في العقدين الأخيرين، تضاعف زمن الحنين لـ"صورة الإسكندرية" التي تعود للنصف الأول من القرن العشرين، ولمصر عامة، بعد أن خرجت للنور خبيئة الصور التي تنتمي لتلك الفترة.
ربما يرجع السبب في هذا التطرف الحنيني، للتحول الكبير الذي حدث في حياة المجتمع وعمارته وشوارعه وحياته اليومية. بجانب مساهمة وسائل التواصل الاجتماعي في نشر هذه الخبيئة، والترويج لها على مستوى واسع، مُشكّلًا ثنائية الذكريات والحنين، معًا، والتي طالت الماضي في كل جنباته، لأنه أحد أهدافها، بوصفها أرشيفًا جديدًا للحياة اليومية. صار لنا جميعا ماضٍ من الصور، نبحث عنه ونتوق إليه، أو نكرهه ونتجنب النظر إليه. تحولت هذه الصور إلى مخزن للحنين المكبوت، وأحيانا للنقمة والغضب من الحاضر. بالطبع كان يمكن أن يضيع أو يتوارى هذا الحنين، أو بمعنى أدق أن يمر بدون أن يثير الانتباه كجزء من مشاعر طبيعية.
الماضي في الغرب ليس له هذه القوة المولِّدة للحنين، كونه لا يُترَك للأفراد كي يتعاملوا معه باستجاباتهم الذاتية فقط، بل يَعبُر من خلال قراءات ودراسات نقدية، تُغيِّر من طبيعته الحزينة.
عندما قرأت كتاب طفولة برلينية في مطلع القرن العشرين، لفالتر بنيامين، من ترجمة الصديق أحمد فاروق، والذي يحكي فيه عن طفولته البرلينية، ظهر الماضي مجردًا من أي صورة حزينة. بالطبع هناك مفارقة ما، وحزن ما، يتخلل طفولة فالتر بنيامين، ولكنه حزن مصفى ومعاد معالجته، أو بمعنى ما، ماضٍ محايد، ذاتي وموضوعي في آن.
أما في الشرق، ربما الماضي لا يزال مادة خام، ومنفصلًا عن الحاضر بالرغم من قوة تأثيره. يَعبُر خلال الذاكرة الشخصية لصاحبه دون أدوات نقدية لقراءته، فيصبح إحدى نقاط تعلقه بالهوية بسبب ما يثيره في النفس من مشاعر أصيلة.
لو لم يحدث هذا التحول الكبير، بين الماضي والحاضر في حياتنا، لو لم يحدث نشر هذه الخبيئة من الصور، واكتشاف وسائل التواصل الاجتماعي؛ لدخل هذا الشكل من "الماضي" في سبات تام، أو ربما كان ليصبح مُحتكرًا لدى فئة محدودة من هواة جمع الصور والرسائل، والألبومات. لو ظلت هذه الصور في الأدراج، أو تم حرقها، بدافع قتل الماضي، كما يُقتل الأب فرويديًا، أو بيعت لتاجر روبابكيا أو مقتنيات قديمة، لايفهم قيمة مايحمله من ذاكرة.
لو حدث هذا؛ لضاعت علينا فترة معلقة في حياتنا وظلت دون عنوان.
المفارقة، أن جزءًا كبيرًا من هذه الصور، التي تجسد الإسكندرية بداية القرن العشرين، يبرهن ظهورها في الأسواق والمنصات، على تخلٍ عن هذا الماضي من الجيل الأحدث، بعد موت الجيل الذي كان حاضرًا في الصور. فقد تم التفريط في هذه الصور، ومنها انتقلت لوسائل التواصل الاجتماعي، ولسوق عالمي يهتم بهذا النوع من التوثيق. فعل التخلي عن الصور والألبومات أنتج سلطة جماعية أعادت النظر للماضي بشيء من التبجيل أو الغضب.
شوفينية سكندرية
يتندر كثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي، من وجود "شوفينية سكندرية"، والتي أعتقد أنها مفتعلة، وصورة من صور التلاعب بالماضي، الذي سببته وسائل التواصل الاجتماعي، فظهور هذه الشوفينية كان متواقتًا مع اكتشاف وسائل التواصل الاجتماعي لهذه الخبيئة. وربما ساعد أيضًا على تأكيدها ظهور فريق آخر من السكندريين، يتعامل مع المدينة بتعال ربما يخفي دونية تجاه مراكز أخرى، وكأنها أحد تجليات سلطة الأب الذي يجب قتله، لنرضى عن حيادنا، وموضوعيتنا.
ربما المدينة نفسها ليست هذا أو ذاك، وهناك دورة حياة وعواطف خاطئة لابد من أن نمر بها، حتى نصل لعلاقة محايدة مع الماضي، بها شحنة عاطفية، ولكنها ليست بهذه الحدة الشخصية كما يحدث الآن. فالماضي لم يوجد ليصنع هوية الخلاص، بل هو جزء من حاضر مستمر ومتجدد باستمرار.
شوفينية أورهان باموق لإسطنبول
إسطنبول مدينة الروائي التركي أورهان باموق، الحائز على نوبل، لها أيضا ذكرياتها، وصورها وفردوسها المفقود، الذي كتب عنه باموق في كتابه الموسوعي إسطنبول الذكريات والمدينة. في الكتاب يعود باموق للماضي، ليس عن طريق الصور الفوتوغرافية لنهايات وبدايات القرن العشرين، بل لرسومات الرحالة والمستشرقين الأجانب، الذين زاروا إسطنبول العثمانية، في القرن التاسع عشر، ومنهم الرسام الألماني أنتوني إجناس ميلينج الذي نشر كتابا عام 1819عن المدينة بعنوان رحلة رائعة في القسطنطينية وعلى ضفاف البسفور، يضم العديد من لوحات الحفر التي رسمها أثناء زيارته.
يكتب باموق عن رؤيته لمدينته العثمانية وهي في كامل مجدها، ثم بعد زوال هذا المجد. فقد كان جيله، ولد عام 1952، من المهتمين بالأدب والفن؛ يخضعون أيضا لشوفينية إسطنبولية لهذا الماضي كما يقول في كتابه. كانت نقوش هذا الرسام تُشبع جزءًا من هذه الشوفينية.
يكتب باموق في الصفحة 85 من الكتاب الذي ترجمته الدكتورة أماني توما، وعبد المقصود عبد الكريم "ولكنني أدرك حين تتبدل مشاعري، أن مايجعل لوحات ميلينح بهذا الجمال هو المعرفة التعيسة بأن ماتصوره لم يعد موجودًا. ربما أنظر إلى هذه اللوحات بدقة لأنها تتعسني".
وفي صفحة الـ92 من الكتاب نفسه، يقول إنه يعيش في "فردوس" داخل هذه الصورة سرعان مايخرج منه لحياته العادية "أشعر بنوع من النشوة وأنا أتصفح كتابه، ألاحظ هنا حيث تمتزج السوداوية بالبهجة، استمرارية بعض التفاصيل التي لا يميزها إلا الذين يعرفون البسفور معرفة حقيقية، وحدث التأثير في الاتجاه الآخر أيضا، حين أترك هذه الجنة المفقودة، لأدخل حياتي الحالية مرة أخرى". هذان القطبان من المشاعر:؛البهجة بدخول الفردوس، والسوداوية والحزن للخروج منه، نفس المشاعر التي يمر بها محبو الصور القديمة للإسكندرية .
في روايته متحف البراءة التي تدور أحداثها في إسطنبول، يحول باموق رموز وأشياء وعادات الماضي، إلى صور مكتوبة، ليضعها في متحف روايته. في كل كتابات باموق ومواقفه السياسية نلمح هذا الجانب النقدي الذي يوجهه لمدينته وللسياسات التركية، بشكل عام.
هذا الجانب الذي يسمح فيه للآخر، الغربي، بانتقاد "صورة تركيا"، ومنها اعترافه بمذابح الأرمن على سبيل المثال. هذا هو المنهج الذي يرى به باموق الماضي، خليط بين عواطف شخصية تعيش داخل سياق إنساني وسياسي واجتماعي أكبر. لذا لم يبحث باموق عن الحضور الاستشراقي في صور الرسام الألماني ميلينج، ليقوم بالرد عليها، ولكن بحث عن مجتمه الغائب وفردوسه المفقود داخلها، الذي ينفعل معه، ويرفضه في آن، لأنه لم يجد صورا أخرى توثق لهذا الماضي، وأيضا لأن الصور كانت تشبع شيئا في نفسه.
المصور الأجنبي في المدينة
في الكروت بوستال لصور الإسكندرية القديمة، التي استخدم مصوروها في الأغلب منظور عين الطائر؛ ستصادف شخصًا في الصورة يوجه نظره إليك من الناحية الأخرى، من عمق داخل هذا الإطار الذي انحبس فيه الزمن؛ يريد أن ينعتق منه ويتحرر، كأنه ينتظر نظرتك الحالية ليدخل زمنك، الذي كان يمثل له المستقبل لحظة التقاط الصورة. اكتشف التصوير الفوتوغرافي، هذا البعد اللامرئي الجديد في الصورة المسطحة، الذي يمثل الزمن، وهو بشكل ما، إعادة تمثيل للبعد الثالث في اللوحات المرسومة.
أفكر دائمًا في هذا "المصور الأجنبي" الذي التقط هذه الصور الحية وسط شوارع الإسكندرية وحركة مواطني المدينة، ربما كان يستغرق وقتًا طويلًا لضبط المشهد والإضاءة المناسبة. بالتأكيد كان مرئيًا بالنسبة لمن يقوم بتصويرهم، فكان يمنح الناس الفرصة وسط حركة الشارع لكي يختلسوا تلك اللحظة ويوجهون عيونهم إلى الكاميرا، أو في عينه التي تختفي وراء العدسة. لولا هذه النظرة لفقدت الصورة بعدها الثالث الذي منحها الخلود. مات هؤلاء الناس، ومات المصور، وبقيت النظرتان خالدتين وشاخصتين ينتظران من ينظر إليهما ليعيد لهما الحياة.
ربما هذه الصورة التي التقطها هذا "المصور الأجنبي"، في بدايات القرن العشرين، لم تكن عفوية، صنعتها اللحظة فقط؛ وإنما وراءها "صورة مسبقة" في مخيلة هذا المصوِّر يريد أن يرى بها هذا "الآخر".
مع وصول الحملة الفرنسية لمصر، 1798، بدأت هذه الصورة للآخر، في الظهور، سواء بالكتابة، أو بالرسم. كما فعل جراتيان لوبير وهو مهندس شاب وضابط في البحرية الفرنسية، وأحد أعضاء الحملة على مصر. قرأت كتابه عن الإسكندرية وإقليم مريوط، الذي كان أحد عناوين موسوعة وصف مصر، التي كتبها علماء ومهندسو الحملة، وترجمها المترجم صاحب المشروع الوطني زهير الشايب، الذي وصف جراتيان لوبير في مقدمة كتابه "إن نظرته للأمور، يشوبها في بعض الأحيان، نوع من التعالي والتعصب". وهذا التعصب لا شك سبب في إنتاج صورة غير محايدة، لهذا الآخر.
كان جراتيان يتمتع بدقة شديدة في وصف كل مايراه، ويحوله إلى أطوال ومقاييس، كأنه يعيد رسم صورة للمكان بالكتابة. أيضًا كان يقوم برسم بعض المعالم الدالة التي يكتشفها في طريقه. اهتم علماء الحملة بالآثار والتاريخ، فداخل هذا التاريخ القديم كانت تتكون هذه الصورة الحديثة في ذلك الوقت. لم ينس جراتيان لوبير بالطبع أن يضمن صورته عن مصر، والإسكندرية، البعد الثالث المتمثل في الزمن، فسرد في كتابه تاريخ المدينة بدقة بداية من ولادتها. وربما أثَّر هذا المنهج في الروائي الإنجليزي إي إم فورستر، صاحب رواية الطريق إلى الهند الذي جاء زائرا للمدينة أثناء الحرب العالمية الاولى، وربما استعار هذا المنهج في كتابه عن المدينة الإسكندرية تاريخ ودليل.
بعد الحملة الفرنسية بحوالي نصف قرن ظهرت صور جديدة، مثل كتاب فلوبير في مصر، 1849، الذي يصف رحلة الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير لمصر، عبر رسائله لأمه، والتي تعكس الكثير من الصور المتخيلة، والتي أثرت بدورها على نظرة الغرب إلى هذا الشرق الغرائبي، كما شرح إدوار سعيد في كتابه الاستشراق. وللمفارقة أن في رحلة فلوبير، كانت تتكون صورة أخرى مادية، بواسطة صديقه المصور والكاتب مكسيم دو كامب، الذي صحبه في رحلته إلى مصر، وقام بتصوير أوائل الصورعن هذا الشرق "الغرائبي".
صور المخيلة للإسكندرية والقاهرة
كانت عين المصور الأجنبي، التي وثقت لإسكندرية النصف الأول من القرن العشرين تبحث أيضًا عن أحد العناصر الخالدة والدالة في المدينة التي تحكي وتفسر تاريخها؛ كتمثال محمد علي باشا في ميدان المنشية أو البورصة، أو الحديقة الفرنسية، قسم باب شرقي، مسجد العطارين، شارع البوستة، ميدان الخرطوم، فندق وندسور، الكورنيش، فندق سان استيفانو، مسرح زيزينيا، محطة مصر، شارع فؤاد. بشكل ما كان هذا المصور يقوم بالتركيز على المدينة الكوزموبوليتانية التي يتحرك في جنباتها الأجانب، ولم يتم الالتفات للأماكن الشعبية، عكس القاهرة، إلا نادرًا، ربما في وجود رمز أثري/ تاريخي، في خلفية الصورة، مثل عمود السواري.
هناك نقطة في صالح هذه النظرة، أن هذا الجانب الآخر من المجتمع الذى يشغله المصريون البسطاء وحياتهم في الإسكندرية، لم يكن موجودًا في مخيلة هذا المصور كشيء غرائبي يستهدفه في صوره، فمعالم المدينة الكوزموبوليتانية، والتاريخ، هما المستهدفان. بعكس الصور التي التقطت في القاهرة، في أماكنها الشعبية، وسط أصحاب الحرف البسطاء، وحركة النساء والأطفال، التي كانت تشغل مركز الصورة، بينما في الخلفية هناك أثر إسلامي، يتمثل في أحد المساجد القديمة.
كان للقاهرة مركزية إسلامية في مخيلة هذا المصور الأجنبي، ورصد حياة البسطاء، بجانب ظهور النساء، كان يمثل له جزءًا أساسيًا من فسيفساء صورة القاهرة في مخيلته. بالرجوع لصور القاهرة التي رسمها المستشرق الإسكتلندي ديفيد روبرتس الذي زار مصر مابين 1838- 1840 تظهر بدايات تكون صورة المخيلة هذه، في لوحاته التي ترصد الحياة اليومية، وبسطاءها، في كنف الأحياء الإسلامية، ورموزها.
إسكندرية الشعبية
ألتقطت أغلب الصور التي وثقت للحياة في الأحياء الشعبية، في مستوى السائرين في الشارع، لم يحتج فيها "المصور الأجنبي" لاستخدام منظور عين الطائر الذى يحلق من أعلى فيرى المشهد إجمالًا وليس تفصيلًا. تشعر بأنها صور مرتجلة أو عشوائية، سريعة الذوبان، ليس لها إحكام ولا خلود الصور المأخوذة في الأماكن التي تمثل الحضور الأجنبي في المدينة. الأحياء الشعبية آنذاك، كانت شوارعها ضيقة وبدون علامات أو رموز بارزة، وحركة الناس فيها عشوائية، لغياب مركز أو رمز يصوغ طريقة سيرهم أو وقوفهم أو تسكعهم. فكان هذا "المصور الأجنبي" يتحرك على مسافة قريبة جدًا من شخوصه الذين ينظرون بشكل جماعى للكاميرا في هدوء، بدون تمثيل ادعاء بحركة ما، مثل الصورة التي التقطت في شارع عمود السواري. من الصعب أن تعثر على بطل معين في الصورة اختلس اللحظة المناسبة ليثبت عينيه في عين المصور.
ربما "المصور الأجنبي" الذي التقط الصور كان يريد أن يخلد المكان الذي ينتمى إليه خياله أكثر، والذى يعلم أنه سيتركه بعد حين وسيرحل، فجاءت شحنة الخلود واضحة في هذه الصور، ومنها انتقلت إلينا هذه الشحنة، وأصبحت جزءًا من نظرتنا لمدينتنا، رغم أننا لم نغادرها.
حواف الذاكرة المتلاشية
وسائل الطباعة القديمة منحت الصورة جزءًا من هذا الحنين المضاعف لها، كانت تجعل هناك بياض حول الصورة من الحواف، كأن الصورة تلاشت عندما لامست حدود الزمن الخاص بها. تبدأ الذكريات كثيفة في المنتصف، ثم يغزو النسيان الصورة رويدًا رويدًا تجاه الأطراف حتى يصل للبياض. كأن الصورة قطعة من سحاب الزمن، ربما هذا يمثل الإحساس المادي الذي يجسد في الصورة مفهوم "الزمن الآخر".
هذه الحواف البيضاء تعتبر عيبًا في التحميض، أو لإظهار حواف الذاكرة المتلاشية، ذاكرة الغريب/ الآخر، الذى يريد أن يختفي وسط هذا البياض كأنه ارتدى طاقية الإخفاء. يظل هذا "الآخر / الغريب"، مختفيًا، ولكنه لا يموت في ذاكرتنا، يظل يتنقل كالشبح وسط مراكز شعورية شديدة الخصوصية.
في بعض هذه الكروت ستجد بعض الكتابات والتوقيعات المكتوبة باللغة الإنجليزية أو الفرنسية. رسائل خارجة من مصر، يصفون فيها الإسكندرية ومرسلة لذويهم في أوروبا. كيف عادت هذه الرسائل مرة أخرى إلى الإسكندرية؟ المفروض أن تكون هناك في صندوق الذكريات في البلد المرسل إليهم فيها. هل كانوا يخرجون مؤقتًا ثم يعودون سريعًا، وكانت بلدهم الأصلى هي الإسكندرية؟ هل كانوا يعودون ليردوا هذه الوديعة من الذكريات والصور ليتركوها لمن سيأتي؟ وجود كل هذه الكروت وعودتها كالطيور المهاجرة إلى الإسكندرية وتسربها في الأسواق والمحال بعد هجرة الأجانب يؤكد أن هذه الكروت عادت مع مَن أرسلت لهم، لأنهم كانوا في سفر مؤقت خارج بلدهم الأصلي، الإسكندرية.
في مقال قديم لي عن صور الإسكندرية كتبت "أي صورة حالمة تبعث الحنين للإسكندرية القديمة، هي صورة خادعة، لأنها لا تعيد الإمساك بماضي ذاوتنا المفقود، بل بماضي المدينة الأملس الذي كان وجودنا فيه كمصريين غير مرئي. إننا نراكم لصالح عاطفة وحب ماضي هذا الآخر عندما ننظر للصور، نكبره داخلنا ولا نحب ماضينا. هناك انفصام يحدث لهذه الذات. إنه حنين مستعار لشخص آخر وقفنا مكانه".
عودة مرة آخرى لأورهان باموق في كتابه إسطنبول الذكريات والمدينة وفي صفحته الـ421 يقول "تظهر مدينة المرء أحيانا، وكأنها مكان غريب. ستغيَّر الشوارع، التي كانت تشبه البيت، لونها فجأة. سأتأمل الحشود الغامضة التي تحتشد بجانبي، وأتذكر فجأة أنهم كانوا يسيرون هنا منذ مئات الأعوام. تصبح المدينة، بحدائقها الموحلة وساحاتها الخربة، وأعمدتها الكهربائية، ولوحات الإعلانات، في ميادينها ومبانيها الخرسانية الرهيبة؛ مكانا خاويا، خاويا حقًا، مثل روحي".