في كتاب القاص والروائي سليمان فياض الشهير كتاب النميمة- نبلاء وأوباش ومساكين، يتحدث عن المجتمع الأدبي/ الثقافي، في القاهرة مابين عقدي الستينيات حتى التسعينيات. يكتب عن الأدباء النبلاء، والأدباء الأوباش، والأدباء المساكين، وهي الفئات الثلاث التي قسم بها أعضاء تلك الجماعة الأدبية التي "ينم" عليها في كتابه.
واضح هنا أن "النميمة" لا تشمل فقط الجانب الخفي السيئ من أعضاء هذه الجماعة، كما هي موسومة به، ولكن أيضًا الجانب المضيء منه، الذي يمنح ذلك العضو الأديب لقب "النبيل". هذا الجانب الأخلاقي، في الحكم والتفريق بين الصفات الثلاث، كما سيتضح، هو المحرك الأساسي للكتابة، الذي يبني عليه سليمان فياض، حكاياته، ويكوِّن زاوية نظره.
كتاب النميمة
يرسم سليمان فياض في كتاب النميمة، بورتريهات لمجايليه من الذين عاصرهم. يبحث في كل منهم عن مكان الانكسار، السقوط، التحول، وتتبع مساره.
"الانكسار"، يمكن أن يكون نقطة جامعة بين النبلاء والأوباش والمساكين، حسب مساره وعلاقته بالسلطة السياسية، قد يمنح البعض هذا الانكسار صفة النبيل الدونكيشوتي، أو صفة "الوبش" لآخر.
نلحظ أن هناك حس جمعي، من طرف تلك الجماعة، في طريقة الحكم والإدانة على أحد أعضائها، لو ثبت أن هناك شبهة تواطؤ منه مع السلطة السياسية، التي تعتبر هذه الجماعة نفسها خارجة عنها، أو أنها وجدت لتقاومها على طول الخط، أي هناك حكم أخلاقي جاهز وكامن في البنية النفسية لتكوين هذه الجماعة، وفي طريقة نظرتها لنفسها.
***
يهاجم سليمان فياض سلوك تلك الجماعة / الشللية، ولكن بعد فوات الأوان، في موقفها الشهير من الشاعر صلاح عبد الصبور، عندما تولى رئاسة تحرير مجلة الكاتب، وهو ما اعتبره المثقفون، بجانب تطبيعه مع الكيان الصهيوني عند رئاسته لهيئة الكتاب واستضافة جناح إسرائيل به رغمًا عنه؛ سلوكًا متواطئًا مع السلطة السياسية آنذاك، فشنوا حملة مقاطعة لمنع الكُتَّاب من المشاركة في الكتابة للمجلة.
يحكي سليمان فياض أن صلاح عبد الصبور أرسل له الدكتور عبد الغفار مكاوي ليقنعه بالكتابة للمجلة، ولكنه رفض رفضًا باتًا، بعد ثلاث ساعات من المحايلة عليه، وهو الذي كان صديقًا شخصيًا لصلاح عبد الصبور، كان وقتها ناسيًا، كما يذكر في كتابه، كيف يتكون رأي المثقفين، أو الجماعة الأدبية، ولكنه تذكر بعد مرور ثلاثة عقود على الواقعة، عند كتابة هذا الكتاب في التسعينيات.
يقول في صـ105 من طبعة الكتاب الصادرة عن ميريت "ونسيت أن مواقف المثقفين، في كثير من من الأحيان، هي مواقف شخصية، شللية في حقيقتها، وأكثرها كان يتقرر حول مناضد مقهى ريش، بزعامة عمدة الأدب إبراهيم منصور، وليست مواقف ثقافية ترعى دائمًا المصلحة العامة، للثقافة والمثقفين، ويتوزعها الحب لهذا والكره لذاك، وتسيطر عليها هنا وهناك مواقف السياسة، بين اليسار واليمين".
***
كان الضمير الأخلاقي/ السياسي يحكم علاقات الجماعة الثقافية بنفسها، وبمن حولها. روابط الشللية، بتكوينها الجمعي والعشائري، كانت جزءًا من تكوين هذا الضمير، الذي عادة ما يُستنفر في مواجهته مع السلطة السياسية، ربما لأن ليس هناك مواجهات أخرى تمنحه هذه النظرة النقية لنفسه، تتجمع كل المواجهات حول الضمير السياسي، الذي يمارس سلطته حتى في المسائل الأدبية النوعية، وهو بطبيعته متقلب، وخادع.
***
تتعامل الجماعة الثقافية، مع أعضائها، كأنها حزب سياسي هامشي، جذري. الضمير السياسي، مهما كانت مصداقيته، لا يستمد إيمانه من ذاته، ولكن من إيمان الجموع. لذا فهذه المشكلة/ الأزمة، في تكوين هذا "الضمير الشِللي"، ليست مشكلة مثقفين، أو مشكلة شللية فقط، فمنبت هذا الضمير كامن في جسم المجتمع نفسه، فهو جزء من تكوين نفسي يتجلى في أماكن متعددة، ومنها جماعة المثقفين، ربما بسبب غياب مفهوم الفردية، أو بسبب غياب العلاقة الواضحة والعادلة بين الفرد والجماعة.
***
سليمان فياض نفسه، بالرغم من انتقاده لهذا "الضمير الشللي"، لكنه يرجع ويحكم به.
رغم انتقاده للفكرة الشللية، تلحظ حضور ضمير جمعي يكتب بلسانه. فتجربته الشخصية، بأزماتها الوجودية، أو النوعية، حاضرة على الهامش، وليست في متن كتاب النميمة. لذا يحتل الضمير الجمعي جوهر الكتاب، الذي يمثل سليمان فياض الجزء النبيل منه. علاقته بالآخر/ الكاتب، الذي يكتب عنه، ليست متعددة الأوجه، تبنى على خيط واحد، وإن كانت عميقة، لذا هناك ترقب دائم أثناء القراءة للحظة سقوط، انكسار، أو انبعاث، أو تحول، هذا الكاتب، أي كان من هو سواء كان من النبلاء أو الأوباش أو المساكين.
ربما سبب هذا الترقب، ليس فقط الحس الجمعي لأسلوب الكتاب، ولكن الحس الروائي/ الدرامي الذي يكتب به سليمان فياض، فهو في هذا الكتاب يبحث عن دراما، أحادية الجانب، في شخصياته. "الآخر" الذي يكتب عنه، ويتم عليه، بالإيجاب أو السلب؛ لا يحضر كفرد، ولكن يحضر في سياق جماعة ثقافية، سواء كان من النبلاء أو الأوباش أو المساكين.
***
هناك حميمية روائية في رصد سليمان فياض لنماذجه المختارة في الكتاب. في المقابل وفي زمن آخر، وجغرافيا أخرى، كانت كتابة إرنست هيمنجواي في كتابه وليمة متنقلة - باريس في عيد، الذي كتبه عن فترة إقامته في باريس ما بين ( 1921 – 1926 ) عن بعض الكتاب الذين كانوا يتقاسمون معه فضاءها؛ مختلفة تمامًا.
في هذا الكتاب تفتقد كتابة هيمنجواي لهذه الحميمية مع نماذجه التي اختارها من الروائيين والشعراء، مثل الروائي الأمريكي سكوت فيتزجرالد، الشاعر إزرا باوند، الروائية الأمريكية جرتوود شتاين، الروائي الأيرلندي جميس جويس، الروائي السويسري بليز ساندرار، وغيرهم.
تلحظ علاقة ندية مباشرة بينه وبين كل منهم على حدة، ليس فيها تعاطف، وليس هناك حضور للمجتمع أو للجماعة الثقافية، داخلها، إلا فيما ندر. فالفردية بكل مميزاتها وعيوبها، هي التي تحكم العلاقات، أمام سوق مفتوح تمامًا، يمس، أو يضغط عليها أحيانًا، ولكن بدون أن تتحول إلى كتلة جماعة. فهمينجواي كان مشغولًا، أولًا بمشروعه الأدبي، وبالكتابة بشكل عام، كونها منبت الوجود، والميلاد الجديد له ضد استغلال المجتمع أو "النظام الرأسمالي" بمفهومه الشامل.
وليمة متنقلة
في لحظة كاشفة في باريس مابين الحربين كان هناك نموذج آخر للجماعة الثقافية/ الأدبية. كانت باريس نقطة تجمع العديد من الأدباء والرسامين، ولكن هذه الجماعة ظلت مجازية، ليس بينها تلك الروابط العاطفية مثل الجماعة المصرية في الخمسينيات والستينيات، لا تلتقي ببعضها إلا قليلًا، أغلبها عبر علاقات ثنائية، مع عدم دخول مفهوم الصداقة والرفقة، خلال تلك العلاقات، إلا نادرًا، ربما الوصف الذي ينطبق عليهم "زملاء المهنة الواحدة"، فالعاطفة التي يتم بها تسيير العلاقات تنبع من ذاتية كل فرد على حدة، وليس هناك غطاء عام يجمع فرد بآخر، سوى العلاقة بمهنة الكتابة، وربما أيضًا الغيرة والتنافس، وهي سمة من سمات الفردية والجماعية معًا.
وسط هذه الجماعة المجازية، تتناثر الآراء الحادة، لا قداسة لكاتب، مهما كان، عندما تقرأ نقد الروائية الأمريكية جرتوود شتاين لأسماء كبيرة معاصرة لها من هؤلاء، كما كانت تحكي لهيمنجواي، ولكنها كانت تقف باحترام وإعجاب أمام موهبة هيمنجواي، وهذه الموهبة كانت الدافع لأن تمنحه صداقتها، وتسمح له بالتردد على بيتها طوال سنوات باريس.
ربما لا تسمى "صداقة" بالمعنى العام، ولكن "صداقة قلم"، لاأكثر، لاتقف على وجه معين، أو رأي واحد، كونها تتحرك في مجال متعدد الاتجاهات، لا يتم حصرها في تقارب أو تباعد، حب أو كره، مع الآخر/ الكاتب.
***
فكرة رصد "الآخر" دراميًا، بالسقوط، أو الانكسار، أو التحول، لا وجود لها في كتابة هيمنجواي، ليس هناك حكم أخلاقي على "الآخر". خلال علاقته بكل من الكاتبة جرتوود شتاين، وسكوت فيتزجرالد، اللذين أفرد لهما أكثر من فصل في الكتاب، لم تتعثر في كل تحولاتها وتقلباتها، على أي حكم على هذا "الآخر"، كأن هذا الحكم شيء لم يتكون، أو مازال قيد التجربة. هناك "نسبية" في الحديث عنهما، وحتى في أشد المواقف الحادة التي تصدر منهما تجاهه، تجد عنده خط رجعة، حتى لا يصاب بكراهية أي منهما، ويفك اشتباك العلاقة سريعًا، ويبتعد.
ربما أولوية الكتابة الجيدة التي يعترف بها هيمنجواي لكليهما، يجعله يؤجل دائمًا الحكم، ويرى النقائص داخل مجال واسع. يصف هيمنجواي جرتوود شتاين بالكاتبة الطموحة، "وأن العلاقة الحميمة لا يمكن أن تستمر مع النساء الكاتبات الطموحات جدًا".
***
في وليمة متنقلة، يأتي الحديث عن الجماعة الأدبية، على هامش تجربة وجودية يعيشها الكاتب في باريس، هدفها أن يثبَّت أركان هذا الكيان الذي اسمه "الكتابة"، وأن يتحرى الصدق فيه، والنظر للكتَّاب الآخرين وكتابتهم، كجزء من بناء وحقيقة ذلك البناء وذلك الصدق، أو منافيًا لهما، فهيمنجواي عندما يكتب، ترى تلك المسافة التي يضعها مع الأشياء والآخرين، هو غير متورط،، كونه مشغول بحياته وبكفاحه الشخصي في الكتابة والعيش.
وأيضًا تلحظ رغبته في تجويد صنعته، عبر تشريح دقيق، ليس به ذاتية، للأساليب الأدبية لـ "زملاء المهنة"، لاكتشاف أسرار الصنعة عند كل منهم، كحديثه مثلًا عن كتابة جرتوودد شتاين، الذي شغلت جزءًا جوهريًا في الكتاب، بالإضافة لوجود جانب في الكتاب يتصل باقتصاديات الكتب، فالكتابة والنشر والدعاية كانت صنعة مكتملة في أوروبا وأمريكا الثلاثينيات، فالكاتب، ابن آلة كبيرة تدور من حوله.
***
أثناء القراءة تشعر أن هيمنجواي عامل في مصنع أدبي ضخم، غير مرئي، به العديد من العمال، ولكنهم غير مرئيين لبعضهم البعض، غير أنهم يقفون جميعًا تحت هذا المصنع. فهؤلاء الذين عاشوا في باريس في تلك الفترة يمكن أن يطلق عليهم "جماعة أدبية" بالمعنى الواسع للكلمة، كونهم عاشوا تحت سقف باريس في اللحظة نفسها. لاشك أن تكونت "جماعة مجازية"، من هؤلاء الكتاب، ولكنهم فرادى في النهاية، ليست هناك شللية لها روابط عاطفية، فالفرد وقداستة، كانا أقوى من مفهوم الجماعة، لهذا "الجيل الضائع"، كما يطلق عليه هيمنجواي، مابين الحربين، فهذه الفردية المتأرجحة، ليس أمامها حاجز لتقف أمامه، لذا أحيانًا ما تطفو بعض الأحكام القاسية،على بعضهم البعض، فالكل يجري في مضمار وجودي، حتى وإن لم يروا بعضهم البعض.
الكتاب، لا يدور حول باريس، أو مفهوم "الجماعة الأدبية"، بل يدور حول الحياة وفي القلب منها الكتابة، ونظرة هيمنجواي لها، وقلقه الوجودي وشكه في جودة كتابته، وخوفه أن تتوقف دوافعها عنده، والظروف التي يحب أن يهيئها للكتابة لاستمرارها، وعلاقتها المباشرة بحياته، بحيث يطغى حضورها على حياته الشخصية، هي في الأمام وهو يقف وراءها.
***
تشكل "الكتابة"، كشيء مقدس، والكتَّاب الأخرون، الذين يتحدث عنهم هيمنجواي؛ المجتمع بالنسبة له ولغيره من الكتاب، لايحول، ولايقف، بين أعضائه، مجتمع أخر، أو سلطة أخرى، بعكس مجتمع كتاب النميمة، الذي يكتب عنه سليمان فياض، ستجد مجتمعًا آخر ذا وطأة وسلطة يقف بين الأدباء بعضهم البعض كسلطة، أو كرقيب، أوكحكم.
ما معنى " الكاتب السكندري"؟
أحيانًا كثيرة ما كان يطلق عليَّ أحدهم، من خارج الإسكندرية، عند تعريفي أو الكتابة عني، "الكاتب السكندري". لا أقف كثيرًا أمام التعريف، ولكن أرى فيه تمييزًا جغرافيًا، حتى ولو لم يقصده صاحبه.
منذ بداية علاقتي بالكتابة، أتخذ مسافة من "الجماعة الثقافية"، التي تقيم في القاهرة، ولم يغير من مركزيتها العالم الافتراضي الحالي، متعدد المراكز، أشعر بأني هذا الابن المسافر، أو الغائب، عن العائلة. لا ينتقل المركز معك، في السفر، ولكن ينتقل معك إحساس الغائب، الذي يعيد إنتاج المركز والجماعة، بصورة غير حقيقية أحيانًا.
***
مع عصر الثقافة الجماهيرية وتحويل الثقافة لنشاط عام كمي، أكثر منه نوعي، كان الأدباء من خارج القاهرة يسمون بأدباء الأقاليم، أيًا كان بُعد أو قرب هذا الإقليم، فالثقافة لا تتحمل أكثر من مركز واحد، كون السيطرة جزء من أدواتها. وربما هذه السيطرة تعيد المفهوم الهيراركي، أو الأبوي العاطفي السلطوي، ولكن بشكله الجغرافي.
***
رغم أن الثقافة تطرح وتؤكد دومًا على مفهوم الفردية، وليس الجماعية، فالجماعة الثقافية تقوم على القرابة الفكرية وليست المادية، الروابط العاطفية بين أفراد هذه الجماعة ، منذ كتاب النميمة وحتى الآن، أقوى بكثير من الروابط الفكرية المحايدة. فالجماعات الفكرية، التي تكونت عبر تاريخ الكتابة، وفي أصدق تجلياتها، أنها كانت نوع من التبدي الشبحي الذي سرعان ما يزول أثره وماديته، وتحل مكانه تلك الذات الثقافية الشبحية للكاتب، التي تمثل الفردية في تجليها الجمعي، التي تذوِّب معها كل حدود جغرافية أو طبقية، ولكن ممارسات الجماعة الثقافية المصرية، على سبيل المثال، أعادت هذه الحدود، بقصد وبدون قصد، كونها تمثل المركز الثقافي، وربما اضطرها لهذا الدور السياسي المنوط بها أن تلعبه، كجماعة ثقافية مركزية.
***
عندما تفقد هذه "الجماعة الأدبية" أحد أفرادها، وهي لحظة ذروة لتبلْور صورة سالبة لها؛ سرعان ما تتجمع الصورة الموجبة داخل سرادق العزاء، يصبح الجميع جزءًا من عائلة الفقيد، الكل يشعر بتهديد الفقد الذاتي، بفجيعة تتعدى الفقد لفكر صاحبها، أو لتوقف ديمومة هذا الفكر، ولكنها تسربت إلى ما هو شخصي وذاتي، كجزء من هذه الجماعة الثقافية، ربما لا تلحظ أقارب الفقيد بل أصحابه، أبناء الجماعة الثقافية الواحدة، تتلقى العزاء.
في إحدى العزاءات، قال لي أحد كبار هذه الجماعة الذين يقفون في الصفوف الأولى، بصدق تام "البقية في حياتك"، استغربت الجملة، فهو بهذا يضمني للجماعة الكبيرة، أو عائلة الفقيد، مع أني، أقف بعيدًا، جغرافيًا، ونفسيًا.
***
ربما السوشيال ميديا لها الغلبة الآن في تأكيد قوة هذه الجماعة الثقافية الشبحية، ولكن مع توسعها حجمًا، وتعدد مراكزها، وطريقتها الشعبوية في صياغة الفردية. تعيش تلك الجماعات الثقافية الآن خارج المجتمع الواقعي، بالرغم من أنها المفترض أن تكون ناتجًا عنه، وستظل ممثلة لإشكالاته البنيوية، ولكن اختفى المجتمع وساح، داخل هذه الأعداد الكثيفة والمتنوعة، والمتعددة الاتجاهات داخل السوشيال ميديا، هناك جموع، وليس هناك "مجتمع" أو "آخر"، تتوجه إليه ذات الكاتب، عضو هذه الجماعة الشبحية، وهذه الجموع تشترك في صياغة هذه الذات، بالرغم من أن العلاقة بها مؤقتة، فليس هناك وقت لعقد علاقة عميقة.
***
بالتأكيد كان هناك حلم قديم بأن يكون لكل منا، كمثقفين وكتاب، عائلة جديدة، ليس بعلاقات القرابة والدم، ولكن بعلاقات الفكر، التي تحفظ حدود الفرد، وتلغي الهيراركية والعواطف العائلية، وترسخ لمساواة ما، ولكن ماحدث أن تكونت العلاقات الجديدة للجماعة الثقافية، الافتراضية، بقائمة العلاقات القديمة، ففكرة الكتلة الجماعية هي الأبقى، حتى لو كانت الجماعة متمثلة في فرد واحد يحمل، أو يرمز، لجماعة ما. كأن محاولة الخروج من العائلة أجهضت، لأنها اكتسبت كل آليات عمل العائلة، من التذويب الجماعي للفرد وابتلاعه، وأيضًا لأن هناك مجتمعًا غائبًا، فلا يمكن أن يوجد من يعيد الاتزان العادل للعلاقة بين الفرد وجماعته، تجد أن الاحتماء بجماعة، ولو افتراضية، أفضل من اللاشيء، بكل عيوب الاحتماء، ضعفت مع الوقت فكرة الفردية وربما استبدلت بها نزعات ذاتية في التحقق.
صلاح عبد الصبور مرة أخرى
أعود لواقعة وفاة الشاعر صلاح عبد الصبور عام 1981، التي قيل إن سببها أحد أعضاء الجماعة الثقافية آنذاك، وهو الرسام بهجت عثمان، بهجومه الحاد على صلاح عبد الصبور واتهامه بأنه "باع القضية".
كان اللقاء في بيت الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، بمناسبة عيد ميلاد ابنته. كان صلاح عبد الصبور مدعوًا مع أعضاء هذه الجماعة الثقافية، المختلفة معه. ذهب الجميع، ولم يقاطعوا الدعوة، كما قاطعوا مثلًا الكتابة في مجلة الكاتب، ربما لأن هناك عشمًا إنسانيًا يجمعهم. لم يرضوا قطع التعامل مع صلاح، ولكن ظلت المشاعر الدفينة حاضرة وجاهزة لأن تخرج في أي وقت، وهو ما حدث.
ظلت لعبة القط والفار، لا تنفصم هذه العلاقات الفكرية بهدوء، أو قطيعة، فهناك عقدة مزدوجة تمنع الانفصام إلا بالدم، أو الموت، فرابطة الدم جزء من روابطها الخفية، وهذا جزء من طبيعتها النفسية العشائرية، لأن لها مكان خفي تلبيه، ولم يلبه المجتمع أو الذات نفسها، فتتماهى هذه الذات، عضوة هذه الجماعة، مع الآخر، نفسيًا، وتحمله مسؤولية النجاة، أو السقوط أو الانكسار، إنها نسخة جديدة ومعقدة من علاقات العائلة الواحدة.