قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي كان الوسط الأدبي بعض جماعات تتناثر في فرق تأخذ خصوصيتها وأهميتها من ابتعادها أو اقترابها عن المركز/ العاصمة، ولكن غيَّر الوسيط الجديد هذا الشكل، لم تختف الجماعات صحيح، ولكنه وصل بينها، وجعل من المركز وهمًا، وفتح أمام الكتاب بابًا واسعًا للاتصال بشرائح أوسع من القراء.
هذا الأخير هو الثورة الأكبر التي أحدثتها وسائل التواصل في ماهية الجماعة الثقافية، وإعادة بلورتها، وتجاوز الراسخ عنها؛ مثلًا درج الأديب على أنه في حاجة أبدية للاعتراف بموهبته، سواء كان ذلك من شاعر فحل أو حاكم أو صالون أدبي أو جماعة سياسية أو أدبية إلخ. لكن فيسبوك، مثلًا، بما أتاحه أمام الجميع من فرص أكبر للوصول والانتشار، جعل من فكرة الاعتراف مزحة حقيقية.
وفي حين لم يعد ثمة مكان لعراب يمنح الأديب "بركة" الاعتراف، صار لزامًا على عملية تقييم الأعمال الأدبية أن تأخذ شكلًا جديدًا يفترض التفاعل المباشر بين المتلقين لتقييم ما يطلعوا عليه من أعمال، ومن هنا اكتسب جود ريدز الذي أطلق عام 2006، كشبكة للتواصل بين القراء، قيمته التي تتصاعد بشكل مطرد يومًا بعد الآخر، لكن اللافت في تجربة وسائل التواصل الاجتماعي وعلاقتها بالمنتج الإبداعي عمومًا، أنها تظل دائمًا محل تشكيك فيما تمنحه أو تنزعه من قيمة على بعض النصوص، خصوصًا وأن النقد الأدبي بمعناه التحليلي والتنظيري غالبًا ما يكون غائبًا عن هذه التقييمات، التي تخضع لعمليات حسابية وآراء انطباعية في الأغلب تعكس تأثير النص على نفس المتلقي.
فكرة الاعتراف أو الركون إلى جماعة متحققة في مجال ما، هما ابنتان للمجتمع الأبوي الذي خلخلته وسائل التواصل الجديدة، ولكن هل يمكن أن نعتبر جود ريدز، وهو موقع يقوم على تقييم المنتج الإبداعي بالأساس، في سبيله لإزاحة النقد بكل ما يحمله من مرجعية فكرية في التنظير للأدب ومدارسه والتبشير بالفارق منه، بالإضافة إلى كونه معيارًا للقياس والجودة؟
مقرطة الثقافة
يعتبر الروائي شادي لويس أن جود ريدز خلق حالة من "الديمقراطية" التي تتيح لعموم الناس أن يظهروا فيها بدون فلاتر، وليتحول فيها المتلقي السابق على ظهور شبكات التواصل لشخص فاعل يقيم ويعطي الدرجات و يقلب هرم العلاقة بين الكاتب والقارئ ليتحول الكاتب لمتلقٍ ينتظر التقييم، ويتحول المتلقي أيضًا ليأخذ دور الناقد الذي كان مقتصرًا على من يكتبون في المجلات والجرائد أو في الجامعات، وهو ما يحمل بعض الآثار منها الإيجابي كوصول بعض القراء من الفئات المهمشة أو أبناء الأقاليم البعيدة عن العاصمة للمجال العام دون أن يكون لهم علاقات بالوسط الثقافي، وكذلك تحول القراءة لنشاط عام جماعي واجتماعي لا مجرد نشاط فردي.
لكن على العكس منه يرى الروائي والشاعر علاء خالد، أن جود ريدز استبدل بـ"شلل الأصدقاء زمان" مجموعات وشلل وصفحات إلكترونية أخرى "استولت على سلطة النقد الحالية وتقاسمتها فيما بينها". وهو ما نتج عنه "نص نقدي له شكل جمعي، يتكون بتراكم التعليقات المتتالية"، مضيفًا للمنصة أن "الموقع يستعير فكرة التقييم من نظام النقد التقليدي التي تعتمد على رصد وتثمين "الفكرة الجمالية"، أو "الجمال" داخل النصوص، ولكن بعد أن التبست بالمفهوم الاستهلاكي للنقد، أو المفهوم الشعبي غير المتخصص له".
تفرض "الديمقراطية" التي يفترضها لويس في جود ريدز، قبول التباين الواضح في تلقي مستخدميه للنصوص، وهو ما تتفهمه الروائية نورا ناجي، لكنها في الوقت نفسه لا ترى أن "مؤشرات جود ريدز" تحمل قيمة حتمية يجب أن "يتأثر الكاتب بها أكثر من اللازم، لأنه في النهاية يعتمد أيضًا على قراء وليسوا دارسين أو نقاد. والذائقة تختلف".
وتقول للمنصة "هناك روايات رديئة فعلًا، اتفق على رداءتها النقاد أو متذوقي الأدب، لكنها تحقق نجاحًا كبيرًا على جود ريدز. لماذا؟ لأن الذائقة تختلف، ولأن المنصة تجمع الكثير من الأيديولوجيات، بعض القراء ميولهم دينية، وبعضهم متحفظ يغضب لو كان في الرواية أي تلميحات جنسية، وبعضهم يغضب إن لم يكن فيها. يعني الأمر نسبي جدًا لذلك يجب التعامل معه بنفس الطريقة".
وتتذكر ناجي تعليقًا لأحد القراء على روايتها أطياف الكاميليا يشير إلى أن الكاتبة ليست جريئة بما يكفي لأنه لا يوجد إسهاب عن علاقة جنسية بين البطل والبطلة، قائلة "لو كتب سياسي مغضوب عليه رواية دينية للاقت نجاحًا.. والعكس، لو كتبت شخصية محبوبة ومتحفظة رواية فيها تلميحات جنسية لانتهت. نجد مثالًا واضحًا في مراجعات رواية السنجة لأحمد خالد توفيق، الرجل محبوب جدًا وهو بالفعل كان متحفظًا، لكن السنجة فيها تابوهات وألفاظ ومشاهد جنسية لذلك سنجد المراجعات سلبية جدًا".
لكن الروائي والمترجم نائل الطوخي يرحب بالعلاقة المباشرة بين القارئ والكاتب من خلال جود ريدز حتى لو لم يكن ذلك معيارًا للجودة، فمعيارها في رأيه "الزمن"، فلو كان جود ريدز موجودًا في عصر شكسبير لم يكن ليحظى الكاتب الإنجليزي باهتمام كبير، بينما كتاب آخرون كانوا سيحصلون على الاهتمام، وبالمثل كاتب مثل أنيس منصور ملء السمع والبصر منذ سنوات، الآن لا يهتم به سوى القليلين، حسب قوله للمنصة.
وتتفق الروائية والأكاديمية مي التلمساني مع كون جود ريدز مؤشرًا للانتشار لا للجودة، وأن مؤشرات التطبيقات ومواقع التواصل لا تؤثر في قيمة المكتوب، وإنما في مدى انتشاره أو في الحد من الانتشار بقرار من القراء الذين يساهمون في الموقع. مؤكدة مثل لويس أنها "مواقع ديمقراطية بمعنى من المعاني، يساهم فيها كل من له ذائقة أدبية أو ذائقة في القراءة عامة"، لكنها ترى أنها تؤسس في الوقت نفسه "لسلطة القراء على الكتاب والكاتبات، لذا ينبغي أن يتحرر منها هؤلاء لكي يستمروا في الكتابة خاصة لو كان الكتاب والكتابات مناهضون أو مناهضات لأي نوع من أنواع السلطة". حسب تصريحاتها للمنصة.
القارئ كاتبًا
يرى علاء خالد أن هناك فارقًا واضحًا بين مراجعات جود ريدز والنقد الكلاسيكي، فرغم عدم اتباع المراجعات لأسلوب نقدي معين، فإنه يرى نفسه من خلال انعكاس كتابته على حياة القارئ، وكلما نَشَطَّت كتابته لغة للتعبير عن نفس القارئ، يزداد عمق وصلة وقوة هذا المكان المتواصل بين المتلقي وبينه، فيمده هذا النقد، أو التعليق المطول، بدفء المشاركة، وربما هي المتاحة الآن أكثر من الكشف.
ولكن هناك أيضًا من التعليقات ما يعكس رفضًا يصل أحيانًا حد السب العلني، بسبب تفسير "القارئ"، لموقف ما داخل هذا الكتاب، بشكل أخلاقي مباشر، لكن خالد يرى هذه القسوة في التقييم "جزء من أصوله التسويقية للقارئ وللموقع، لأن القارئ هنا لا يستهدف الكاتب، بل يستهدف نفسه أولًا، وسوق القراء على الموقع، ليثمن رأيه، أو يدعو الآخرين لقراءة الكتاب أو العزوف عنه. القارئ هنا أصبح كاتبا دون أن يدري".
غير أن صاحب وجوه سكندرية يرى أن الرأيين المتعاطف والرافض يتحركان بمفهوم شخصي في القراءة، وأن "هذه الشخصنة دليل على غياب الموضوعية التي كان يوفرها النقد قديمًا. فالأدب خرج من تقييم (الجميل)، إلى ساحة أخلاقية / سياسية، أحيانًا تصل لحدود شديدة المباشرة، والتأويل، والسطحية. من هنا خرج منهج التكفير، وخرج أيضًا سؤال بيير بورديو حول لا مسؤولية الأدب، أو لماذا نمنح الأدب هذه الحرية التي لا تمنح لغيره؟".
ويفرق شادي لويس بين آثار جود ريدز الإيجابية في كسر الدائرة المغلقة للوسط الثقافي، وبين آثاره السلبية الناتجة في رأيه عن ضعف المؤسسة النقدية والمتخصصين الذي يفقد عملية التقييم احترافيتها ليتحول التقييم لنشاط جماهيري لا يدل دائمًا على قيمة حقيقية.
وتقول مي التلمساني إن جود ريدز لم يحل محل النقد الكلاسيكي، لكنه أسهم في نشر بعض هذا النقد على نطاق ضيق، مضيفة "نحن بحاجة لكل أنواع النقد الانطباعي والأكاديمي والصحفي.. كل أنواع النقد تسهم في تنشيط الحركة الثقافية والأدبية ومطلوب ألا يطغى نوع على آخر. وسائل التواصل الاجتماعي تمنح سياقًا للنقد الانطباعي وهذا جيد، لكنه ليس كافيًا لتشكيل حركة نقدية ولا لدفع الإنتاج الأدبي إلى الأمام"، مشكلة النقد الانطباعي بحسب صاحبة أكابيللا أنه يؤسس للنجوم ويكرس للكتابة السهلة ويهمش بالتالي الكتابة الطليعية أو الأصوات الجديرة بالمتابعة.
لكن يختلف موقف نائل الطوخي عن زملائه في اعتباره جود ريدز ووسائل التواصل الاجتماعي بديلًا للنقد المكتوب في الصحافة، فالنقد والصحافة في رأيه "مكتومان"، وأغلب النقاد يجاملون و"المحترمون منهم صوتهم غير مسموع أو مقروء"، مؤكدًا أن "الأدب للقراء لا النقاد ولا الجوائز، وهو ما استطاع جود ريدز تحقيقه، من الكُتاب للقراء مباشرة".
الكاتب قارئًا
يتحسس غالبية الكتاب، إذن، مما يعتبرون أنه وسيلة لتهميش الكتابة الجادة في مقابل الرائجة، لكن أليس الكاتب قارئًا في المقام الأول قبل أن يكتب، فكيف يتعامل من منطق التلقي مع ما يتيحه جود ريدز من وسائل لتقييم الأعمال الأدبية؟
يصف علاء خالد علاقته كقارئ بجود ريدز بالضعيفة، فهو لا يتبعه للحصول على الكتب الجديدة، ولكن أحيانًا ما يتوقف أمام بعض الكتب التي يحبها، الحديث منها بالطبع، ويقرأ التعليقات عليها، كنوع مع التفاعل غير الموجود بهذا الكم في الواقع الثقافي، فالموقع يساهم بلا شك في تشكيل جزء من رأي عام نقدي حول الكتب، وبالفعل يجد تعليقات جيدة، مبذول فيها جهد كتابي ونقدي في آن، حسب قوله.
فجود ريدز "مثل السوق الذي يجمع كل شيء"، حسب خالد، الذي يقول "عليك أن تختار وتنتقي منه ما يناسبك، ومن الصعب أن يكون الموقع دليلًا لقارئ محترف، لشدة تباينه في عروضه من الكتب، ربما جود ريدز النسخة الأمريكية الأصلية، تجد به انتقاءً وعدد مراجعات وتعليقات على الكتب فائقة العدد، وربما السبب، أن سوق الكتاب هناك سوق تنافسي، أساسه الجودة، أيًا كان مرجعها، وليس موقعًا متاحًا مثل جود ريدز النسخة المصرية، الذي تفرعت منه عدة نشاطات بغرض التسويق".
ويضيف "المشكلة أن هذه الجمهرة سواء في جود ريدز أو أي مجموعات قراءة للكتب، خلقت تنافسية حول الكتاب، وبالتالي الفكرة/ الرأي الجماعي للقراءة، أصبح في المقدمة عن الكتاب، أو الفرد القارئ. وهو مؤشر غير جيد، كونه يحول فعل القراءة فعلًا شعبويًا".
لكن نورا ناجي تتعامل مع الموقع كسجل لما قرأته، وتستخدم نجومه التقييمية كعلامات تذكرها بموقفها من كتاب ما، لكنها تؤكد "لا أقل أبدًا عن 3 نجمات فتقييم النجوم ده سخيف وعبيط..ساذج يعني.. هو امتحان نعطيه درجة على خمسة؟". كذلك لا يعتمد شادي لويس على الموقع قبل شراء الكتاب ولكن يلجأ إليه بعد اقتنائه للاستفادة من معلومات القراء وخاصة المولعين بكاتب معين، أحيانًا تتخطى معرفتهم النقاد والمحترفين، كأنهم نادي قراء عالمي كما حدث عند قراءته لتعليقات القراء بالإنجليزية حول ديوان لشاعر من تشيلي، وهو شيء لم يكن متاحًا من قبل بهذا الشكل.
غير أن نائل الطوخي يحركه فضول من نوع آخر في تعامله مع جود ريدز، وكأنه يختبر ما طرحه سابقًا من معيارية الزمن في الحكم على النصوص الأدبية، فيستخدم الموقع لاستكشاف رأي الأجيال الجديدة في أعمال سبق وأن أحبها.
أما مي التلمساني فهي لا تعتمد عليه إطلاقًا في التعرف على كتابات الآخرين، فيما لا تزال تفضل قراءة النقد الكلاسيكي في الصحف والمواقع الإخبارية والملاحق الثقافية التي باتت نادرة، حسب قولها، مسترشدة بقراءة حوارات الكُتاب والكاتبات قبل شراء كتاب أو الاطلاع عليه.
تنتمي مي التلمساني وعلاء خالد إلى جيل التسعينيات، فيما ينتمي نائل الطوخي إلى جيل بداية الألفية، ونشرت نورا ناجي وشادي لويس أعمالهما الأبداعية في السنوات العشر الأخيرة، لذا لا يبدو أن اختلافهم أو اتفاقهم يعود لموقف "جيلي" من مواكبة الحداثة أو ارتكان لأنماط أقدم، وإنما يشير إلى أن فعل التطور نفسه يعيد اختبار السائد في صور متعددة في سبيل بلورة مفهوم أكثر اتساعًا من ذي قبل.
قبل وسائل التواصل الاجتماعي كان ثمة من يروج بأن القارئ ابتعد عن الكتاب، أو أنه مات، ومع أفرزته تلك الوسائل اتضح عكس ذلك تمامًا حيث ظهر قارئ جديد يملك معطيات مختلفة لدى تعامله مع النصوص، فربما تسهم تلك الوسائل أيضًا عبر ما تتيحه من تقييم "حسابي" قائم على الذائقة والانطباع الشخصي، في بلورة شكل جديد للنقد، قد يفرض نفسه أو ينهزم ويتجاوزه الزمن.