فجأة، قفز سعر تداول الدولار أمس على شاشات البنوك جميعها حتى تخطى حاجز 18 جنيهًا. وحيث إن حياتنا اليومية محكومة بتقلبات الورقة الخضراء، فإنه من المتوقع بالضرورة أن ترافق تلك القفزة أخرى في أسعار السلع الحيوية. هذه القفزة الأخيرة، التي لم يتضح بعد مدى تأثيرها المباشر على حياتنا، تمثل الهاجس الأكبر لدى المصريين، خاصة وأنها تستبق موسمًا ضخمًا للمناسبات والأعياد، ترافقها عادةً زيادة كبيرة في الاستهلاك والإنفاق.
يتوقع مستوردون ومحللون اقتصاديون تحدثت إليهم المنصة، أن ترتفع أسعار المنتجات في السوق المحلية بنسب متفاوتة نتيجة ارتفاع تكلفة التوريد، وهو ارتفاع ربما لن تجابهه إجراءات الدعم النقدي التي أعلنتها الحكومة، أمس أيضًا، عبر زيادة المعاشات والأجور، أو بطرح بنكي الأهلي ومصر شهادات ادخار ذات عائد مرتفع يقترب من مستوى ما طرح خلال موجة تعويم الجنيه في عام 2016.
كل شيء يبدأ من الرغيف
يمثل سعر الخبز هاجسًا يتصاعد كل يوم، منذ إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي، في أغسطس/ آب الماضي، ضرورة تخلي الدولة عن دعمه، وهو قلق زادت من وطأته الحرب بين روسيا وأكرانيا؛ الدولتان اللتان تعتمد عليهما مصر في استيراد ما تحتاجه من القمح والذرة، وفي حين تبحث الحكومة عن أسواق بديلة للاستيراد، وتسعى لفرض إجراءات تستهدف جمع أكبر كمية ممكنة من القمح المحلي، فإن زيادة الدولار مقابل الجنيه قد تؤدي لارتفاع أسعار القمح بنسبة تتخطى 20%، حسبما يتوقع إيهاب إدريس، عضو غرفة الحبوب باتحاد الصناعات المصرية.
يرى إدريس إن إجراءات تحفيز المزارعين على توريد محصولهم من القمح المحلي، لن تحول دون الزيادة في السعر، قائلًا للمنصة إن "الحكومة قررت تبكير موعد الحصاد للقمح، وأعلنت محفزات وتهديدات لجمع أكبر كمية من المحصول، لكن هذا لا يغني، ولن نصمد سوى لأشهر".
ورفعت الحكومة سعر شراء القمح من المزارعين لهذا الموسم إلى 865-885 جنيه للأردب، بزيادة 8% عما سبق وأن حددته في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فيما ألزمت المزارع بتوريد حصة لا تقل عن 12 أردب عالي الجودة لكل فدان (ينتج الفدان بين 18 إلى 20 أردب)، وإلا تعرض للسجن والغرامة.
أما فيما يخص الاستيراد، فيوضح إدريس أن "المستوردين لديهم مخزونات ضعيفة جدًا، وسترتفع تكلفة استيراد القمح 20% على أقل تقدير نتيجة فرق سعر العملة، إضافة للارتفاعات في سعر السلعة نفسه عالميًا، فأي دولار زيادة في سعر القمح يتبعه دولاران زيادة في الدقيق".
أمام هذه المعطيات يرى إدريس، أن تأثير ارتفاع أسعار القمح سيمتد إلى تسعير الخبز والمكرونة وكل ما ينتج من الدقيق "الحكومة حددت سعر للخبز السياحي لا يمكن أن يستمر هذا السعر، سيحرك المنتجون أسعاره لكنهم سيكونون حذرين من تهديدات الحكومة التي تعلم ذلك أيضًا، لكنها تحاول الضغط عليهم لأقصى درجة ممكنة".
والخبز السياحي هو ما تنتجه الأفران وتبيعه للمستهلك من دون البطاقة التموينية، وكانت الجريدة الرسمية نشرت، أمس الاثنين، قرار مجلس الوزراء بتحديد سعر رغيف الخبز المميز (السياحي) بين 50 قرشًا إلى جنيه، للرغيف الذي يتراوح وزنه بين 45 جرام إلى 90 جرامًا.
.. ثم يتبعه الوقود
في عام 2019، شكّل مجلس الوزراء لجنة لتسعير المنتجات البترولية، من خلال اجتماع تعقده بصفة دورية كل ثلاثة أشهر، لتسعير الوقود، وتعديل أسعار بيع بعض المنتجات البترولية في السوق المحلية ارتفاعًا وانخفاضًا، وفقًا لتطور السعر العالمي لبرميل خام برنت، وتغير سعر الدولار أمام الجنيه، وذلك بحد أقصى قدره 10% سواء للزيادة أو النقصان في السعر.
وعلى مدار التسعة أشهر الماضية شهدت أسعار المحروقات زيادات متتالية بمقدار 25 قرشًا للتر، وهو ما يتوقع محللون تكراره للمرة الرابعة على التوالي، خلال اجتماع لجنة التسعير الذي سيعقد في إبريل/ نيسان المقبل، ولكن الزيادة هذه المرة ربما تكون ضعف قيمة الرفع المعتادة.
وارتفعت أسعار البترول خلال الشهر الجاري إلى مستويات قياسية وصلت إلى 140 دولارًا للبرميل، في حين تستهدف الحكومة في موازنة العام المالي الجاري سعر النفط عند 60 دولارًا للبرميل، ويقول محلل في أحد بنوك الاستثمار، إن زيادة تكلفة الواردات سواء من السلع الأساسية أو النفط ستضغط على الموازنة التي تواجه ضغوطًا بالفعل نتيجة العوامل الخارجية، وهو ما سيدفع الحكومة لتقليل نفقاتها على الدعم أو ترشيده لفئات محددة، وهذا يعني تمرير جزء من التكلفة إلى المستهلك.
وفي بيان صدر، ظهر اليوم الثلاثاء، أكدت الحكومة توجهها نحو إعادة هيكلة الموازنة العامة للدولة للعام المالي المقبل، ووضع حلول وتوقعات للتعامل مع السيناريوهات الأكثر تشاؤمًا، لتحقيق انضباط الإنفاق، بل والتقشف فى عدد من الأمور، مع ترتيب الأولويات.
وأضاف المحلل، الذي فضل عدم ذكر اسمه، للمنصة أن رفع أسعار السولار سترفع تكلفة نقل السلع والمواد الغذائية والخضروات والفاكهة، وسترفع أيضا تكلفة بند المواصلات وهذا بالطبع سيضيف مزيدًا من الضغوط على الأسر ومصروفاتها.
ويشير المحلل إلى أنه في هذه الحالة، لن تكون الإجراءات التي أعلنتها الحكومة والبنوك سواء بزيادة المعاشات أو طرح شهادة بفائدة 18% مجدية بشكل كبير، لأنها لا تغطي كل الشرائح المتضررة من التضخم المتزايد، كما أنها لا توازيه في وتيرة الارتفاع.
الرفاهيات المستحيلة
بحسب بيانات البنك المركزي فإن فاتورة الواردات المصرية، بعد استبعاد المواد البترولية، تتركز في السلع الاستثمارية كالهواتف وأجهزة الاتصالات، ثم السلع الاستهلاكية مثل السيارات والأجهزة المنزلية والتليفزيونات ثم الملابس الجاهزة.
ويؤكد متى بشاي، رئيس لجنة التموين والتجارة الداخلية بشعبة المستوردين باتحاد الغرف التجارية، للمنصة، أن "أسعار كل السلع المستوردة سترتفع بنفس نسبة ارتفاع الدولار على أقل تقدير"، فيما يشير مصطفى المكاوي، رئيس شعبة المستوردين بغرفة كفر الشيخ، إلى أن الزيادة المتوقعة في أسعار تلك السلع تتراوح بين 16 إلى 18%، لكنها لن تكون الوحيدة "هناك زيادة أخرى تتعلق بالسلع التي نستورد مدخلاتها ونقوم بتجميعها في مصر".
وبحسب بيانات البنك المركزي تمثل مدخلات الإنتاج نسبة 10% من إجمالي قيمة وارداتنا، وفي محاولة لتوفير نوع من الحماية للأسواق من تقلبات العملة، أعلنت وزارة المالية أمس عن تثبيت سعر الدولار الجمركي عند 16 جنيه حتى نهاية الشهر المقبل بالنسبة لواردات السلع الأساسية.
والدولار الجمركي هو المعيار الذي تحتسب تحسب مصلحة الجمارك على أساسها قيمة الرسوم الجمركية المفروضة على السلع المستوردة، وبالتالي فإن تثبيت سعره يعني الحد من فرص زيادة هذه الرسوم.
لكن المكاوي يشير للمنصة إلى أن المالية لم تحدد ما هو المقصود بالسلع الأساسية، كذلك "من المتوقع أن يتم رفع سعر الدولار الجمركي بعد شهر ليعبر عن القيمة الجديدة للدولار، وهو ما سيمثل عبئًا إضافيًا على المستوردين لأنه سيساهم في زيادة تكلفة الرسوم الجمركية".
قبل زيادة الدولار الأخيرة، بفترة قصيرة، اتجه البنك المركزي لفرض قواعد جديدة للاستيراد أثارت جدلًا واسعًا، حيث إنها تلزم البنوك العاملة في السوق المحلية بوقف التعامل بمستندات التحصيل في تنفيذ كافة العمليات الاستيرادية، والعمل بالاعتمادات المستندية فقط، وهو إجراء اعترض عليه مجتمع الأعمال باعتباره يعقد إجراءات التوريد حسب وصفهم، إضافة إلى أنه يسحب سيولة الشركات في عمليات استيراد أقل ويحرمهم مزايا النظام المُلغى.
وكان أبرز ما واجهته تلك القواعد الجديدة من انتقادات، هو أنها ستؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع في السوق المحلية والإضرار بالقدرة التنافسية للصادرات المصرية، وهو ما تحقق فعليًا عندما رفعت جي بي أوتو أسعار السيارات طراز شيري تيجو 8، 40 ألف جنيه لتصل إلى 415 ألف جنيه.
ويرى المكاوي أن قيود المركزي ستساهم، مع تغير قيمة الدولار، في زيادة وتيرة ارتفاع الأسعار "ففي ظل تلك الإجراءات بشأن الاعتمادات المستندية وحاجة المستورد لتوفير سيولة نقدية كبيرة تمكنه من فتح اعتماد مستندي أو توفير الدولار، فإنه قد يلجأ لخفض الكميات التي يستوردها وهو ما يشجع على زيادة الأسعار".
ويرى أحمد شيحة، رئيس شعبة المستوردين بالغرفة التجارية، سابقًا، أن أسعار جميع السلع الهندسية تامة الصنع والوسيطة والكماليات وحتى ما تسميه الحكومة استفزازية، سترتفع نتيجة ارتفاع الدولار، متوقعًا أن تتراوح نسبة الزيادة المبدئية بين 20 إلى 25%.
وأضاف شيحة للمنصة، أن بعض التجار رفعوا الأسعار بدءًا من اليوم، مشيرًا إلى أن زيادة الدولار ليست محركًا وحيدًا لرفع الأسعار مع انتظار قرار قريب بزيادة أسعار البنزين، وبالتالي زيادة سعر الكهرباء وتكاليف الإنتاج والنقل، هذا قد يدفع معدل زيادة الأسعار للتسارع.
وتستورد مصر أكثر من 85% من السلع الوسيطة للصناعات الهندسية، و7% لمعدات الإنتاج وخطوط الإنتاج، ونسبة نحو 10% هي منتجات تامة الصنع، وفقًا لشيحة.
وستزيد ارتفاعات الأسعار من الضغوط التضخمية، بعدما سجل معدل التضخم ارتفاعًا بنسبة 10% على أساس سنوي في فبراير الماضي، فيما يتوقع أن يتراوح معدل التضخم إلى نحو 15% خلال الشهر الجاري، وفقًا لما قاله الحسن علي بكر، كبير محللي الاقتصاد في شركة ايفيست للمنصة، فيما توقع آلن سانديب، رئيس البحوث في نعيم، وصول معدلات التضخم إلى ما بين 13 إلى 14% خلال شهر أبريل أو مايو/ آيار المقبلين وفقًا لبلومبرج الشرق.