يحكي سفر إستر، وهو واحد من أسفار التاناخ اليهودي، عن الملك أحشويرش Ahaseurus الإمبراطور الأخميني الفارسي، الذي حكم بين عامي 486-465 ق م، وكان من أوسع الأباطرة مُلكًا، فحكم إمبراطورية امتدت من الهند وحتى كوش في الحبشة، أنه قرر ذات يوم أن يدعو نبلاءه وعبيده في فارس وميديا إلى وليمةٍ باذخةٍ امتدّت ستة أشهر، وختمها بأخرى امتدت سبعة أيام، وكان الخمر مباحًا حسب رغبة المدعوين، وفي اليوم السابع طلب الملِك من خصيانه السبعة، وقد لعبت الخمر برأسه، أن يأتوا إليه بالملكة وَشتي Vashti ليطّلع الجميع على جمالها، لكنها رفضت، فغضب الملِك، واستشار المقرَّبين من أمرائه ونبلائه في أمرها فأشاروا عليه بتجريدها من المُلك، وبأن يذيع رسلُه في شعوب الإمبراطورية هذا الخبر لتتعظ النساء و"ليكون كلُّ رجُلٍ متسلِّطًا في بيتِه".
وبعد تجريد وشتي من مكانتها، عُقِدَت مسابقة لفتيات الإمبراطورية ليتخذ الملِك أجملهن زوجةً، واستمرت المسابقة عامًا كاملًا، ستة أشهر تدَّهِن الفتيات بزيت المُرّ، وستة أشهر بطُيُوبٍ وأدهانٍ أخرى، وكان من بين خَدَم قصر الإمبراطور في شوشن عاصمة الأخمينين، اليهودي مردخاي بن يائير من سِبط بنيامين، الذي وقع جَدُّه الكبير مع ملِك يهودا في سبي نبوخذ نصر البابلي، وكان مردخاي يكفل ابنة عمِّه اليتيمة هدسة، واسمها أيضًا إستر، فقدّمها في المسابقة على أن تخفي انتماءها اليهودي. وراقت إستر الملِكَ واتخذها زوجة وحلّت ملِكةً محلّ وَشتي.
بعد ذلك كشف مردخاي مؤامرةً حاكها اثنان من حرَس القصر لاغتيال الملِك، لكنه لم ينل مكافأة عن ذلك، ورفع الملِك هامان بن همداثا الأَجاجيَّ (أحد مقرَّبيه) فوق كل من عداه من النبلاء إلى منزلة ليسَت فوقَها إلا منزلتُه هو، وأخذ كل من في القصر يسجدون لهامان تبعًا لأمر الملِك، إلا مردخاي اليهودي. اغتاظ هامان من مردخاي وقرر أن ينتقم من الشعب اليهودي كله لا من مردخاي فقط، فأوغر صدر الملِك على اليهود ووافق الملِك على مخطط هامان لإبادتهم، وهنا اقترع هامان ورجاله على أنسب شهور السنة وأيامها لتنفيذ مخطط الإبادة، وكانوا في شهر نيسان (الشهر الأول في التقويم اليهودي) من السنة الثانية عشرة لمُلك أحشويرش، ورَسَت القُرعة على اليوم الثالث عشر من شهر آذار (آخر الشهور). وسارَت أوامرُ الملِك إلى وُلاته في جميع ولايات الإمبراطورية لتجتمع قوتهم على إبادة اليهود في ذلك اليوم.
لما بلغ الخبر مردخاي شقّ ثيابه وأخذ ينتحب، ثم دعا إستر لأن تكلّم الملِك في هذا الأمر ليَنقُض أوامره، علّ إنقاذ اليهود يكون على يديها، لكنّ إستر توجّست خيفةً من أن يلحقَها مصيرُ وَشتي، أو أن تُعدَم إن اقتحمَت حضرة الملِك من دون إذن، فقررت أن تصوم ثلاثة أيام ودعَت مردخاي إلى أن يطلب من اليهود أن يصوموا لأجلها ثلاثة أيام لتُوَفَّقَ في مسعاها لإنقاذهم، واحتالَت حتى حظيَت بدعوة الملِك للدخول إليه، لكنها رفضَت أن تخبرَه بطلبِها مباشَرةً رغم وعدِه إياها بأن يُعطيَها ما تطلبُه ولو كان نصفَ مملكتِه، وإنما أعدَّت له ولهامان وليمةً كبيرةً يومين متتاليين، وكان هامان فخورًا بهذه الحُظوة، لكنّ مرأى مردخاي جالسًا أمام باب القصر لا يقوم له كان يفسد فرحتَه، فأشارَت عليه زوجتُه زِرِش بقتل مردخاي وصَلبِه على خشبة عالية يستطيع كلُّ من في شوشن المدينة أن يراها. وراقَته الفكرة بالفعل.
إلى هنا لم يكن الملِك يعلم شيئًا عن دور مردخاي في إفساد مؤامرة اغتياله، فأرِقَت عيناه ليلةً بعد وليمة إستر الأولى، فأمر بسِفر أخبار أيام مملكته أن يُقرأ عليه، فعرف منه خبر مردخاي، فاستشار هامان في الصباح التالي عن التكريم اللائق لمَن يريد الملِك أن يكرمه، فظن هامان أنه هو المُراد بالتكريم وأشار بما يراه لائقًا، ليفاجأ بأنّ المُكرَّم مردخاي، وهو الذي كان ينوي أن يخبر الملِك بنيّته في صَلبه ذلك اليوم.
بعد الوليمة الثانية تفصح إستر للملِك عن رغبتها في إنقاذ شعبها اليهودي من بطش من أراد لهم الإبادة، وتشير إلى هامان، فيَخرج الملِك مَغيظًا إلى حديقة القصر، ويتوسل هامان إلى إستر أن تشفع له عند الملِك، وحين يعود الملِك يرى هامانَ على السرير الذي تجلس عليه إستر فيظنُّه يحاول الاعتداءَ عليها، وينتهي الأمر بهامان مصلوبًا على الخشبة التي أعدّها لصَلب مردخاي.
في النهاية يتحول الأمر الملَكيّ إلى نقيضِه، فيهَب الملِكُ إستر أملاكَ هامان، وتقيمُ هي مردخاي عليها، كما يعطي خاتمَه الملَكيّ لمردخاي وينصّبه مكان هامان، ويكتب مردخاي رسالة ليهود الإمبراطورية يختمها بخاتم الملِك، أن ينتقموا من كل شعبٍ أراد بهم سوءًا في طول البلاد وعرضها في نفس اليوم الذي كان محددًا لإبادتهم (13 آذار)، حتى إنهم قتلوا أبناء هامان العشرة، وخمسمائة رجلٍ في قصر شوشن، وخمسةً وسبعين ألفًا من أعداء اليهود من كل الأُمَم في باقي بلدان الإمبراطورية، واستراح يهود الإمبراطورية يوم 14 آذار، بينما واصل يهود شوشن العاصمة مذابحَهم يوم 14 واستراحوا يوم 15. وأوصَت إستر ومردخاي يهودَ البلاد بالاحتفال بهذين اليومين كلّ عامٍ بإعطاء العَطايا للفقراء والشّراب والفرح وإهداء الهدايا للأصدقاء.
ورغم أن اليومين المشار إليهما في الحكاية هما 14 و 15 آذار، أي مارس بالتقويم الميلادي، لكن احتفال اليهود بذلك العيد الذي سمي الپوريم هذا العام 2022، مثلًا، حل مساء الأربعاء 16 مارس وانتهى مساء الخميس 17 مارس، وسبب هذا الاختلاف هو اختلاف التقويم العِبري عما نعرفه من التقويم الشمسي المعتمَد في السنة الميلادية، وكذلك التقويم القمري أساس السنة الهجرية، فالتقويم العبري يقيس الأشهر بدورات القمر حول الأرض، لكنه يقيس السنة بدورة الأرض حول الشمس، مما يخلق فرقًا من عشرة أيام تَضطَرّ اليهوديَّ المتديّن إلى إضافة شهر يسميه أدار الأول كل ثلاث سنواتٍ تقريبًا، تبعًا لخُوارَزمية معقَّدَة بعض الشيء.
تقول الآيات من 20 إلى 22 في سفر إستر "كتبَ مُردَخاي هذه الأمور وأرسل رسائل إلى جميع اليهود الذين في كل بلدان الملِك أحشويروش القريبين والبعيدين. لِيُوجب عليهم أن يُعيِّدوا في اليوم الرابع عشر مِن شهر آذار واليوم الخامس عشر منه في كل سنة. حسب الأيام التي استراح فيها اليهود مِن أعدائهم والشهر الذي تحول عندهم مِن حزن إلى فرح ومِن نَوح إلى يوم طيِّب ليجعلوها أيامَ شُرب وفرح وإرسال أنصِبة مِن كل واحد إلى صاحبه وعطايا للفقراء"، وتؤسس الآيتان لعيدَ الپُوريم (الفُوريم) أي القُرَع (جمع قُرعة) بوصفِه ذكرى متجددة لنجاة اليهود من أكبر مؤامرة لإبادتهم، وتكشف عن الشكل الكرنفالي المصاحب لتلك الاحتفالات، التي تؤدي فيها الموسيقى والأغاني دورًا رئيسًا.
وسوف نستعرض في هذا المقال أربع أغانٍ من أكثر أغاني الپُوريم شعبيةً بين يهود إسرائيل والعالَم، ونَحوم حولَها في محاولة لقراءتها قراءة ثقافية سريعة، من منطلَق أنّ الأغنية بصِفَتها فنًّا هجينًا من الموسيقى والشِّعر بشكلٍ أساسيٍّ، فضلاً عن الاستعراض في الأغاني المصوَّرَة، تعبّر عن وجدان الشعب الذي أفرزها تعبيرًا بالغَ النفاذ إلى رُوحِه.
شخاشيخ وأشياء أخرى
لعلّ أشهر أغاني الپوريم أغنية حَج پوريم חג פורים Chag Purim، أو موسم البُوريم. كتبها لِفين كِبنِس (1894- 1990)، وهو كاتب وشاعر الأطفال الإسرائيلي القادم من غرب روسيا القيصرية، حيث كانت إقامة معظم يهود الإمبراطورية الروسية حتى الثورة البلشفية.
أغنية حَج پوريم
الأغنية بسيطة في كلماتها "موسم الپوريم، احتفال كبير لليهود. أقنعة وشخاشيخ وأغانٍ ورقصات. هيّا نشخشخ، هيا نصخب. موسم الپوريم. نتهادَى فيه فيما بيننا. حلويات وأشياء أخرى لطيفة. هيا نشخشخ هيا نصخَب"، أما اللحن فتيمة شعبية يهودية بسيطة في مقام النهاوند، المقام الأثير للموسيقى الإسرائيلية المعاصرة (ما يسميها موسيقيو دولة الاحتلال: موسيقى أرض إسرائيل).
ويلفت انتباهَنا ذلك الحضور القوي للشخاشيخ في كلمات الأغنية، يقول موقع الأنبا تكلا في ذلك "عند ذِكر اسم هامان كان جمهور المصلين يصرخون "لِيُمحَ اسمُه" أو "سيَبلَى اسمُ الشِّرِّير"، بينما يخشخش الأحداث بالخشخيشات"، في إشارة إلى كراهية ذلك الرجُل مخطِّط المؤامرة، تمامًا كما يصفر جمهور الكرة إذا نزل إلى الملعب لاعب لا يريدونه، وكما يصفر مرتادو المسرح حين يعتلي الخشبةَ فنان لا يحبونه.
ومن الواضح أن طقس الخشخشة يحتل مكانة مهمة في احتفالات الپوريم، فهناك عديد من المَقاطع المُصوَّرة التي تشرح كيفية عمل شخشيخة پوريم Noisemaker.
لكن نوع الشخشيخة الأبرز هو الرَّعشَن רעשן، بالإنجليزية Ratchet أو Grogger، الذي وظَّفَه بعض المؤلفين الموسيقيين كآلة إيقاع أوركسترالية، حيث وظّفه رتشارد شتراوس في قصيده السِّمفوني مقالب تِل أُيلِنْشْبيجل المرِحة Till Eulenspiegels lustige Streiche، ويظهر صوتها تحديدًا في الثانية 3:23 من هذه النسخة.
ولعل أطرف ما يمكن أن نصادفه بخصوص الرَّعشَن ذلك المَقطع الذي تشرح فيه أليسون يوسفس Allison Josephs، مؤسِّسة موقع يهودي في المدينة Jew in the City، كيف يحتفل اليهود بكلٍّ من الپوريم والحَنُوكة Hanukkah بآلة تُدار في حركة مغزلية، وهي الرعشن في الپوريم والدريدل Dreidel في الحنوكة. لكن الرعشن تُدار من أسفل بينما الدريدل تُدار من أعلى، وهي تشبه لعبة النحلة الشائعة في مصر، لكنها أقرب إلى نحلة مقلوبة رأسيًّا.
وتثير أليسون سؤالاً عن رمزية هذا الاختلاف، ثم تُجيب بأنه يشير إلى اختلاف طبيعة المعجزة بين حكايتَي الپوريم والحنوكة. ففي الپوريم نجا اليهود من مؤامرة الإبادة وقلبوها إلى نصر بأيديهم، وتحديدًا بجهود إستر ومردخاي، ولِذا تُدار الرعشن من أسفل، بأيدي الشعب اليهودي.
أما حكاية الحنوكة، أو عيد الأنوار: حَج ها أُريم חַג הַאוּרִים، كما يورِدها التلمود البابلي فيتلخص ما يهمنا منها في انتصار اليهود على السلوقيين وتأسيسهم دولة المقابيين المستقلة، واعتزامهم تطهير الهيكل الثاني (عام 164 ق.م) بعد أن دنّسَته قوات أنطيوخس الرابع. وكان يتعين عليهم أن يوقِدوا المِنُورَة Menorah (شمعدان المعبد)، فلم يجدوا من زيت الزيتون المقدَّس إلا ما يكفي لإيقادها يومًا واحدًا، لكن حدثت المعجزة الربانية وكفى الزيت ثمانية أيام رغم قِلَّتِه. وهكذا تتضح طبيعة المعجزة بأنها آتية من الأعلى، ولذا تُدار الدريدل من أعلى.
فيديو يوضح لماذا تدار تُدار الدريدل من أعلى
ولا يخفى علينا أن مِثل هذا التأويل يبدو أقرب إلى المبالغة في القراءة وأن الأمر أبسط من ذلك بكثير، لكن يبدو أنّ أبسَطَ الممارسات الإنسانية لا يَعدَم عقليةً مميزةً تأخذ على عاتقِها إلصاق دلالاتٍ عميقةٍ به. خاصةً أن الرّبّي داود ﮔولنكين يستعرض بعض الأصول المختلَقة للعبة الدريدل التي تربطُها بمقاومة اليهود للسلوقيين أو بانتظار الماشيح (المسيح في اليهودية)، ثم يبين أصول اللعبة في إنـجلترا وأيرلندا وألمانيا، ويختتم مقالَه بأن اللعبة تمثّل سخرية القدَر من التاريخ اليهودي، فاليهود يحتفلون بالحنوكة تذكارًا لمقاومتهم الانصهار في بوتقة حضارة الأغيار، وسبيلهم لهذا الاحتفال هو لعبة الدريدل التي تمثل في الحقيقة صورةً من صوَر ذلك الانصهار.
نأكلُ أذني هامان
مِشانِخنَس أدار משנכנס אדר Mishenichnas Adar، هي الأغنية الأكثر مرحًا بين أغاني الپوريم، تُغَنّى نسختها الأشهر في مقام العجَم، وكلماتها لا تتعدى عبارةً واحدة "مِشانِخنَس ادار، مَربِن بسِمخَه" أي "حين يحُلُّ آذار تزداد سعادتُنا". وهي عبارة تلمودية من القسم الثاني من التلمود البابلي جِمَرَا גמרא، المحتوي على شرح وتفسير علماء اليهودية للتوراة الشفهية، التي تؤلّف القسم الأول مِشنَه משנה.
أغنية مِشانِخنَس أدار
ومن اللافت أنّ المَقطع السابق يستعرض كخلفية للأغنية الحلوى الأشهر في عيد الپوريم، المسمّاه هامانتاشِن Hamantaschen أي جيوب هامان، وهي تسمية بلغة الييديش (لغة يهود شرق ووسط أوربا المتأثرة بالألمانية)، أما اسم الحلوى بالعبرية فهو אוזן המן وتعني بالعربية كما تُنطَق بالعبرية أذن هامان.
ويستعرض يهودا شُرپين في موقع حركة حَبَد تاريخ هذه الحلوى وتسميتها وكيف اكتسبت في إسرائيل اسم أذن هامان، وارتبطت في الوعي الجمعي بتصوُّر خيالي لقَطع أذن هامان قبل إعدامه، وهو يصف هذا القطع بالبربري، لكن يظل تبنّي العامة في إسرائيل للتسمية، وارتباطها بهذا التصور دالَّين على قَدرٍ لا يُجحَد من العنف يميز المخيِّلة الشعبية.
أما أوفر الفنانين اليهود حظًّا من الإبداع في تقديم هاتين الأغنيتين، فهم بالتأكيد فرقة شير سول الأمريكية، التي قدّمت مِدلي Medley منهما بطريقة أكاپيلّا (أداء صوتي غير مصاحَب بالموسيقى الآلية) في فيديو بالملابس الكرنـﭭالية.
وفيما يتصل بالملابس التنكُّرية والأقنعة في الپوريم، يخبرنا هنري مالتر، وكاوفمان كولر في الموسوعة اليهودية (1906) بأن هذه الطقوس الكرنـﭭالية تسربت إلى الپوريم بادئ ذي بدء في القرن الخامس عشر على يد يهود إيطاليا، متأثرين في ذلك بالكرنفالات الرومانية.
لكن يتسحاق سندر في كتابه بصائر الحكماء في الپوريم والحنوكة، يتأوّل طقس الأقنعة، كما فعلت لاحِقًا أليسون جوزفس مع لعبتَي الرعشن والدريدل، ويرى فيه محاولةً لاتِّباع الرب الذي أخفى حضوره وراء الأحداث الموصوفة في سِفر إستر، خاصةً أن السِّفر معروفٌ بكونِه الوحيد بين أسفار التاناخ مع نشيد الأنشاد اللذَين لم يُذكر فيهما اسم الرب صراحة.
كان لليهود نور
عنوان هذه الأغنية مأخوذ هو الآخر من جوف النصوص اليهودية المقدسة، تحديدًا من الآية 16 من الإصحاح الثامن من سفر إستر "لا يهوديم هيتَه أورَه ڤ سمخَه ڤ سسون ڤ يكار"، يغنيها مِلِك كون Meilich Kohn، المطرب الأمريكي الحسيدي Hasidic في نسخة تكنو راقصة في سلم صغير/ نهاوند، وهو يرتدي أطقمًا كرنڤالية كثيرة مُعَبِّرًا عن فرحة الپوريم وطقوسه الاحتفالية.
أغنية Layehudim
ومن الطريف أن نجد نسخةً أخرى في سلم كبير (عجم) يغنيها كورال أطفال يهودي في لوس أنجلوس عام 1973 باعتبار الآية جزءً من طقوس الفصل ها ﭬْدَلَه הַבְדָּלָה Havdalah، التي تميز الاحتفال بنهاية السبت، وبداية أسبوع جديد.
زهرة يعقوب
تأتينا هذه الأغنية بدورها من عمق الممارسة الدينية، فهي ترنيمة تُتلى بعد قراءة المجلة (أي سِفر إستر) ليلة وصبيحة عيد الپُوريم. وهي مبنية أساسًا على نفس السِّفر (إصحاح 8: آية 15) "وخرج مردخاي مِن أمامِ الملِك بلِباسٍ ملَكِيٍّ اسمانجوني وأبيض وتاجٍ عظيمٍ من ذهبٍ وحُلّةٍ من بَزٍّ وأرجُوانٍ وكانت مدينةُ شُوشَن متهللةً وفرِحة". بينما تبدأ كلمات الأغنية "اهتزَّت زهرةُ يعقوبَ بالفرَح وصاحَت حين رأَوا مردخاي يرتدي الأزرقَ الملَكِيّ". هكذا يلعب عنوان الأغنية على الجناس بين مفردة شوشنَةْ שושנת أي زهرة، واسم العاصمة الأخمينية شوشن، فيُحِلُّ شعبَ إسرائيل محلَّ مدينة الأغيار، فالمهم أن اليهود هم من فرحوا لمرأى مردخاي مكرَّمًا، ومن ناحيةٍ أخرى يبدو أن الترنيمة تصادر عاصمة الفُرس القديمة لأمة اليهود المزهوّة في تلك اللحظة. نستمع على موقع حَبَد إلى نسخة من الأغنية مغنّاة بلكنة أمريكية تتضح مع نطق حروف الراء.
والترنيمة تذكر أبطال الحكاية الأخيار وأشرارها وتنتهي بذِكر حربونا Charvonah المذكور في الآية التاسعة من الإصحاح السابع من سِفر إستر "قال حربونا واحِدٌ مِنَ الخِصْيانِ الذينَ بَينَ يَدَي المَلِكِ هُو ذا الخَشَبَةُ أيضًا الَتي عَمِلَها هامانُ لِمُردَخَايَ الّذي تَكَلَّمَ بالخير نحو المَلِكِ قائِمةٌ في بَيتِ هامانَ ارتفاعُها خَمسُونَ ذِراعًا فقالَ المَلِكُ اصلُبوه عليها". وهو يبدو شخصيةً هامشيةً تمامًا في الحكاية، لكن الرّبّي ابن عزرا قال إنه ربما كان حربونا هذا تجسُّدًا للنبي إلياهو/ إيليّا/ إلياس الذي يَحضُر لنجدة اليهود كلما احتاجوه، فدورُه هذا في الوعي الجمعي اليهودي يذكّرنا بأحد أدوار الخضر في التصوف الإسلامي، أي أنه متى دُعِيَ حَضَر.
مشترَك وحيد للهوية الإسرائيلية
لعلَّ السِّمة المهيمنة على غالبية أغاني الپُوريم أنها تمتاح من بئر النصوص اليهودية المقدسة بغضّ النظَر عن عَلمَنة عيد الپُوريم وانصهار مظاهره الحديثة في بوتقة الحضارة الغربية.
هذا الانغماس في النصوص المقدسة يَبرُز بقوّة حين نقارن ما استعرضناه، وما قَصُر دونه المقال، من أغاني الپُوريم والحنوكة(عيد يهودي آخر) بأغاني الأعياد الإسلامية في مصر مثَلًا، حيث لا نكاد نصطدم بإشاراتٍ بهذه الكثافة في أشهر تلك الأغاني، من أول يا ليلة العيد آنستينا لأم كلثوم إلى أهلاً بالعيد لصفاء أبو السعود.
ويلفتنا هذا إلى أن الوعي الجمعي اليهودي لا يمكنه أن ينسلخ من المشترَك الوحيد الذي يمنح اليهود عمقًا لهويةٍ موحّدة، وهو ببساطة الدين اليهودي. وحين نراجع الصراعات السياسية بين القوى الدينية والعلمانية التي رافقت نشأة الكيان الصهيوني، واستمرّت فيه إلى اليوم كما يرصدها الراحل دكتور رشاد عبد الله الشامي في كتابه القوى الدينية في إسرائيل، نكتشف أنّ الإرث الديني كان بالفعل هو الملجأ الذي ارتضاه حتى أكثرُ العلمانيين رفضًا للدِّين، ارتضوه أساسًا لخطابهم. والخلاصة أننا بحاجة، بعد أن نستمع جيّدًا إلى تلك الأغاني، إلى أن نتأمل هذا الانغماس الديني، فهو بلا شك يمثل مفتاحًا مهمًّا لفهم مرتكزات الكيان الصهيوني وبنيته العميقة.