- سؤال آخر يا إيفان: هل هناك شيء بعد الموت؟ هل هناك حياة أخرى، أية حياة أخرى، ولو شبح حياة أخرى، شبح صغير، صغير جدا؟
- لا شيء بعد الموت.
- لا شيء البتة؟
- البتة.
- أهو العدم المطلق إذن؟ أم يوجد شيء ما رغم كل شيء؟ ربما وجد قليل من حياة مع ذلك. لقليل خير من لا شيء.
- لا شيء إلا العدم الكامل. صفر.. لا شيء أكثر من ذلك.
من رواية الإخوة كارامازوف
كان صاحب محل الكتب القديمة يوصيني بما يعتقد أنه سيعجبني ويناسب عمري. كنت في الصف الأول الثانوي عندما تعرفت على توفيق الحكيم في عودة الروح، وإحسان عبد القدوس في ثقوبه السوداء، ويحيى حقي في قنديل أم هاشم، وبالطبع نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة.
عرفت بعدهم خيري شلبي، وسعيد الكفراوي وإبراهيم عبد المجيد وغيرهم. بدأ البائع يوصيني بأن ألقي نظرة على الكلاسيكيات العالمية. في البداية قرأتُ العجوز والبحر لإرنست همنجواي، مغامرات هاكلبري فِن لمارك توين، وربما الآمال الكبرى لتشارلز ديكنز. في واحدة من المرات وجدت كتابًا ضخمًا بعنوان الإخوة كارامازوف. كان يبدو قديمًا وأوراقه صفراء ودون غلاف، أشبه بمخطوطة سحرية قديمة. عندما سألتُ البائع عن الكتاب. رد قائلًا إنها رواية قديمة من كلاسيكيات الأدب الروسي، لكنها ضخمة جدًا، وربما لن أتمكن من إنهائها.
اشتريتها ليس لأي سبب غير أنني كنت أكره أن تنتهي الروايات أو القصص التي أقرأها. أندمج تمامًا مع الشخصيات وأتماهى مع الأحداث، وفجأة تنتهي الرواية. كانت تلك الرواية الضخمة تعني أيامًا أكثر، ومعايشة أطول للشخصيات، ومتعة أكبر.
كنت مثل أغلب المراهقين، أبحث عن المثالية وأنزع إليها في كل شيء. مع أمي وفي صداقاتي وفي تصرفاتي. كما أنني كنت أمر بفترات تغلبني فيها الأسئلة الوجودية الجدلية: لماذا نحيا؟ لماذا نستمر في الحياة طالما أننا سنموت في نهاية الأمر؟ هل نحن أخيار أم أشرار؟ كنت أبحث بين الكتب بوعي أو دون وعي عن إجابات لأسئلتي. عن شخصيات تطرح الأفكار الجدلية التي تشغلني عن الموت والحياة والمصير.
في بداية الأمر كنت أقرأ الرواية في سبيل المتعة والتماهي مع الشخصيات. لكنها لم تكن مجرد متعة التماهي. نقلتني الإخوة كارامازوف مع كامل تفاصيلها وشخوصها إلى عالم آخر بعيد تمامًا عن عالمي الواقعي، كما حدث مع روايات مثل العجوز والبحر والآمال الكبرى وحلم ليلة صيف. كانت ومازالت تلك النقلة واحدة من أكبر أسباب حبي للأدب المترجم خاصة إذا كان ينقل تفاصيل العالم والحياة والشخصيات، وهذا تمامًا ما فعله دوستويفسكي في تلك الرواية.
في العادة لم أكن أقرأ مقدمات الروايات. لا مقدمة المؤلف، ولا المترجم، لكن في هذه الرواية جذبتني مقدمة المؤلف الذي لم يعرف كيف يقدم بطله للناس، بل ويطرح أسئلة مفتوحة ويتركها بلا إجابة. لم أعرف في وقتها هل يفكر بالفعل في تلك الأسئلة عن بطله، أم يطرحها ليجذب القارئ أكثر للحكاية التي سيقرأها، ويعلقه بالبطل قبل أن يتعرف عليه.
القراءة كتجربة كبرى
لم تكن تجربة قراءة دوستويفسكي مثل قراءة غيره من الكتاب، خاصة بالنسبة لفتاة يتشكل وعيها من خلال الكتاب. تمتلئ الرواية بالصراعات، وكل هذه الصراعات تربك عقل القارئ جدًا، إذا لم يكن صاحب معرفة قوية بنفسه وأفكاره. قراءة الرواية يمكن أن تكون بمثابة اختبار أو تجربة كبرى، لكل من اعتاد أن يأخذ طريقًا محددًا، أو ينحاز لفكرة واحدة بشكل مطلق.
اعتدت أثناء القراءة أن أتماهى مع شخصية ما، وأتبنى مواقفها الأخلاقية أو العاطفية أو الإنسانية. لكنني مع استمراري في قراءة الرواية، لم أستطع أن أتبنى موقفًا واحدًا طوال الوقت. لا يوجد خير مطلق أو شر مطلق، أو تضامن مطلق مع الخير والشر. كل شخص يحمل بداخله المتضادات كلها التي لا تظهر إلا في الاختبار الحقيقي كما تقول الآية في الإنجيل "وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ". (إنجيل متى 6: 13)
الصراع الأهم بين الإخوة كارامازوف هو صراع بين الإيمان والشك. توضح كل شخصية نوع مختلف من السلوك الذي يولده الإيمان أو الشك. المؤمن في الرواية الذي يمثله الأخ الأصغر أليوشا، هو مؤمن إيمان راسخ، يفتح الأبواب للخير والمغفرة والمحبة. بينما الشك هو شك منطقي يمارسه إيفان كارامازوف الذي يسعى وراء الحقيقة من خلال الأدلة، ويرفض تصديق وجود إله، كما يرفض المفاهيم التقليدية للأخلاق. ماذا تفعل فتاة مراهقة تنزع دون قصد نحو التطرف، لتجد نفسها في كل جانب بشكل متطرف. تماهيت مع أليوشا تمامًا، وشعرت بمشاعره الجارفة ومحبته للعالم، وفي الوقت نفسه، أدركت بعقلي أن من حقي طرح أسئلة تشبه أسئلة إيفان الجدلية، حتى لو لم أجد لها إجابة.
لا يقدم دوستويفسكي هذه المواقف المتناقضة بشكل محايد. بل يتخذ جانب الإيمان ويحكي من خلال حكايته كيف تكون حياة الإيمان أسعد من حياة الشك. لكنه في الوقت نفسه يدرس سيكولوجية الشك بموضوعية ودقة كبيرين، حيث يقدم من خلال شخصية إيفان، حججًا قاطعة ضد الدين والكنيسة، مشيرًا إلى أن اعتناق الإيمان لا يمكن أن يحدث إلا بمخاطرة منطقية كبيرة.
عبء الإرادة الحرة والمسؤولية الأخلاقية
تجادل الرواية في فكرة أساسية وهي أن الناس لديهم إرادة حرة. لتطرح ذلك التساؤل عليَّ كقارئة "هل أملك إرادة حرة؟ هل أنا حرة في اختيار ما أؤمن به أو ما لا أؤمن به؟ هل أقبل الأخلاق أم أرفضها؟" قد تبدو الإرادة الحرة نعمة كبيرة، تضمن الاستقلال الروحي، وتضمن عدم وجود أي قوى خارجية تؤثر على خيارات الشخص فيما يتعلق بالإيمان أو الشك. لكن الرواية تصور الإرادة الحرة على أنها لعنة، وهو ما كنت أعتقده في ذلك الوقت عندما كنت في السادسة عشر، وربما أخجل أن أعترف أنني مازلت أعتقد أنها لعنة، حتى وأنا أقترب من الأربعين.
تلك الأسئلة التي تطرح في الرواية، أسئلة قديمة بدأت مع وجود الإنسان، وتعامله مع الآخرين. البعض يعترف بها ويفكر فيها، بينما يرفض البعض طرحها على نفسه، خوفًا من الدخول في جدل يخرجه من المنطقة الآمنة إلى المنطقة الشائكة. بالإضافة إلى الإرادة الحرة تناقش الرواية الاختيارات الأخلاقية لشخصياتها، التي تنسحب بالتبعية على القارئ المنغمس في الحكاية.
هل ينبغي أن نحكم على بعضنا البعض؟ هل نغفر الخطايا، ونصلي من أجل توبة المجرمين وخلاصهم، بدلًا من عقابهم. يروي دوستويفسكي على لسان الأب زوسيما أن المغفرة ضرورية لأن السلسلة البشرية متداخلة، لدرجة أن كل شخص يجب أن يتحمل بعض المسؤولية عن خطايا الآخرين. وهذا يعني أن أفعال شخص ما لها العديد من الآثار المعقدة على تصرفات العديد من الأشخاص الآخرين، بحيث يستحيل تتبع جميع عواقب أي فعل بشكل منفرد. كل ما نفعله يتأثر بما يحدث حولنا، ولا يمكن فصل كل فعل عن سياقه والتعامل معه على حدة، ونتيجة لذلك لا يمكن من وجهة نظر زوسيما تحميل أي شخص بمفرده المسؤولية عن خطيئة أو جريمة.
يبدو أن فكرة المسؤولية المشتركة عن الخطايا كانت مستهجنة من قبل أبطال الرواية المشككون في الدين والإله، خاصة إيفان الذي أصر دائمًا أنه ليس مسؤولًا عن أفعال أي شخص آخر سوى نفسه. تتعارض حجج إيفان مع فكرة الإيمان بالمسؤولية المتبادلة كما طرحها زوسيما، بالإضافة إلى أن عدم ثقة إيفان العميقة في طبيعة البشر، جعلته يفضل إبقاء الجميع على مسافة كبيرة منه، عكس أليوشا المؤمن الذي اختار محبة الجميع وتفهم دوافعهم، وهو الاختيار الذي تبنيته في مراهقتي بشكل ما، ليس فقط لأنه اختيار أكثر إنسانية وأخلاقية كما اعتقدت وقتها، لكن لأنه يمنحني فرصًا متكررة لإعادة النظر في أخطائي التي حسب هذه الفكرة، ليست أخطائي وحدي.
مع مرور السنوات تحولت من الفكرة المثالية لأليوشا، إلى الاختيار الأكثر أنانية لإيفان. لم أعد أرغب في أن أتحمل مسؤولية أخطاء أحد، ولا أن يتحمل أحد مسؤولية أخطائي. اختفى النزوع إلى المثالية واختفت الرغبة في إصلاح العالم وتفهم دوافع الآخرين، الأمر الذي جعلني أتساءل هل كان دوستويفسكي مدركًا بهذه الدقة لتحولات النفس البشرية عندما اختار أن يجعل الأخ الصغير هو الشخص المثالي، بينما الأخوان الأكبر أكثر مادية وأنانية؟
تشريح النفس البشرية على طريقة دوستويفسكي
بعد مرور سنوات، وبعد تحولي من قارئة إلى كاتبة، أدركت صعوبة وأهمية النهج الذي اختاره دوستويفسكي في أعماله، بعدما أدركت أن الأحداث الداخلية في أي رواية أكثر أهمية من الأحداث الخارجية. يمكن أن يجلس البطل في مكانه لساعات طويلة، ويعتقد من حوله أن لا شيء يحدث، بينما ينهار العالم ويشيد من جديد بداخله.
قال نيتشه عن دوستويفسكي "إنه عالم النفس الوحيد الذي كان لديه شيئًا ما يتعلم منه شخصيًا"، كما قال عنه ألبرت إينشتاين إنه أعطاه أكثر من أي مفكر آخر من خلال تقديم لمحة ملهمة عن عدم استقرار الواقع، وأكد فرويد أن مكانة دوستويفسكي ليست ببعيدة عن شكسبير، كما أن سارتر كان معجبًا بكتابته، وأكد دوره الأساسي في تطوير الفكر الوجودي.
لا يمكن اعتبار دوستويفسكي روائيًا يكتب فقط من أجل الحكي والاستمتاع، بالإضافة إلى صور الجنون التي لا تعد في رواياته، هناك وصف لإدمان الكحول، والصرع، والاعتداء الجنسي والانتحار، والمقامرة واضطرابات الشخصية. اهتم دوستويفسكي بعلم النفس وقرأ علماء وكتاب علم النفس الذين عاصرهم واستخدم معرفته وربما حياته الشخصية أيضًا لبناء شخصياته وحبكاته. بالإضافة إلى ذلك كان مفتونًا بقصص الحياة الواقعية لمواطنيه. سعى إلى إجراء مقابلات شخصية مع أبطال الموضوعات الإخبارية لمعرفة المزيد عن حالتهم الذهنية. ومع ذلك فإن حياة دوستويفسكي نفسها كانت ذات أهمية نفسية كبيرة. أكد فرويد في وقته أن الصراعات في أعمال دوستويفسكي، كانت مظهرًا هستيريا لرغباته المفترضة.
قُبض على دوستويفسكي في شبابه بسبب انضمامه لجماعة سياسية ثورية تحمل اسم "بتراشيفسكي" وسجن بعدها في قلعة بطرس وبولس بسانت بطرسبرج، وحكم عليه بالإعدام. قال وهو ينتظر حكم الإعدام "سنكون مع المسيح" ليجيبه رفيقه الملحد "سنكون ذرات تراب". ليبقى ذلك الصراع بين الإيمان والشك مصدر قلق عميق لدوستويفسكي لبقية حياته. تم تخفيف حكم الإعدام عليه إلى حكم بالنفي والعمل في معسكرات سيبيريا، الأمر الذي أكسبه خبرة مباشرة في العيش مع طبقة الفلاحين، وإعادة اكتشاف إيمانه بالمسيح، مع استمرار جدله الداخلي بين العلم والدين.
رفض دوستويفسكي النظريات العلمية التي تسلب البشر الإرادة الحرة، وتنظر إليهم كتروس تتحرك وفق قوانين الطبيعة، وشعر أن هذه النظريات العلمية معادية لكون الإنسان كائن تعتمد قراراته الأخلاقية على الاختيار الحر. لكن في نهاية الأمر وخاصة مع كاتب مثله لا يمكننا أن نحكم على اتجاه الكاتب الديني أو الأخلاقي من خلال كتابته، لأن رواياته تحتوي على أصوات متعددة ولا يمكن النظر إلى صوت واحد على أنه يمثل صوت المؤلف كما قال الناقد الأدبي الروسي ميخائيل باختين. ومع ذلك هناك رسالة خاصة كتبها دوستويفسكي عام 1854 وصف فيها مشاعره قائلًا "أما أنا، فأنا أعترف بأنني طفل في هذا العمر. وابن الكفر والشك حتى هذه اللحظة وإلى القبر. إن ما يعذبني هو التعطش للاعتقاد الذي كلفني ومازال يكلفني، ويحرق روحي بقوة أكبر كلما زادت الحجج المضادة. مع ذلك يرسل لي الله أحيانا لحظات من الهدوء التام. حتى لو أثبت لي أحدهم أن الحقيقة تكمن خارج المسيح، يجب أن أبقى مع المسيح".
للعودة إلى الصفحة الرئيسية للملف.