغمّي عينيا ومتكلبش، وده أشرت إليه أمام النيابة".
تلك الانتهاكات التي شكا منها بهنسي للنيابة لم تكن الأخيرة، إذ وجد في ليمان طره (تحقيق) حيث كان محبسه انتهاكات أخرى "لمّا وصلت السجن استمريت في الإيراد (مكان احتجاز المستجدين) 14 يوم بلا تريض، والزيارات ماتفتحش ليّا غير بعد 3 شهور من حبسي".
لحقوق السجناء مساحة بين نصوص كل من قانون ولائحة تنظيم السجون، بل وفي التوصيات الدولية الخاصة بهم، إذ أكدت اللجنة الأوروبية لمنع التعذيب والمعاملة أو العقوبة اللا إنسانية أو المهينة أنه "ينبغي أن يحصل جميع السجناء، على ساعة واحدة على الأقل للتريض في الخارج كل يوم في مكان فسيح بقدرٍ كافٍ لتمكينهم من الحركة البدنية".
لكن المحامي الحبيس لم يُحرم من هذا الحق فحسب، بل حُرِم من حق آخر لا يقل أهمية "اتمنعت من حضور جلسات التجديد، بالمخالفة للقانون، وبقى بيتجدد لي على الورق، بزعم إننا مصابين بكورونا. وكنا ممنوعين من الاطلاع والقراءة، وكانت الإنارة ضعيفة في الزنزانة".
ورغم استخدام الإصابة بكورونا كحجة لعدم حضوره جلسات التجديد، لكن الكشف الطبي لم يكن مُتاحًا بعد القبض عليه "ماخضعتش لكشف طبي، وكنا حوالي 20 أو 21 محبوس في زنزانة 28 متر".
في تقرير صدر عام 2017، تحت عنوان "يا تعالجوهم يا تفرجوا عنهم.. الإهمال الطبي في السجون جريمة"، وقبل عامين من اجتياح فيروس كورونا العالم، طالب كل من مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب بالمشاركة مع المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، السلطات المصرية بـوجود حد أقصى للإيداع في الزنزانة بالنسبة إلى مساحتها، لمنع التكدس والاكتظاظ الذي يؤدي إلى انتشار الأمراض.
وهذا لم يكن إلاّ واحد بين مطالب عديدة وجهها الكيانان الحقوقيان إلى العديد من الجهات التي خاطبها بضرور الإصلاح والتعديل، سواء التشريعي أو التنفيذي من إدارات السجون والحكومة ونقابة الأطباء. وكلها مطالب أتت بعد ما رصداه باحثيهما من "انتهاكات" داخل سجون عديدة، بناءً على شهادات سجناء وأسرهم، أبرزها عن الرعاية الصحية.
اتهامات مُكررة
التقصير في المتابعة الصحية الذي تعرّض له بهنسي، ورصدته المؤسستان الحقوقيتان بحق آخرين، ليس الانتهاك الوحيد الذي يتعرض له السجناء، ومنهم المحامين الذين لم تراعي السلطات كونهم الأكثر دراية بحقوقهم مقارنة بأي محبوس احتياطيًا آخر، وذلك بحكم عملهم، الذي قد يكون سببًا في استهدافهم.
فوفقًا لهالة دومة، التي اعتادت الحضور مع زملائها في أكثر من قضية، سواء كموكلة بصورة رسمية كما كانت مع بهنسي، أو كمتضامنة كما كانت مع كل من عمرو إمام، ويوسف منصور، ومحمد الباقر، وإبراهيم متولي، ومحمد رمضان، فإن "أغلب المحامين في موضوع الحبس بيكون ملمّس على سياسة، وده بحكم ممارستهم للمهنة".
وتضرب مثالاً على هذه العلاقة السلبية بقولها "يعني مثلاً المحامي محمد يونس، وفي وقت ضجة المقاول محمد علي عن القصور الرئاسية، كل اللي عمله إنه كتب على حسابه على فيسبوك إنه هيقدم بلاغ للنائب العام بخصوص الادعاءات دي، فاتقبض عليه".
حديث هالة يدعمه مثال من بهنسي الذي يترافع حاليًا عن زميله المحامي بالاستئناف في الإسكندرية هشام عوض السيد، وعنه يقول "كل مشكلته أنه بيدافع عن قضية متصنفة سياسية. فاتاخدت سيارته واتحبس لمدة تجاوزت سنتين. وفي جلسته الماضية تم التجديد له 45 يومًا. وأنا طلبت خروجه من القفص الزجاجي، فقال للقاضي إنه لم يتم التحقيق معاه من وقت القبض عليه في مارس 2020، ولم يوجد أي ممثل من النقابة حضر معاه".
كذلك لدى بهنسي أمثلة أخرى تؤكد ما للعمل من علاقة بالاستهداف الأمني "فيه محامين آخرين ألقي القبض عليهم بسبب نشرهم عن قضاياهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وبعد إحالتهم للنيابة يظلوا هناك سنتين، مثلما هو الأمر في حالة الزميل أسامة بيومي، الذي أعلنت السلطات فجأة أن هناك قضية ضده منذ 2017".
لكن بهنسي يواجه الادعاء من السلطات، قائلًا"ورغم هذه القضية كان بيومي يحضر قضايا في معهد أمناء الشرطة. ومثله أيضًا نبيل أبو شيخة، الذي ألقي القبض عليه قريبًا، وانتشر في بعض الصحف والمواقع أن السبب قضية قديمة ضده".
وكل سالفي الذكر ليسوا استثناء، فالأمر حدث مؤخرًا مع يوسف منصور، إذ أنه وقبل أيام قليلة من القبض عليه، وحسبما ذكر كريم "كتب منشور في حسابه على فيسبوك عن رفض طلب تقدم به للسلطات لزيارة موكله المدون محمد أكسجين، المحبوس على ذمة إحدى القضايا، وتحدث فيه عن ظروف حبسه".
بناءً على هذه الأسباب والطريقة، ووفقًا لهالة، فالاتهامات تكون "نفس الاستامبة"، وهي "انضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة"، مُعلّقة عليها بالقول "انتي بتتبلغي بيها، لكن في نفس الوقت ماحدش بيناقشك، انتي بتخمني. بل حصل إن في تحقيق رسمي شخص اتقال له: إنت جاي ليه؟، وطريقة الكلام بقى: طيب شوف كده مش يمكن عملت حاجة جابتك هنا؟، فلا بنعرف إيه الجماعة الإرهابية ولا الأخبار الكاذبة".
أمان مفقود
الأمان غائب، ولا يُدلل عليه بالنسبة للمحامين الوفاة المفاجئة لزميلهم السجين كسّاب، فقبل المثول أمام النيابة بدعوى كونه "عضوًا في جماعة إرهابية ينشر أخبارًا كاذبة"، ووفقًا لكريم عبد الراضي، فإن يوسف تعرّض ليس فقط للإخفاء، بل و"لمصادرة اللابتوب والهاتف الخاصين به، وعدم تمكينه من الاتصال بأسرته أو محامٍ يترافع عنه".
ليصبح يوسف بهذا لانتهاكات مثله مثل موكله المدون أكسجين، الذي ترى هالة أن الكتابة عنه كانت سببًا في القبض على يوسف، مثل آخرين "غالبًا القبض على المحامي بيحصل لما الأمور بتوصل لمرحة النشر، وإن المحامي يكتب عن تفاصيل اتعرض لها في شغله وبيرصد فيها مخالفات للقانون، زي مثلًا لما يوسف كتب عن عدم تنفيذ أمر النيابة اللي معاه بزيارة موكله، وإن الضابط رفض ينفذه. ففكرة المشاورة على الانتهاك وبروزته بيكون سبب. بل، أحيانًا بيكون بسبب إن المحامي حصلت مشكلة بينه وبين أحد أفراد الأمن".
ويؤكد كريم عبد الراضي وجود هذا الخطر، بناءً على ما سبق وأن تعرّض له بالفعل "أنا نفسي اتهددت من الأمن في النيابة، أثناء قضية زوجتي الصحفية بسمة مصطفى، إني ممكن يتقبض عليا جوه. بل واتهددت في إحدى المرات إني هيتقبض عليا بتهمة إفشاء أسرار تحقيقات، وده أساسًا مخالف للقانون اللي بينصّ على علنية الجلسات. مع العلم إني ما بنشرش أكتر من المعلومات الخاصة بالقضية والتحريات والاتهامات".
بل إن التهديدات وُجهت لكريم حتى من تابعين، وما زال يذكرها "التهديدات حصلت حتى من موظفين عاديين في نيابة أمن الدولة، يعني تابعين للسلطة القضائية وماينفعش يتعاملوا بالطريقة دي مع المحامين، لكنهم محميين بشكل ما من أجهزة الأمن، فهددوني بإن حساباتي متراقبة وشايفين اللي باكتبه".
.. وتهديدات أخرى عديدة
من هنا، كان منطقيًا عدم الشعور بالأمان الذي ينتاب المحامين، وذلك من عدّة جهات وبعدّة صور، ذكر بعضها بهنسي، قائلًا للمنصة "بيحصل إن المحامي بيستقبل اتصالات تحذير وتهديد بإنه ابعد عن القضية دي ومتشتغلش عليها وإلاّ هيتم القبض عليك؛ ففيه اللي بيبعد فعلًا ويقول الله الغني، واللي بيشتغل بدون مجهود كاف. والبعض بيتقال له بتحضر في القضية، بلاش تكتب عنها على السوشيال ميديا".
كل هذا يتم بخلاف حيل أخرى يؤدي بعضها للقبض على المحامي، وعنها يحكي "من الأمثلة أن يكون المحامي في حاجة لتقديم طلب لوكيل نيابة، لكن عسكري أمن يمنعه ويستفزه؛ فيتم التحفظ عليه واتخاذ إجراء ضده، رغم أن هذا مكان عام ومحلّ عمل للمحامي".
ويضيف بهنسي "أو مثلاً يُسهب المحامي في مرافعته أمام المحكمة، وهو أمر محمود وفقًا لقانون المحاماة. لكن القاضي قد يتخذ إجراء ضده لو كان يريده أن يُنهي المرافعة والمحامي متمسك باستكمالها. فهنا؛ ممكن أن يحرر ضده مذكرة بدعوى إهانة المحكمة. وهو أمر يحدث في قضايا سياسية غالبًا. كما أن المحامي، من الممكن وهو في ديوان القسم يمارس عمله، يفاجئ بشخص يحرر ضده محضرًا؛ وبالتالي يتم التحفّظ عليه دون إذن نيابة".
ويُعلّق على هذه الأمور، قائلاً "كل هذا للأسف لأنه لا يوجد اتباع للمشروعية القانونية التي تكفل شيء من الاحترام خلال التعامل مع المحامي. وإذا قررت العودة للمطالبة بتعويض عن حبسي، فلن أحصل لا على حق ولا باطل، لأنها قضية ما زالت قيد التحقيق. وبعض المحامين ممن أُخلي سبيلهم بعد حبس سنتين لا يحصلون على شهادات تُثبت هذا الواقع".
ويتذكر المحامي زملائه الشباب، المعروفين بـ"محامين الجيزة التسعة"، الذين لم تجد قضيتهم سبيلًا للحسم، ويطرح بشأنها استفسارات عديدة "هؤلاء قضيتهم تعود إلى عام 2015 ومازالت متداولة حتى 2022. فأين العدالة الناجزة؟ ولماذا تستغرق القضية سنين طويلة؟ لماذا هناك إطالة في أمد النزاع بقضايا المحامين؟".
وتدور التساؤلات في ذهن بهنسي عن وقائع أخرى، فيقول "أسئلة أخرى تدور حول استهداف المحامي وصناعة قضية له من غير تحقيق معه أو أخذ أقواله أو أذن نقابته التي يؤكد القانون على ضرورة أخذ إذنها قبل تحريك الدعوى الجنائية ضده. كل هذا لا يحدث، وفجأة نجد المحامي محبوسًا لشهور وربما سنوات على ذمة قضية".
أحلام مشروعة
أمام هذه المخاوف والتهديدات، أحيانًا ما تعود ردود الفعل بخسائر شديدة، وفقًا لكريم "أمام مثل هذه التهديدات، المحامي اللي بتكون خبرته قليلة بيستجيب لده وبيبعد. واللي مابيبعدش أو بيتقبض عليه، بيتعرض لمضايقات بعد الحبس، مثل الباقر وعمرو إمام، اتعرضوا لمضايقات من قبيل الحبس الانفرادي والتضييق على حقوقهم جوه السجن كمحبوسين احتياطي".
وهذا ما علّق عليه بالقول "ففيه تعمّد لإهدار حق المحامي السجين بسبب إنه بيتعامل مع هذا النوع من القضايا (الرأي). وبالتالي؛ بالنسبة لبقية المحامين، فيه إحساس بالخطر. بجانب إنه استهداف بيحمل رسالة للمحامين المشتغلين على القضايا الحقوقية أو أي حد بيحاول يرفع صوته، إنه يبعد عنها. خاصة وإن الأمن بيحاول بعد تجريد المتهم من حقوقه حتى في جلسات التجديد، بينتقل دلوقتي للمحامين".
لهذا، وأمام كل ما صار من "انتهاكات وتهديدات"، بل واتهامات واجهها زملائهم الذين يتم حصرهم بمجهود شخصي منهم، دون أي تدخل من النقابة، وفقًا لهالة دومة؛ صار هناك أحلام مشروعة لهم، باعتبارهم ممارسين لمهنة لها كيان نقابي رسمي، ومنهم السجين المُقيد في جداوله، من هذه الأحلام "وجود نقابة قوية"، وكذلك "محاسبة ومساءلة" عمّا يتعرض له المحامين من أذى، وهي الأمور التي يؤكد أهميتها كريم عبد الراضي قدر تأكيده أنها "تحتاج إرادة سياسية من الدولة"، ويضيف "بالتالي لو الإرادة غير موجوة؛ فالبديل في المجتمع المدني، الذي يمثله النقابة الواجب مساندتها لأعضائها، والمحامين الواجب اصطفافهم. لأن لو منهم البعيد عن القضايا المُستهدف محاميها؛ فسيأتي عليهم الدور يومًا ما".
أما بهنسي، فاحتياجاته واضحة ومُحددة، وتمثلت في قوله "اللي محتاجينه العدالة الناجزة وكفالة حرية المحامي واحترامه. مايكونش واحد بيؤدي عمله، فيتم خطفه وهو ماشي في الشارع لمجرد إنه بيدافع عن ناس في قضية ممكن يراها البعض إنها مواجهة مع سلطات أو مؤسسات في الدولة. خاصة وإن الدستور بيكفل حق الدفاع عن كل مواطن، لكن يتم التنكيل بالمدافع".
ومثلهما قالت هالة "أنا مش محتاجة أكثر من تطبيق القانون. ولو بنتكلم في الوضع الحالي، فأنا مش هحلم بنقيب يتخانق مع النيابة (السلطات) علشاني، لكن على الأقل، النقابة تكون عارفة إن فيه ناس محبوسة". وتُعقّب "ده احنا حتى لما بنعمل الحصر السنوي للمحامين المحبوسين، كل ده بيكون بجهود فردية بيننا وبين بعض كمحامين. ولما عضو في النقابة بيتحرك معانا، بيكون بمجهود شخصي منه، مش بتكليف أو بواجب رسمي".
.. ونقابة "منعزلة"
على حد قولهم جميعًا "النقابة غائبة". وهذا رغم عضوية بعض المحبوسين فيها، ومنهم يوسف، الذي يقول عنه كريم "هو محامي مُسجل في النقابة جدول عام، ويمارس المحاماة منذ عام ونصف العام تقريبًا، وسبق أن عملت معه في مكتبه الخاص وفي الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان التي وقفت عملها في مصر نظرا للأجواء العامة".
أوقفت "الشبكة العربية" عملها. وهي التي كانت كيانًا حقوقيًا لطالما مارس عمله بمجهودات باحثين ومحامين لم يهملوا أي واجبات أو قواعد. لكن كان للأجواء العامة رأيًا آخر. وهذا دون رد فعل من النقابة التي تقول عنها هالة دومة "ليس لها أي دور، ومنعزلة عنّا تمامًا، يعني النقيب يوم حبس أستاذ محسن بهنسي، اتدخل حين أثيرت ضجة بسبب علاقاته الجيدة بزملائه وأعضاء نقابة حلوان، وليس لأن النقابة تتابع المحامين. ورغم هذا، خرج بعد 5 شهور. وأتذكر وقتها النقيب قال: هاتولي الورق اللي يثبت براءته، وهنقدم مذكرة، وهذا مع العلم أن المفترض هو أن النيابة هي اللي تثبت إدانته". وتُعلّق "فحتى لمّا النقيب بيتدخل، بيكون علشان يلحق ضجة، وبعد اتصالات".
إذن، الأمور لا تجري بالطرق المفترضة، فلابد من بعض العلاقات والضغوط كي تتحرك الجهة التي من المفترض أنها الداعم والحصن للمحامين. وهو ما يدفع هالة للقول "فأنت ليس لديك حتى الضمانات البسيطة التي قد تتمني تعديلها. بل ولابد من وجود علاقات؛ وإلا لن يتحرك أحد إلاّ كجدعنة وبضمير منه"، مُختتمة بقولها "احنا بندخل أماكن شغلنا، ومش عارفين هيحصل لنا إيه".
مثلها أيضًا يقول مَن كان يومًا موكلها، محسن بهنسي، الذي ما زال يذكر أن وقت أزمته "كانت الجهود فردية"، وقياسًا عليه يُفسر السبب بقوله "لأن النقابة للقيام بمثل هذا الدور في الدفاع عن محاميها المحتجزين، تحتاج أكثر من محامي. وللأسف الدفاع عني تم بعد ضغوط من المحامين الزملاء، وتم الحث على الدفاع عني لأني معروف. لكن هناك محامين آخرين النقابة للأسف لم تتحرك بشأنهم".
ويدعم رأيهما نفسه أيضًا كريم عبد الراضي، بقوله "بشكل عام النقابة عمرها ما تجرأت على دعم المحامين المقبوض عليهم، ولا دور لها في القضايا المنظورة أمام أمن الدولة، لا مُعلن ورسمي ولا حتى مجرد موقف داعم. بينما حين يتعرّض محامي لمشكلة أمام نيابة أو مع قاضي في أي نوع آخر من القضايا، تتدخل، أما السياسي، فتتعامى عنه. وبالتالي؛ محامين قضايا الرأي بلا حماية ويشعرون بأن ظهرهم مكشوف".
نقابة المحامين هي التي كان لها دورًا مشهودًا وقت اعتقالات سبتمبر/ أيلول 2019، حين أدانت، في بيان، القبض على محامين كانوا يدافعون عن متظاهري تلك الأحداث، واعتبرت فيه القبض على المتهمين "إجراء يؤدي لإسقاط دور الدفاع ودور المحامي القانوني والدستوري"، والتوسّع في عمليات القبض حتى تشمل من يؤدي عمله بالمحاماة، ويحضر مع المتهمين مهما كانت الجرائم المنسوبة إليهم "تثبت التنكيل بالمحامين أثناء أداء عملهم".
وحينها طالبت النقابة بأن "تتسم عمليات القبض بالضمانة الكاملة على جدية الاتهام، وضمان حضور المحامي للتحقيق، وإخطار النقابة بالتهم المسندة إلى كلا منهم، ومكان حبسه، وموعده القانوني في التحقيق، أو المحاكمة على أن تسرى هذه القواعد على جميع المتهمين".
لهذا، وأمام ما ذّكر بحق النقابة، تواصلت المنصّة مع اثنين من مسؤوليها بعد وفاة النقيب رجائي عطية، أحدهما وكيل لها، طلب الاطلاع على فحوى الاستفسارات ووعد بالردّ عليها، لكنه لم يفعل حتى نشر التقرير، وكأن ذلك يعني أن المحامين الذين من المفترض أن يدافعوا عن غيرهم لن يجدوا من يدافع عنهم، أحياءً مثل كثيرين في السجون، أو بعد وفاتهم مثل علي كساب الذي لا يعني تفضيل أهله دفنه عن المضي في إجراءات التقاضي ألا تحرك النقابة ساكنًا تجاه ذلك.