دوستويفسكي من الكتاب الذين تقرأهم لمرة احدة، كل كتاب رحلة حياة طويلة، تعرف في نهايتها بأنك لن تعيد قراءته. كل كتاب هو وداع، تتحسر على تلك الصفحات وتلك الروح العميقة والاستثنائية، وفقاعة المشاعر، التي عشت فيها طوال زمن القراءة، التي ستغادرهما، بعد قليل.
يمتلك دوستويفسكي روحيِّة خام، انفجارية، غير قابلة للتشكيل الفني، أو ربما تتعدى مفهوم الشكل الفني، وتنفرد بحالات مطولة من التحليل النفسي الخام، والمواجهات الذاتية، والحوارات الاستثنائية، وربما لهذا السبب يصعب تكرار قراءة كتبه. تقوم كتبه بدور المراجِع، والقواميس وكتب الانسيكلوبيديا، التي تطمئن لوجودها قريبة منك، لأنواع من البشر والمشاعر، والصراعات، والإحباطات. يحتل دوستويفسكي في مكتبتي أماكن لم يغادرها، بعد قراءتها الأولى والأخيرة، كأنها زوايا البناء لهذه المكتبة.
يتناول كتاب التأرجح على الهاوية - العام الأخير في حياة دوستويفسكي للشاعر والأكاديمي الروسي إيجور فولجين (1942)، الذي خصص رسالته لنيل الدكتوراه حول كتاب يوميات كاتب لكاتبه الأثير؛ تفاصيل علاقة دوستويفسكي بعالم الثورة الروسية، مع التركيز على العام الأخير، قبل وفاته، الذي زادت فيها حدة الاحتجاجات ومعها زادت العمليات الإرهابية التي كانت تروم اغتيال القيصر، وتغيير شكل الحياة في روسيا القرن التاسع عشر. أصبحت هناك نقطة فاصلة بين عالمين كما يراها دوستويفسكي. وبالتبعية اتخذ الناقد من هذا "التأرجح"، منهجًا يعرض فيه كل النظريات، المتناقضة أحيانًا، والملابسات المتاحة التي تفسر علاقة دوستويفسكي بعالم الثورة، وأيضا البحث في لغز وفاته.
يقول إيجور فولجين "كان دوستويفسكي يشعر بعظمة الوقت خلال سنواته الخمس الأخيرة، ويشعر أو يكتب بأن كل روسيا تقف عند نقطة نهائية متأرجحة على الهاوية، هذا لايدفعه للكآبة ولا النفور من البشر، على العكس، إن هذا الشعور يرغمه على توخي الحل بحماسة، فهو لا يشيح عن المستقبل، ولا يتهرب منه، بل يسير باستقباله بوجه مفتوح". (ص 50).
وفي نفس الصفحة يضيف "إن دوستويفسكي في سنواته الخمس الأخيرة متفائل تاريخي يراهن كليا على المستقبل"، أعتقد أنه تفاؤل النهايات، سواء لروسيا القيصرية أو لدوستويفسكي نفسه.
عندما قرأت هذا الكتاب بداية التسعينيات، انبهرت بمنهج الكاتب في طريقة تتبعه لسيرة دوستويفسكي عبر الأرشيف، كل أنواع الأرشيف، بل وبث الحياة في كل تفاصيله خلال الفترة الزمنية المشار إليها، للخروج ببورتريه شديد الحيوية والجاذبية لدوستويفسكي، وللحياة التي كانت تحوطه. درجة فائقة من الانغماس في ذات "الآخر" وتقمصها والتماهي معها. إيجور فولجين منغمس تمامًا داخل وخارج دوستويفسكي، كأنه يعرف بأنه تورط في حب الرجل، ولافكاك. ظلت قوة الكتاب تفعل مفعولها بالنسبة لي، وتمنيت في حياتي الأدبية، المستقبلية أنذاك، أن أتتبع سيرة "آخر" بهذه القوة والدقة والحيوية والجاذبية، ولكن لم يحدث، ربما تفرق المنهج والولع على العديد من الأشخاص، مستبقيا روح المنهج وهو الحب.
خلال هذا العام، 1880، الذي أرّخ له المؤلف ينتهي دوستويفسكي من كتابة روايته الأخيرة الأخوة كارامازوف التي بدأها عام 1878، ونشرها مسلسلة في مجلة البشير الروسي، عمل متواصل طوال الليل، كأنه يعرف بنهايته القريبة، لا ينام إلا في السابعة صباحا، ويفيق في وقت متأخر، ثم تقوم زوجته بمراجعة ما كتبه ومنها للمطبعة.
من أهم نشاطات دوستويفسكي خلال عامه الأخير، تلك الأمسيات التي حضرها والتي كانت تشكل علاقة جديدة بين الكاتب وجمهوره.
يكتب إيجور فولجين عن علاقة الناس بدوستويفسكي (صـ 48) "من خلال أمسيات القراءة كون ظهور الكاتب أمام جمهوره بنبرة صوته وبتعابير وجهه، بحركاته بإيماءاته، وأخذت الكلمة تتحد بمبدعها أمام أنظار الجمهور، وكان هذا التحول المرئي يفوق القراءة الخالصة، إن منصة الخطابة كانت تتجاوب وطابع موهبته، ولكنه لم يمتلك ناصيتها حرفيا إلا في آخر فترة".
ويصف فولجين حالة الناس بعد أمسية ألقى فيها دوستويفسكي نصًا عن بوشكين في مناسبة إزاحة الستار عن تمثاله في 8 يوليو/ تموز 1880، أنه خلال إلقائه الخطاب نشأت رابطة روحية عميقة بينه وبين المستمعين، ومن قوة روحية النص، قام الناس بعدها يسلمون على بعضهم البعض، ويتعاهدون على أن يكونوا أفضل.
بعدها تجرأ دوستويفسكي وأصبحت قراءته على المسرح لفصول من الإخوة كارامازوف تحقق نجاحًا كبيرًا. ويصف فولجين سبب هذا النجاح، أن الجمهور يتنبأ بمستقبله داخل نصوص دوستويفسكي، وأيضًا لتجسيدها هذا القلق العالمي الذي يميز الجيل الجديد، آنذاك.
لايهتم فولجين فقط بمضمون كلام دوستويفسكي، أو تأثيره على الآخرين، بل يهتم بصوته أثناء الإلقاء، كأنه يصنع سيرة لصوته وتردده خلال هذا العام الأخير، يصفه بـ"الصوت الضعيف ولكن يتخلله سعال جاف والسبب كان انتفاخ الرئتين والتدخين المستمر يفصحان عن نفسيهما"، هذا التتبع لحالة الرئة سيكون له أهميته في النهاية، كون دوستويفسكي سيموت بنزيف مفاجيء في شريان الرئة. ثم ينقل فولجين انطباع الناس عن سمات وجهه وتحولاته، لايترك أي ملمح بدون تدقيق، ليكمل مفهوم البورتريه الذي يرسمه لمعلمه.
يرصد فولجين أنه بحلول عام 1880 يجري "تشيُّخ" دوستويفسكي البدني الملحوظ، وفي الوقت ذاته تبرز وتتجلى بمزيد من القوة طبيعته الروحية، كأن هناك علاقة متبادلة بين قوته الروحية وفناءه الجسدي. يضيف في (صـ61- 62) أن "هذه القوة الروحية لم تكن تصاحبها أي صفات لصيقة تنم عن الأبهة الظاهرية لصاحبها، على العكس، أن سلوكه العادي كان يبدو وكأنه يهدم عن قصد تلك الصورة الرفيعة للمفكر والنبي الذي يلازم التصور عنها وعي المثقفين الروس".
يحكي المؤلف حكاية تبرز أحد ملامح شخصية دوستويفسكي العاطفية، ليس دوستويفسكي وحده، بل الشعب الروسي كله، وهذا السمة هي البكاء الروسي يكتب في الصفحة 68 "بعد وفاة ابنته صونيا من زوجته الثانية آنا، التي تزوجها عام 1866، وكان في الخامسة والأربعين، بينما هي في العشرين؛ بعد ثلاثة شهور من ولادتها، وكان وهو وزوجته في جنيف، من حرارة انتحابهما، أن بعث لهما الجيران بأن يكون صوت البكاء أوطأ، فكان البكاء الروسي السافر يؤثر على أعصاب أهالي جنيف الكظومين".
منهج التقصي والتتبع، الذي يستخدمه إيجور فولجين مرتبط بمحاولته لاكتشاف سر، تحوم حوله جريمة، كما في الروايات البوليسية، هو مفتش مباحث أدبي وتاريخي، يخلط دائمًا بين الدليل الجمالي المتخيل، والدليل الواقعي. الدليل يتأرجح هو الآخر بين عدة حقول معرفية، ولكن في النهاية يتحول، مهما كانت تفاهته، إلى "دليل جمالي" له صورة شاعرية وأوجه مختلفة لتأويله، لأن الكاتب هنا هو فولجين الشاعر والأكاديمي معًا.
لايوجد سر أو لغز سوى موت دوستويفسكي المفاجيء. الجريمة هنا هي الموت، ولأن الموت يخص شخصًا مثل دوستويفسكي، الكاتب الأهم في ذلك الوقت من نهايات القرن التاسع عشر، القرن الذي أطلق عليه النقاد "القرن الروسي"، تحول الموت إلى لغز يحتاج لتفسير، أو على الأقل يحتاج لتأريخ، حتى تقل كثافة صدمته ويتم استيعابه ويدخل في صيرورة زمنية خالدة، كما حدث مع دوستويفسكي.
ربما اختيار إيجور فولجين لمنهج التقصي السيَري الذي يجمع بين التأويل والحس البوليسي، ورغبة الكشف وإماطة الستار، ربما بسبب تأثره الشديد بدوستويفسكي نفسه، وأيضًا، وهذا هو الأهم، بسبب شخصية دوستويفسكي نفسها المتعددة التي فجرت بتعددها ومحاولة الاقتراب منها منهجًا مشابهًا لزواياها، فكان الكتاب جدلًا مفتوحًا وحيويًا بين شخصيتي إيجور فولجين ودوستويفسكي.
أتذكر أنني قرأت كتابًا مهمًا في الثمانينيات هو التاريخ الصحي للرسول، كتبه الدكتور حسين مؤنس، وكان له منهجًا مشابهًا، وإن اختلفت بالطبع مصادر الأرشيف. هذا الكتاب لم يأخذ حقه، ولا منهجه شديد الخصوصية والإمتاع.
يؤرخ الدكتور حسين مؤنس للتاريخ الصحي للرسول محمد قبل وفاته مباشرة، وتشخيص تحول المرض الذي أودى به إلى الوفاة. بالطبع استعان المؤلف بتأويل الأرشيف المتمثل في كتَّاب السيرة، ومن ضمن الأسئلة التي يطرحها الكتاب، هناك سؤال بوليسي أيضًا، يدور حول جريمة: هل مات الرسول مسمومًا؟ كون الوفاة ترتبط بشخصية لها قداستها مثل الرسول، وتكون في الغالب غير مصدقة، من شدة التعلق بصاحبها، تظهر الجريمة، أو السر الكامن وراء الوفاة، ليمتص جزءًا من صدمة الوفاة. فهناك من يقول بأنه مات إثر تناوله للحم شاة مسمومة. حتى ولو ثبت العكس، تظل الجريمة والسر والبحث فيهما جزءًا لايتجزأ من البحث في ماهية موت شخص له هذه المكانة الرفيعة والمقدسة.
تجربة العودة من الإعدام
يراقب إيجور فولجين اهتمامات دوستويفسكي النفسية في عامه الأخير، عبر علاقته بإعدام أحد الإرهابيين*. يتتبع حكاية الإرهابي ملوديتسكي، الذي حضر دوستويفسكي إعدامه بسبب محاولة قتل القيصر. دوستويفسكي أيضًا حكم عليه بالإعدام قبل العفو عنه في اللحظات الأخيرة، ونفي في سيبيريا لمدة خمس سنوات، بسبب انضمامه لـرابطة بيتراشيفسكي الأدبية، وهي مجموعة كانت تقوم بمناقشات أدبية وقضايا عامة، بشكل شبه سري، وتضم مهندسين وأطباء وكتابًا ومعلمين.
أصبح كل من يمرون بتجربة الإعدام مثار اهتمام دوستويفسكي، سواء تم العفو عنهم، أم لا. وقتها كان يكتب الأخوة كارامازوف، ويوزع في مخيلته أدوار ومصائر أبطاله. وبالتالي يتتبع الكتاب نفسية المحكوم عليه بالإعدام، عبر مراقبته إعدام الإرهابي ملوديتكسي، وعبر تجربته الشخصية مع الإعدام، كأنها مرايا نفسية تعكس الصورة عبر مراحل.
يكتب دوستويفسكي بأن الإرهاب شكل متفرد لمرض مزمن، هو العدمية. ويشرح فولجين في الصفحة 126 "إن الارهابي مزاول العمل السري(المحكوم بالموت في معظم الحالات) يكاد يغدو أبرز وأهم شخصية في حياة روسيا السياسية".
طبعا هناك رصد لرفض دوستويفسكي للإرهاب والاغتيالات السياسية، مع تأكيد كونه اشتراكيًا بالمعنى الواسع للكلمة، مع احتفاظه بعلاقة طيبة مع العائلة المالكة، فـ"القيصرية في جيلها الثالث التي حكمت عليه بالإعدام والأشغال الشاقة، هي التي استمالته ليعبر عنها ويكون نصيرا لها". (ص 142).
ولكن فولجين يستنكر هذا الافتراض، ويشير إلى أن آراء دوستويفسكي كانت تتعارض بشدة مع السلطة، لذا يقوم بالبحث عن الدليل لتبرئته من أي علاقة تربطه بالسياسة، أو بالبلاط القيصري والعائلة المالكة.
يدخل فولجين في "نفسية" دوستويفسكي ليدافع عنه، يتحد معه أحيانًا، وأحيانًا أرى فولجين كشبح يتوسط المسافة بيني وبين دوستويفسكي، أثناء القراءة، هو بمثابة البطل المتواري، لايبني خلال فصول الكتاب في شخصية دستويفسكي، فقط، بل في شخصيته نفسها. ليس مهمًا تشابه التفاصيل، ولكن المهم اكتمال البناء.
ربما كان المناخ البوليسي الذي وضعنا فيه المؤلف، سببه جو الثورة والعمليات الإرهابية والاغتيالات، فأصبحت الجريمة السياسية جزءًا من المناخ اليومي للمجتمع، إذ شهد العامان 1879 و1880 موجة إرهاب متبادلة، منها فقط أربع محاولات لاغتيال القيصر، وشهدت 21 حادثة إعدام. وفكرة اغتيال القيصر كانت، بكلام إيجور، تحوم في الهواء، وكان من الممكن أن تتلبس بطل دوستويفسكي المثالي إليوشا في الأخوة كارامازوف، لو مددنا خط حياة دوستويفسكي خارج الرواية، كما سنرى، وهنا يتضج السبب في حضوره إعدام أحد الإرهابيين، كأنّ قتل القيصر ربما كان أحد مصائر بطله المثالي إليوشا، ومن ثم الإعدام.
رسخت الجريمة السياسية منهجًا لتفسير تلك الفترة الحرجة، وهو مادفع دوستويفسكي ليبني روايته الإخوة كارامازوف داخل ذلك المناخ، فهناك جريمة تتشعب منها الأحداث، فتكونت طريقة البحث باجتماع الحس البوليسي مع الحس الفلسفي والحكائي، لتكوين صورة للجريمة. فالجريمة، بشكل ما، لها وجه فلسفي.
أحيانا كان فولجين يتقصي مصائر أبطال دوستويفسكي وتطوراتهم المتوقعة في المستقبل خاصة في راوية الأخوة كارامازوف، ليتنبأ عبر هذه المصائر عن المستقبل خارج الراوية، وبالتالي مستقبل روسيا. كأن البطل والرواية والواقع متداخلون تمامًا، وكل منهم يحل مكان الآخر. من خلالهم يتم الإجابة عن سؤال: كيف كان سيفكر دوستويفسكي في مستقبل مشكلات روسيا من خلال مصائر أبطاله. كان للرواية مرونة أن تتمدد وتتجاوز النوع وتفرض رؤيتها على المستقبل، أو أي زمن قادم، وهنا يكتمل فعل البعث لدوستويفسكي نفسه عبر كتبه كما يرمي مؤلف الكتاب. وبالتحديد كان مفسرو أدب دوستويفسكي يهمهم في المقام الأول مصير "إليوشا"، الذي تنبأوا له بأنه كان سيعدم أو يكون تجسيدًا لـ"أبله الثورة الروسية". طبعا كانت الثورة هي أحد حديّ الهاوية الذي يتكلم عنها معاصروه ومفسرو أدبه، بعد وفاته، والحد الآخر هو السلطة القيصرية.
شبح دستويفسكي
نصل إلى الأمتار الأخيرة من الرحلة، الأيام الثلاثة قبل حدوث الوفاة، التي تأخذ حيزًا كبيرًا من الكتاب. يجنح فولجين لكتابة اليوميات كما هي، بدون قفزات زمنية، للخلف أو للأمام، فلم يعد هناك وقت طويل، كأنه يلهث وراء وداع دوستويفسكي، ولا يريد أن يغادره، فيمنح هذه الأيام الثلاثة الأخيرة وقتًا أطول ليستمتع بوداع معلمه. فلنسير معه ومع معلمه هنا.
لا أعرف لماذا أرى فولجين كشبح لدستويفسكي، يرسم صورته الشخصية، دون أن يقصد، بجوار صورة دوستويفسكي. فولجين نفسه تزوج فتاة صغيرة اسمها كاتيا، مقتديًا بمعلمه. تذكر إحدى المقالات تعليقا على هذا الزواج "من الغريب أنه في هذا (الزواج من فتاة تصغره) أن فولجين كرر مصير معبوده، دوستويفسكي".
يصل التشويق ذروته في هذه الأمتار الأخيرة، حينما يسترد المؤلف قوته كاملة، ويتحول الكتاب إلى رواية بوليسية بضمير الحاضر. يظهر السرد التشويقي عندما يعرض فولجين الاحتمالات التي سببت النزيف الرئوي لدوستويفسكي. تعدد الروايات حول سبب الوفاة، يعظم صاحبها ويضمن استمراره الجدلي في الزمن، وهو ما ينطبق على حالة دوستويفسكي.
يشير كتاب يوميات كاتب، بأن دوستويفسكي، لآخر وقت قبل وفاته بأيام قليلة كان لا يوجد ما يشير لقرب وفاته. يقول فولجين في الصفحة 196 "كل شيء طبيعي، وهنا تكون الوفاة مفاجأة تحتاج لتفسير. في 25 يناير/كانون الثاني 1881، أي قبل وفاته بثلاثة أيام، يذهب دوستويفسكي للمطبعة ويسلم الورقة الأخيرة من يوميات كاتب وكان مرحًا ومعافى تمامًا".
ثم يذكر فولجين شجارًا عائليًا سبق الوفاة بساعات مع أخته فيرا حول ميراث عائلي، ذكرت ابنته في مذكراتها، أنه بعد هذه الزيارة حدث له نزيف، انفجار الشريان الرئوي وتدفق الدم من بلعومه، واصطبغت ذقته بالدماء.
وبعد زيارة الطبيب له في البيت يزداد النزيف فيطلب دوستويفسكي بعد إغماءة دعوة القس للاعتراف والمناولة سريعًا، وفي صباح اليوم التالي، الثلاثاء، قام معافى ومر عليه منضد الحروف الذي أتي بمسودة كتاب يوميات كاتب، لمراجعتها، وتحدثا في شؤون الطباعة، وكان بصدد إصدار الجزء الأول من اليوميات، وقبلها داعب الصغار.
تكتب زوجة دوستويفسكي أن يوم الثلاثاء 27 يناير تناول بعض الكافيار مع الخبز الأبيض وشرب حليبًا وطلب من زوجته أن تشاركه أكل العنب الذي جاءت به خصيصًا له في غير أوانه صباحًا. العنب لم يكن رخيصًا، فعندما دونت زوجته هذه اليوميات كانت تعني غلو ثمنه وعندها صاحت في مذكراتها "خشي أن يأكلوا كل العنب"، تقصد الأولاد، فأخذ دوستويفسكي نصيبه هو وزوجته، وهو ما يشرح حرصه الدنيوي لآخر وقت.
في مساء هذا الثلاثاء، قبل أن ينام، صعدت زوجته لجارهم في الطابق العلوي وطلبت منه أن يكف عن السير لأن وقع أقدامه تقض مضجع دوستويفسكي وقد استجاب لها.
وهنا يستطرد فولجين منوها بأن عازل الصوت في المبنى كان رديئًا جدًا، ليقول في الصفحة 205 من كتابه "وهذا ما سينفعنا في المستقبل"، لأنه سيبني نظرية فيما بعد على مسامية الجدران وتوصيل الصوت بين الشقق.
حل الأربعاء 28 يناير/ كانون الثاني، وهو اليوم الأخير في حياة دوستويفسكي، استيقظت زوجته لتراه ينظر إليها ويخبرها "أتدرين يا آنا.. لقد أفقت قبل حوالي ثلاث ساعات، وكنت أفكر طوال هذه الفترة، ولم أدرك إلا الآن بوضوح أنني سأموت اليوم".
خلال الساعات التي كانت فيه زوجته نائمة حدث نزيف له ولم يشأ أن يوقظها، وهنا تشكك الزوجة في هذا، فوسوسة دوستويفسكي واعتنائه الشديد بجسده تحول بينه وبين ألا يوقظها لتقف بجانبه.
ثم يطلب منها أن توقد شمعة وتناوله الإنجيل. يقرأ الروائي في إنجيل متى، الإصحاح الثالث، بينما الدموع تغالب زوجته، كما تذكر ابنته في مذكراتها، "فجعل يوحنا يمانعه فيقول أنا أحتاج إلى الاعتماد على يدك، فكيف تجيء أنت إلي؟ فأجابه يسوع دعني الآن وما أفعل، فهكذا يحسن بنا أن نتم كلَّ بر". عندها يقول دوستويفسكي لزوجته بعد أن التقط إشارة الموت من الإنجيل "أسمعتِ. دعني الآن وما أفعل، معنى هذا أنني سأموت، قالها ثم أغلق الكتاب"، يقول فولجين في الصفحة 206، ثم يشكر زوجته على الحياة الهانئة التي عاشها معها، ويصرح لها بعد 14 سنة زواج "اعلمي يا آنا أنني كنت أحبكِ على الدوام بحرارة، وأنني لم أخنكِ قط، حتى في مخيلتي".
في التاسعة صباحًا غفا بهدوء وهو ممسك بيد زوجته وهذه الكلمات في أذنها، ثم أفاق في الحادية عشر على النزيف.
بعدها ينتقل فولجين لمصدر آخر لتوثيق الساعات الأخيرة، غير مذكرات الزوجة والابنة، فرسائل ابنة الشقيق الأصغر لدوستويفسكي، التي بعثتها إلى أبيها، والتي وصلت من موسكو لرؤية عمها، يوم الوفاة 28 يناير الساعة الثانية عشرة. ذكرت في رسالتها أن جرس الباب لم يكف عن الزوار والقادمين للاطمئنان على عمها، الذي كان سعيدًا بهذا الاهتمام بعد أن نشرت صحيفة العصر الحديث صباح يوم وفاته نبأ مرض دوستويفسكي، وفي هذا الصباح أملى على ابنة شقيقه وأيضًا على زوجته، ردودًا على بعض الرسائل الهامة التي وصلته من محبيه.
وتتفق الروايات بحضور الساعي من المطبعة بالمسودة الثانية من كتاب يوميات كاتب، ليوقع عليها ولكن دوستويفسكي لم يستطع، وتوفي بعدها.
في الساعات الأخيرة استدعى الصغار، ثم زاره أحد أصدقائه القدامى، فطلب من زوجته أن تقدم له سيجارًا وهو علامة وداع لهذا الصديق الذي دخل عليه لمدة دقيقة.
قبل الاحتضار غضب دوستويفسكي لأن الشاي لم يكن جيدًا، وكان يجب أن يصنعه بنفسه، كعادته، وأيضًا "كان قلقا بشأن المدفأة وهل أحسنوا غلقها" ويعلق فولجين أن كل تصرفاته كانت عادية وبسيطة "لا شيء لأجل التاريخ"، وأسلم الروح في الثامنة والدقيقة الثامنة والثلاثين مساءً.
كان هناك تفسير آخر شديد السذاجة للنزيف، إذ وقع حامل ريشة الكتابة من يده، فاضطر أن يحرك منضدة الكتب الثقيلة، فحدث ما حدث من نزف الشريان الرئوي بسبب هذا المجهود، كما تذكر زوجته، وانفجار الدم من بلعومه، ولا يخبر زوجته التي كانت نائمة في ذلك الوقت؟ تذكر زوجته هذا الدليل الساذج لتدحضه، وتثبت أن النقاش الحاد على الميراث الذي حدث بين دوستويفسكي وبين أخته فيرا، التي جاءت لرؤيته، هو السبب الأساسي في النزيف والموت.
وهنا يلعب الدم دورًا ويتساءل الجميع متى ظهر، يسلط الضوء على الدم وظهوره، ومن كان حاضرًا، وهل كانت العمة موجودة وقتها أم أنه ظهر قبل حضورها ظهرًا؟
يرجح المؤلف أن الزوجة بسردها هذه الوقائع الساذجة في مذكراتها، كانت تخفي وتغطي على علاقة دوستويفسكي بالشقة المجاورة وما يحدث فيها، التي كان يتخفى فيها أحد الإرهابيين، إذ كانت تتحاشى ربط زوجها بالسياسة، ولا تريد توريطه في عالم الثورة الروسية، أي كان السبب خوفًا من التأويل. بالرغم من أنها كتبت هذه المذكرات بعد وفاته بسنين طويلة، ولكنها كانت حريصة على ذلك، حتى بعد أن اتضح المشهد التاريخي.
لم تنته رواية الوفاة عند هذا الحد، فهناك عودة فلاش باك، ليومين سابقين، تخص ذلك الجار.
بحث في أرشيف البوليس
بالعودة لليلة 25- 26 يناير مساء الأحد، صباح الاثنين، فقد نصب رجال البوليس السري كمينًا في الشقة التي يقطن دوستويفسكي أمامها، التي كان يقطنها شاب وعضو نشط في منظمة إرادة الشعب الإرهابية والمشاركة في تدبير عدة خطط لاغتيال القيصر.
هنا يبدأ دخول بطل جديد في رواية الموت، في تلك الأمتار القليلة قبل الوفاة. يطرح المؤلف أسئلة عن علاقة دوستويفسكي بهذا الجار المعارض، الشاب الوسيم بارانيكوف، الذي جاور دستويفسكي لمدة شهرين ونصف قبل اعتقاله الذي تزامن مع نزيف دوستويفسكي ثم وفاته.
وهنا يترك المؤلف تلك العلاقة بعد أن طرحها، لتكون خيطًا جديدًا في الرواية، ويبتعد عن مسرح الأحداث، ليتتبع سيرة بارانيكوف، الذي كان مهددًا بحكم الإعدام على أي من هذه الأعمال الإرهابية التي قامت بها المنظمة. هنا يتساءل المؤلف كيف كان يبدو مظهر ذلك الجار في نظر معارف وعائلة دوستويفسكي، ليعيد رسم بورتريه له سواء لملامحه وأيضًا لطقوس حياته اليومية.
ثم يتضح الهدف من ذلك الربط التعسفي بين وفاة دوستويفسكي واعتقال بارانيكوف، التي تمت يوم 25 يناير، قبل الوفاة بيومين، ولكن هذه الرواية لم تجد من يدعهما لعدم وجود براهين لها كما يقول فولجين. ولكنه لاييأس، إذ وجد غنيمة روائية لن يتركها بسهولة، فيذهب لأرشيف الشرطة السرية ليستجلي العلاقة التي تخص اعتقال هذا الجار بارانيكوف، وتحركاته في تلك السنة، والأسماء الوهمية المستعارة التي اتخذها للتخفي، والأماكن التي كان يقطنها، وهنا يظهر عنوان البيت الذي يسكنه دوستويفسكي للمرة الأولى، وهنا تظهر مواهب المفتش هيركول بوارو، في روايات أجاثا كريستي، المتخفي تحت اسم إيجور فولجين.
يعرض فولجين قول أحد الرواة الذين أرخوا لحياة دوستويفسكي، عام 1933، أن الشرطة السرية عند اعتقالها لبارانيكوف أخطأت في الشقة، ودخلت شقة دوستويفسكي، الذي خاف وارتاب من وجود الشرطة السرية، وهو الذي له سابق تعامل معهم منذ زمن بعيد، فطمأنوه، لتطلب منه الشرطة السرية، كما تقول هذه الرواية، أن يكون شاهدًا على تفتيش شقة جاره، فيوافق على مضض، وبعدها ينتابه قلق شديد يكون سببًا في النزيف الرئوي، غير المتوقع وغير المبرر.
ربما، تبعا لهذه الرواية الضعيفة التي يشكك فيها إيجور فولجين، مصدر القلق لدوستويفسكي، أنه رأى نفسه يخون مبادئه، بموافقته أن يكون شاهدًا على التفتيش، فحدث معادلًا للخيانة، هو خيانة الجسم نفسه، كعقاب على هذه الخيانة، وينفجر الشريان الرئوي ويبدأ النزيف. ربما كانت هذه النية الخفية لفولجين عندما عرض هذه الرواية الضعيفة كونها جذابة وأيضا كونها تدافع عن معلمه.
سرعان ما يكذب المؤلف تلك الرواية، بعد أن يسردها كاملة. يكذبها بطريقة في غاية البساطة، يقوم بالبحث عن اسم دوستويفسكي في محضر شرطة التفتيش فلا يجده كشاهد.
كان من الممكن ألا يذكر هذه الرواية من الأصل، ولكن حضورها كان له مغزى ما، هو عنصر من عناصر الأسلوب الذي يتبعه في خلط الحقيقة بالخيال، والاستمتاع بهذا الخلط، في خلق حقيقة جديدة، إذ لا توجد حقيقة صافية بدون ظلال خيالية وأكاذيب، وتوهمات.
حوار إليوشا مع الإرهابي
بعد أن فشل في الإمساك بدليل مادي، يبحث فولجين عن دليل روائي، أو تأويلي، صرف، يثبت أن دستويفسكي كان يعرف من هو جاره. وعثر على هذا الدليل في رواية الإخوة كارامازوف، في ذلك الحوار الذي دار بين إليوشا وأحد اإارهابيين. أسقط فولجين الرواية على الواقع، وكذلك كان هناك حوار بين اثنين من مدبري الانفجارات، فيؤكد فولجين بأن الحوار في الرواية لم يكن خياليًا كليًا، وهنا يفتح الجار الشاب مساحة خلفية في الأحداث، لاتتأكد ولكن أيضًا لاتُنفى، وهنا يكون الربط بين دوستويفسكي وجاره، له مشروعيته ودوره من الناحية البحثية، وأيضًا من ناحية جاذبية الحكاية.
ثم يتراجع عن إثباته لهذه هذه العلاقة المباشرة، بعد أن يطلع على أرشيف رسائل ذلك الجار التي كتبها من السجن بعد اعتقاله يوم 25 يناير، بحثًا عن اسم دوستويفسكي، ولكنه لم يجده ولم يذكره بالخير أو الشر، بالرغم من أنه كان قارئًا جيدًا للأدب الروسي ويحب الشاعر المنتحر ليرمنتوف، فكيف لا يدفعه الفضول ليخبط على باب الشقة رقم 10حيث جاره واحد من أهم أدباء روسيا آنذاك؟ هنا يتساءل فولجين، ويستغرب، ويتخذ من هذا الإنكار دليل إثبات على العلاقة بينهما، فالجار لا يذكر أبدًا اسم دوستويفسكي، الذي كان شهيرًا جدًا، بأنه تعمد عدم ذكر اسمه حتى لاينال من سمعته.
بجانب زيارة أخته التي تشاجر معها حول الميراث، ورواية الجار الذي يسكن بجواره وعلاقته بمنظمة إرهابية، ورواية سقوط حامل الريشة، تأتي رواية جددية تمامًا، تنبيء أن زيارة شخص مجهول حدث بينه وبين دوستويفسكي جدل، يوم الاثنين 26 يناير، في الساعة الرابعة، ذكرته زوجته في مذكراتها، وحدث بعدها النزيف الرئوي، وهذا الشخص تم اعتقاله بعد الزيارة بعدة شهور وكان على علاقة بجاره الإرهابي في الشقة رقم 11 عضو المنظمة إرادة الشعب. ربما كان الوسيط، بينهما، أو ترك شيئا عند دوستويفسكي له علاقة بجاره قبل اعتقاله.
طبعا الغرض من ربط صاحب الشقة 10 بساكن الشقة 11، هو إثبات انخراط دوستويفسكي بشكل أو بآخر في الثورة. ويفسر فولجين أن التاثير الذي تركه شجار الأخت فيرا على دوستويفسكي يساوي تماما تأثير اعتقال جاره في الشقة رقم 11، الذي يؤكد على معرفة دوستويفسكي به فيكون هذا الجار مشاركًا بوجوده المادي أو المجازي، بطريقة أو أخرى، في تغيير مزاجية دوستويفسكي التي تسببت بدورها في هذا النزيف الرئوي الذي تسبب في الوفاة.
أصبح الموت واقعًا، ووصلنا للمتر الأخير من الكتاب "التأرجح على الهاوية"، نقف من جديد ليس أمام الموت، ولكن أمام أحد تجسداته وهي "الجثة". في صباح 29 يناير يأخذ النحات قناع الموت من وجه دوستويفسكي، لتماثيل المستقبل، بينما آخر يقوم برسم تخطيطات لبورتريه للكاتب، بينما حارس الكنيسة بجانبهم يتلو الصلوات، كأننا نعيد طقوس رسم بورتريهات الفيوم في مصر الرومانية/ المسيحية.
أجمع من وقفوا أمام الجثة، بأنه بعد تغسيله ووضعه على المنضدة، كان شاحبًا وهادئًا كما لو كان نائمًا.
بينما كان هناك سيل بشري، حوالي 10 آلاف، يتدفق من مدخل العمارة ومن سلم الخدم ليزوره قبل رحلة الدفن. ومن كثرة الناس في الغرف كانت مصابيح الزيت تنطفيء من ندرة الأوكسجين الذي استهلكته جموع المودعين.
كانت هناك وصية شفاهية لدفنه، تركها لزوجته، أن يدفن في مقبرة غير مقبرة الأدباء لأنه لا يريد أن يدفن وسط أعدائه "يكفيني أن عانيت منهم الأمرين في حياتي"، في الصفحة 283 من الكتاب.
وفي مشهد الجنازة التي سار فيها حوالي 30 ألف مشيع، هناك بعض الأشرطة، التي تحملها الوفود التي تحمل الأكاليل والتي بلغت السبعين، عليها أسماء رواياته مذلون مهانون، والجريمة والعقاب، والأخوة كارامازوف، ولم تكتب اسم رواية الشياطين، حياءً، وكان من ضمن الأكاليل واحد من إدارة السجون العامة، التي كان دوستويفسكي نزيلًا بها في شبابه.
يكتب فولجين في الصفحة 309 "كان موته بنَّاء، لأنه كشف عن قوى مثالية في المجتع لم تكن ظاهرة، وكل من وقف على قبره شعر بتطهر بأنه سيكون أفضل".
* آنذاك كانت لفظة "الإرهابي" غير محمّلة بنفس المعاني الثقيلة كما هو حالها الآن.
للعودة إلى الصفحة الرئيسية للملف.