ظلت مدينة قها، بمحافظة القليوبية المتاخمة للقاهرة، متخصصة في إنتاج الموالح من برتقال ويوسفي (مندرين) وليمون لعقود، يشم القادم إليها رائحة ثمارها من بعد عدة كيلومترات، قبل أن تتقلص إنتاجية أشجارها قبل ثلاثة أعوام، ويبدأ المزارعون في استبدال محاصيل أخرى بها، بعدما عجزوا عن مواجهة إنتاجية الأراضي الجديدة التي تمتلك فرصًا أكبر في التصدير. لكن حتى التصدير نفسه يواجه تحديات عديدة، تهدد مكانة مصر كأول المصدرين للموالح عالميًا.
والحديث عن الموالح في التصدير عادة ما يشير إلى البرتقال، فهو المحصول الأكثر زراعة بين الموالح في مصر بوجه عام، ومن جهة أخرى فإن مصر ليست بالمنافس الشرس في سوق تصدير اليوسفي الذي تسيطر عليه الصين وإسبانيا وتركيا والمغرب.
وخلال الفترة الماضية، رفض العديد من المستوردين شحنات الموالح المصرية، بسبب التغيير المستمر لاشتراطات المطهرات الفطرية والمبيدات الحشرية. ولأن البرتقال رمانة ميزان الصادرات أبدت الحكومة اهتمامًا منقطع النظير بعد احتجاز بعض الشحنات أخيرًا في روسيا، فوزيرة التجارة عقدت اجتماعًا فوريًا مع السفير الروسي بالقاهرة، والخارجية أجرت اتصالات مكثفة بجميع الأطراف الروسية، ووزارة الزراعة تبنت حملةً إعلاميةً للتأكيد على رسالة واحدة "المنتج خال من أي متبقيات للمبيدات أو مواد محظورة".
وتتربع مصر على عرش صادرات البرتقال عالميًا طوال الأعوام الثلاث الماضية بعدما تجاوزت إسبانيا، لكن الاحتفاظ بتلك الصدارة في ظل شراسة أسواق التصدير، مرهون بالقدرة على مواجهة تأثير التغيرات المناخية المتزايد على الزراعة المحلية من جهة، ووضع خطة لمواجهة تراجع إنتاجية الفدان في الأراضي القديمة من جهة أخرى.
وبحسب المجلس التصديري للحاصلات الزراعية، فإن الطقس غير الملائم قلص إنتاجية مزارع الموالح بنسبة 30%، لكن تقريرًا لمكتب وزارة الزراعة الأمريكية بالقاهرة قال إن نسبة التراجع بسبب الطقس 16% بحسب دراسات أكاديمية. ورغم ذلك التراجع، لا تزال مصر تحتل المرتبة الأولى عالمياً في تصدير البرتقال بإجمالي صادرات مليوني طن سنويًا، وفقًا لوزارة التجارة والصناعة.
منافسة شرسة
ينبه رئيس المجلس التصديري للحاصلات الزراعية عبدالحميد الدمرداش، على الخطر الذي يواجه صدارة مصر في الموالح، قائلًا للمنصة إن تراجع إنتاجية البرتقال بنسبة 30% تحدٍّ لا يجب تجاهله بالنظر إلى زيادة إنتاجية إسبانيا في الوقت ذاته بنسبة 20%.
ولا تعد إسبانيا المنافس الوحيد، إذ تبرز تركيا التي تمتلك محاصيل ذات رواج. يقول خبير إنتاج الموالح بمصر وتركيا المهندس محمد إسماعيل، إن المنافسة في الأسواق التصديرية أصبحت شرسة فتركيا تحاول اقتحام أسواق أوروبا، وجنوب إفريقيا تزاحم في الصين، كما بدأت المغرب والجزائر الدخول للتصدير بقوة، لكن حتى الآن لا تزال مصر المصدر الأول لأوروبا وروسيا واليابان.
ويضيف للمنصة أن البرتقال البلدي المصري لا يتسم بمزايا تسويقية جيدة في ظل امتلائه بالبذور، ويتم استبداله بصنف مُحسَن من إنتاج معهد بحوث البساتين يطلق عليه البلدي المحسن، وكذلك الحال بالنسبة للبرتقال السكرى الذي يتسم بانخفاض الحموضة لكنه يعاني المشكلات ذاتها.
وتنتج الشجرة الصحية والناضجة من البرتقال ما بين 200 و350 ثمرة سنويًا حسب حجم الثمرة والنوع، ومع بعض الأنواع تصل إلى 600 ثمرة، لكن بعض التقنيات في إسرائيل وجنوب أوروبا استطاعت رفع إنتاج الشجرة الواحدة كثيرًا عن تلك الأرقام.
من جانبه، يلفت رئيس المجلس التصديري إلى تحديات أخرى تواجه الإنتاج على المدى القصير مثل ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج والشحن الجوي والبحري، والاشتراطات المجحفة التي تضعها بعض الدول العربية على الحاصلات المصرية التي قد تفوق نظيرتها في الدول الأوروبية والتي تصل قيمة الصادرات لها نحو 800 مليون دولار.
وتسببت أسعار الشحن العالمية التي قفزت ما بين 250 و500% عالميا في عبء كبير على محطات التصدير بمصر حاليًا خاصة في ظل ضعف الليرة التركية التي تمنح صادراتها مزايا تنافسية في الأسعار بالخارج، حتى بات الطن المصري يباع في الخارج بسعر يزيد 100 دولار عن بعض الأسواق المنافسة، لكن جودة مذاقه وتنوعه يمنحه جمهورًا واسعًا.
ومن ثم يبدو أن بقاء مصر على عرش البرتقال مرهون بدور الدولة بمراكزها البحثية في استنباط السلالات الجديدة، وزيادة وعي شركات القطاع الخاص صاحب الكلمة في الإنتاج والتسويق بتغير اشتراطات التصدير، بالإضافة إلى دعم المزارع الذي يواجه أزمات الإنتاج والطقس المتغير.
كيف يؤثر تغير المناخ على البرتقال؟
تتداخل التغيرات المناخية مع أزمة الآفات، ومن ثم المبيدات الحشرية في مصر، فمع تغول الصيف والشتاء على فصلي الربيع والخريف، نشطت تهديدات جديدة للموالح مثل خنفساء ملاديرا التي تهاجم البراعم النامية بالأشجار في وقت التزهير، وتعرضها لنقص الإنتاجية خاصة أنها آفة تنشط ليلًا وتتخفى نهارًا في التربة، ولا يمكن ملاحظتها بسهولة من المزارعين. وتضاف تلك الآفة إلى الذبابة البيضاء المشكلة القديمة التي تواجه محاصيل البرتقال؛ لتعدد عوائلها وانتشارها في الشتاء موسم الموالح.
وبسبب أزمة الآفات تراجعت زراعة الموالح في الدلتا، مقارنة بالأراضي المستصلحة حديثًا، إذ يعد مواجهة تلك الآفات في الأخيرة أيسر برش الأرض على مساحات واسعة بالمبيد والقضاء على العدوى، أما في الأراضي القديمة، فعادة ما يزرع الفلاح أكثر من محصول، ومن ثم تعود العدوى سريعا إلى أرضه.
وبمرور الوقت، أصيبت أشجار الموالح بالشيخوخة، حتى وهي من الأشجار المعمرة التي تصل لنصف قرن، وهجر الكثيرون زراعتها، كما في قهقا المدينة التي قُطعت فيها أشجار البرتقال الخضراء لتتحول إلى فحم ينفث نكهته أرباب النرجيلة.
وتصل تكاليف استهلاك مبيدات الآفات الزراعية في مصر لحوالى 3 مليارات جنيه، تعادل 6% من جملة مستلزمات الإنتاج الزراعي، وفقا للجنة مبيدات الآفات الزراعية بوزارة الزراعة. جولة سريعة بمحال المبيدات والأسمدة تكشف عن ارتفاع أسعار المبيدات الحشرية والفطرية والعشبية بنسب تتراوح ما بين 50 و100%، بينما قفزت الأسمدة بنسبة 75% لبعض الأنواع، ما يضع أعباء على زراعته بالنسبة للفلاحين خصوصًا في الدلتا.
ويقول نقيب الفلاحين المصري، حسين أبو صدام للمنصة، إن إنتاجية مصر حاليًا تتركز بالأراضي الجديدة المستصلحة خاصة النوبارية بالصحراء الغربية، بينما الأراضي القديمة شهدت تراجعا بالانتاجية لخروج بعض المزارعين لأسباب تتعلق بارتفاع الأعباء وانخفاض المكاسب.
يؤكد تلك المعلومات أيضًا قسم الموالح بمعهد بحوث البساتين الذي يشير إلى أن المتوسط العام لإنتاجية الفدان من الموالح في الدلتا التي تعتبر من أهم المناطق لإنتاج الموالح بمصر ضعيف مقارنة بالمتوسط العالمي. وهنا يعود محمد إسماعيل للتعليق بأن "متوسط الإنتاج بالدلتا المصرية لا يتجاوز 7 أطنان للفدان، وحاصل بيع تلك الكمية لا يغطي تكلفة أعباء الزراعة من الري والمبيدات والتسميد وتكاليف العمالة، ما دفع البعض إلى تقليع الأشجار".
أما الأراضي الجديدة ومزارع الشركات الكبيرة، بحسب نقيب الفلاحين، فلديها قدرة على التصدير بسعر جيد، على عكس غالبية إنتاج الدلتا من المنتجات الموجهة للسوق المحلية بحجم 2.2 مليون طن تباع بسعر متدنٍ لا يكفي أعباء الإنتاج المتزايدة. وتمثل الموالح 28% من المساحة المزروعة بالفاكهة بمصر طبقا للإحصائيات الرسمية عام 2019 بحوالي 456 ألف فدان مقسمة بين الأراضي الجديدة بنسبة 53%، والأراضي القديمة بنسبة 47%، وبإنتاج كلي يبلغ 4.2 مليون طن.
ويساهم استخدام التكنولوجيا الحديثة في الإنتاج واستخدام العمالة المدربة الماهرة في إنتاج محصول بجودة عالية من حيث حجم ولون الثمار، ما يجعل الأراضي الجديدة خارج الوادي متفوقة في العائد حتى لو كانت التكاليف أعلى، وفقا لمعهد بحوث الاقتصاد الزراعي.
ووجه أخر من الأزمة متعلق تلك المرة بالشركات الكبيرة، أنها تمتلك مزارع خاصة بها للموالح في الأراضي الصحراوية بإنتاجية تواكب اشتراطات التصدير، لكنها لا توفر البيئة المناسبة لبعض الأنواع المفضلة في الخارج مثل أبو سرة واشنجطن، الذي يعطي جودة أفضل في الأراضي الطينبة.
الإرشاد الزراعي
تحتاج زراعة الموالح في مصر إلى اهتمام أكبر بالتصنيع لمواجهة الزيادات في الإنتاج أو منح مرونة للمصدرين للتصرف حال حدوث أزمات، فنسبة تصنيع الموالح بمصر تمثل 3% من حجم الإنتاج الإجمالي، ويستهلك المصريون نحو 46% من إنتاج الموالح طازجة، بينما يتم تصدير نحو 51%، والنسبة المتبقية للتصنيع.
وفي ظل الأزمة المتداخلة في زراعة الموالح، تشير نقابة الفلاحين إلى الدور الذي يجب أن يلعبه الإرشاد الزراعي في توجيه المزارع في التعامل مع الأسمدة والأمراض والحشرات، خاصة أن غيابه تسبب في قطع بعض المزارعين للأشجار الضخمة المحيطة بالمزارع باعتقاد خاطئ أنها تنقل العدوى لثمارهم، ما تسبب في تزايد تأثيرات الرياح خاصة الخماسين.
كما تنتشر تقنيات جديدة للزراعة، لا يتم تعميمها بسبب غياب دور الإرشاد الزراعي كنظام المصاطب العريضة التي ترتفع عن الأرض بقرابة المتر، وتساهم في حل مشكلات رطوبة التربة أو تملحها، والأخيرة مشكلة تواجه الدلتا المصرية بسبب التغيرات المناخية.
ليس البرتقال وحده
يرى خبراء ومختصون أن تعزيز مكانة مصر في سوق تصدير الموالح (البرتقال) عالميا، لا يجب أن يقتصر على مواجهة التهديدات، بل يجب تعزيزه بمحاصيل إضافية، خصوصا اليوسفي. وتجدر الإشارة إلى أن إنتاج مصر من اليوسفي نحو 1.1 مليون طن سنويًا، فيما لا يتعدى حجم تصديرها 70 ألف طن.
ربما يرتبط التراجع في سوق اليوسفي (المندرين) بالخسائر التي يتعرض لها مزارعوه فعلى العكس من البرتقال، لا يجد رواجًا كبيرًا في سوق العصائر، وعمره أقل من البرتقال، وفي موسمي 2010 / 2012 حققت مزارع اليوسفي خسائر في الفدان بلغت 4384 جنيهًا في المتوسط.
ويقول الخبير الزراعي في مصر وتركيا إن متوسط إنتاج البرتقال في مصر لا يتعدى 9.5 طن للفدان بوجه عام (الدلتا والاراضي الجديدة)، ما يتطلب التوسع في استنباط أصناف جديدة تواجه التغيرات المناخية، والتركيز على سوق المندرين الذي تراجعت فيه مصر بشدة وليس البرتقال فقط.