في روايته تعويذة، يقدم الروائي والشاعر التشيلي روبرتو بولانيو نبوءات حول مصائر كتاب وشعراء القارة اللاتينية والعالم الغربي، من خلال صوت تسميه الراوية أوكسيليو "صوت الملاك الحارس للأحلام".
يسترسل بولانيو في سرد يجمع بين الاستبصارات النقدية والرؤية الساخرة التهكمية لمستقبل كتاب القرن العشرين. يقول "فلاديمير مايكوفسكي سيعود ليصبح موضة حوالي عام 2150 تقريبًا. جيمس جويس سيتناسخ في جسد طفل صيني عام 2124. توماس مان سيتحول إلى صيدلي إكوادوري عام 2101. مارسيل بروست سيدخل في نسيان بائس وممتد ابتداءً من عام 2033". ويضيف أن "ثيسار باييخو وخورخي لويس بورخيس وفرانز كافكا سيُقرأوا في كل أنفاق المترو، وآخرين سيُقام لهم تماثيل في الميادين"، وفق تواريخ حددها بولانيو.
والأهم، أنه يتساءل، فيما يشبه الاستنكار، قائلا "في عام 2059 من سيقرأ جيلبرت دالاس؟ من سيقرأ ردولفو ويلكوك؟ من سيقرأ أكسانر أونيك؟". ويؤكد أن "ماكس جاكوب سيصبح غير مقروء، أي سيموت آخر قرائه عام 2059".
قارئ دوستويفسكي الأخير
يكمن نوع من القسوة في في سطور بولانيو السابقة رغم خيالها النزق التهكمي. وتنبع القسوة من حقيقة أن عددًا غير قليل من الكُتاب محكوم عليهم بالموت، والنسيان. وأن وجود أعمالهم في العالم طارئ ومؤقت.
لكن من المرات القلائل التي يُكتب فيها لأديب النجاح في اختبار الزمن، يمثل فيودور دوستويفسكي حالة خاصة. ويمكننا اعتباره من المتفوقين في اختبار الخلود، إن جاز التعبير. أكثر من مائة وثلاثين عامًا مرت على رحيل الكاتب الروسي (1821-1881)، ولازالت أعماله تحظى بالأولوية ضمن إصدارات دور النشر المختلفة، وتحتل رواياته أرصفة باعة الجرائد والمجلات، حيث لا يقدر على مزاحمة كتب البيست سيلر الحديثة في تربعها على عرش الرواج إلا أعمال دوستويفسكي ونيتشه.
هذه مفارقة شديدة الدلالة؛ إذ يشترك الفيلسوف الألماني مع الروائي الروسي في العديد من السمات. فمثلا، تُعامل كتابتهما على أساس أن "الحكمة"، كتصور فكري، تمثل غاية نهائية. ويجمع الألم واعتلال الجسد والاضطراب العصبي بين الكاتبين العظيمين. كما يُنظر إلى منجزهما نظرة متشككة، فالفيلسوف الأكثر مقروئية، في عالمنا العربي على الأقل، يُعتبر وفق رأي البعض كاتبًا وشاعرًا لا غير، حد وصف الشاعر الفرنسي بول فاليري. أما دوستويفسكي، فإنه لا يحظى بمكانة "روائية" بارزة عند إعادة قرائته في ظل الحداثة الأدبية مقارنة بكافكا وبروست وجويس، الثالوث الأكثر أسلوبية واتساقًا مع روح الحداثة والقرن العشرين.
لذلك، فإننا في حاجة إلى فهم طبيعة "خلود" دوستويفسكي. ومن وحي نبوءات بولانيو نتساءل: هل من الممكن أن يأتي الوقت الذي يموت فيه قارئ دوستويفسكي الأخير؟
وخلافًا للمألوف فيما يتعلق بالكتاب الخالدين، فإن الزمن الذي أتى فيه دوستويفسكي لم يكن في صالحه، إن جاز التعبير. والمقصود في حالة دوستويفسكي لا يتعلق بالمسألة الجمالية، كما ألفناها في حالة فان جوخ أو فرانز كافكا، وإنما نقصد اللحظة التاريخية في صراعاتها وتقلباتها. المقصود هو "التاريخ" لا "الزمان". فالزمان مفهوم أكثر تجريدًا، يوحى بمرور الفصول و تبدل الهيئة والأحوال. أما التاريخ فهو صراعات الأمم أو ذبح السكان أو تكوين وإسقاط الدول، بتعبير تيرى إيجلتون.
لست مؤرخًا للأدب، لكن يمكن القول، في شيء من التبسيط، أن اللحظة التاريخية كانت في خدمة كتاب مثل شكسبير وبلزاك ونجيب محفوظ.
تمتع شكسبير بالحرية القصوى في علاقته مع اللغة الإنجليزية في القرن السابع عشر، أو ما يُسمى العصر الإليزابيثي، كُتبت مسرحياته الشعرية قبل أن يوضع أول معجم أو قاموس للغة الإنجليزية.
أعمال الروائي الفرنسي الكبير بلزاك (1799- 1850) فتنتسب إلى الواقعية، قدم فيها صورة اجتماعية بانورامية للشعب الفرنسي بطبقاته، ورؤية ثاقبة لتراتبيته الاجتماعية الجديدة، حيث ميلاد الرأسمالية وصعود البرجوازية. فهو من أوائل من امتلكوا إدراكًا مفارقًا للتناقض الموجود في الطابع التقدمي للرأسمالية. كان بلزاك شاهدًا على ميلاد عصر جديد، وتناول فنه الغموض المحيط بالثراء الرأسمالي قبل أن يخرج كتاب كارل ماركس الأهم رأس المال إلى النور عام 1867.
كما تفتح وعي نجيب محفوظ على ثورة شعبية مجيدة في عام 1919، صاغت الوجدان الجمعي للمصريين وما يحمله من أحلام التحرر الوطني. وتفاعل مع منجز رواد النهضة الكبار، طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم وسلامة موسى.
مكنت اللحظات التاريخية الفريدة كُتابًا مثل بلزاك ومحفوظ وشكسبير من استبصار ما لم يكن ممكنًا أن يستبصره أسلافهم. والأهم، أنها منحتهم حُرية أن يجربوا طرائق تعبيرية مختلفة في محاولة تقديم رؤاهم وتصوراتهم. ربما ذلك العنصر هو ما سيستمر في خلق راهنية دائمة لهم.
لا يُمثل عصر دوستويفسكي نقيضًا لما سبق؛ فهو قد عاصر أزهى فترات الأدب الروسي الكلاسيكي. لكن ثمة تغييرات سياسية وتاريخية وجمالية تالية وضعت منجزه في وجه عواصفها.
ورغم الثغرات والعثرات والزلات في أدب دوستويفسكي، فإن المحاكمات المستمرة كانت تصدر أحكامًا قابلة للنقد، والنقض.
يمكننا القول إن خلود دوستويفسكي كان نوعًا من إعادة محاكمة مستمرة، وربما تكون الثورة البلشفية عام 1917 أولى تلك المحاكمات العاصفة.
محكمة الثورة
يرى النقاد السوفييت أن دوستويفسكي كان يستهدف أساسًا بروايته الشياطين، الهجوم على التنظيمات الاشتراكية وعلى معسكر الثورة في روسيا، و"الدفاع عن النظام الإقطاعي القيصري والكنيسة الأرثوذكسية"، كما يبين الكاتب والمترجم إسماعيل المهدوي (i).
وتعتبر قصة كتابة الشياطين من القصص الشهيرة في عالم الأدب، يُقال إن دوستويفسكي كان يرمز بشخصية ستافروجين إلى الزعيم الفوضوي باكونين، أحد معاصري ماركس. ويمكن إرجاع غالبية نماذج شخصيات الشياطين إلى شخصيات حقيقية متنوعة تمثل فئات روسية مجتمعية مختلفة، ومنها المنتمية إلى الجماعات الفوضوية وقتها.
نعلم أن دوستويفسكي كتب الشياطين بعد أن استفزته قصة سمعها من قريب زوجته، عن طالب روسي قتلته إحدى الجماعات الفوضوية لمجرد انسحابه من عضويتها، أراد دوستويفسكي أن يصنع من حادثة قتل الطالب محور روايته، لكن الشياطين تشعبت وتمددت لتصور المجتمع الروسي وما يعتمل بداخله من انقسامات وصراعات فكرية، وأفكار حول العلم والدين، وعن الخير والشر.
دوستويفسكي يشبه فرانكنشتاين في فقدانه السيطرة على الوحش الذي يصنعه. لا يقدم في فنه حلولًا فورية لمُشكلات الإنسان وإنما يكشف عن ازدواجية وتعقيد وتناقضات البشر.
وفق الرؤية الماركسية، فإن الأدب والفن ينتميان إلى المجال الأيديولوجي الذي لا ينفصل عن الأوضاع التاريخية والنظم الاقتصادية والاجتماعية التي تُنتج خلالها الإبداعات الفنية.
فالأنساق الفكرية نتاج للوجود الاجتماعي الفعلي، وانعكاس لمصالح الطبقة السائدة في حقبة تاريخية معينة. وبرغم النظرة الدائمة من ماركس وإنجلز إلى الجانب الاقتصادي بوصفه "العامل النهائي" الذي يتحكم في غيره من الجوانب، فإنهما كانا في الوقت نفسه ينظران إلى الفن والفلسفة بوصفهما أشكالا لها "استقلالها الذاتي النسبي" وقدرتها المستقلة على تغيير حياة البشر.
و"إذا كان الأدب والفن ينتميان إلى المجال الإيديولوجي، فإن علاقتهما بالإيديولوجيا أقل مباشرة من علاقة الأنساق الدينية والتشريعية والفلسفية"، كما يشرح رامان سلدن.
اتسمت السنوات الأولى التالية للثورة الروسية والممتدة إلى منتصف العشرينيات بمناخ ثقافي يسوده التجديد والتجريب، ونشأت فيه السجالات الثقافية والنقدية التي تميزت بالتنوع والحيوية.
لكن مع سيطرة بيروقراطية الحزب وصعود ستالين، هيمنت الرؤى الستالينية على الأدب والفن، وفرضت رؤى أحادية على الإنتاج الفني والثقافي للمبدعين، وسيطرت عليهم. كانت المدرسة الفنية الوحيدة المقبولة سياسيًّا لدى عديد من الشيوعيين في الاتحاد السوفييتي وغيرهم من التابعين لإملاءات الحزب الشيوعي، هي ما عُرف بالواقعية الاشتراكية.
كان للأديب أو الفنان دور محدد، دعائي في جوهره، وموضوعات بعينها للتناول الفني. صار لزامًا على الأدب أن يقدم "البطل الإيجابي"، وأن يتجاوز عن تعقيدات الشخصية الفردية كونها من سمات الأدب البرجوازي، وأن تخلو الرواية من عناصر السخرية والشك والتهكم، واستبدال ما سبق بـاليقين الاشتراكي ووضوح الرؤية. ونتيجةً لذلك، هوجمت الأعمال الفنية الطليعية والأساليب الفنية الحداثية كأعمال كافكا وجويس وبيكيت وبيكاسو وبروست. ومن قبلها أعمال دوستويفسكي بالطبع، التي تتمزق فيها شخصياته بين الشك والقلق، ويعلو فيها حس السخرية.
وجدت تلك الرؤى السلطوية تحققها في تنظيرات كارل راديك خلال مؤتمر الكتاب السوفييت عام 1934. طرح راديك فكرة الانعكاس المباشر للحياة الاجتماعية والالتزام السياسي بمعارك الحزب وعدم الانشغال بالحياة الداخلية الخسيسة لفرد تافه كما يفعل جويس في روايته عوليس، حد وصف راديك.
أما أندريه جدانوف، الذي ألقى الكلمة الرئيسية، فقد أكد على دعوة ستالين بإبراز "الصور البطولية" وأهمية الأدب الهادف المنحاز. فلا مجال للشك أو التساؤل في عصور الصراع الطبقي.
ومع استمرارنا في توظيف مجاز المحكمة، يمكننا أن نتخيل هيئة الدفاع عن دوستويفسكي أمام إدعاءات النقاد السوفييت وبيروقراطيي الحزب.
يعتبر الفيلسوف فردريك إنجلز (1820- 1895)، شريك ماركس في البيان الشيوعي، أهم أعضاء هذه الهيئة.
لم تكن حجة إنجلز الدفاعية عن دوستويفسكي تحديدًا، وإنما يتمثل دفاعه في رؤيته للأشكال الفجة من الواقعية الاشتراكية، ولم يعش حتى يرى فجاجة ثلاثينيات روسيا الستالينية، وكذلك نقد المسألة المتعلقة بولاء الكاتب لطبقته والتعبير "الصريح" عنها. واختار بلزاك نموذجًا توضيحيًا لفكرته.
يحاجج إنجلز مبينا أن بلزاك "المؤيد الرجعي لأسرة البوربون الملكية" هو الذي صور المجتمع الفرنسي بكل تفاصيله الاقتصادية "على نحو أكثر عمقا من كل المؤرخين والاقتصاديين المتخصصين في هذه الفترة". كان إحساس بلزاك العميق بانهيار طبقة النبلاء وصعود البرجوازية دافعًا له إلى أن يمضي في اتجاه يخالف ميوله الطبقية وتحيزاته السياسية".
ويوضح سلدن أن فكرة إنجلز كان لها تأثير على النقد الماركسي المتأخر، وذلك ما ساهم بدوره في إعادة النظر إلى علاقة روايات دوستويفسكي بمواقفه وآرائه السياسية.
والشخصية العظيمة في تاريخ الثورة البلشفية التي يمكن أن نضم حججها إلى الدفاع هي ليون تروتسكي (1879- 1940)، الزعيم الثوري وشريك لينين في الإعداد للثورة.
يقول تروتسكي في كتابه الأدب والثورة، إن "إدانة شاعر بسبب مشاعره أو أفكاره موقف لا يقل عبثية عن ما كان يحدث في العصور الوسطى، عندما كان الجمهور يضرب الممثل الذي يقوم بدور يهوذا".
وفي إطار نقده لأعمال مايكوفسكي، يوضح تروتسكي في حديث أمام نقاد بلاشفة أن أفضل أعمال شاعر الثورة، كما عرف فيما بعد، كانت تلك التي تبزغ فيها فرديته ويعبر من خلالها عن مشاعر وأفكار في غاية الخصوصية، وليست تلك القصائد التي كتبها لأغراض سياسية دعائية مباشرة.
ورغم نظرة النقاد السوفيتيين القاصرة إلى دوستويفسكى بوصفه رجعيًا ومدافعًا عن القيصر والكنيسة فإن أعماله العبقرية، التى تحمل تناقضات ثرية ومفهومًا جدليًا عن الحقيقة والثورة والخير والشر، قد دفعت كاتبًا مثل مكسيم جوركي، الذي طالما نادى بتقديم البطل المثل الأعلى، إلى الإشارة إليه قائلا " كنت أفضل أن يجتمع العالم المثقف حول بوشكين لا حول دوستويفسكى، لكننى فى نفس الوقت لا أعارض فى التأثيرالذى تمارسه عبقرية دوستويفسكى هناك، لأنى مقتنع بتأثيرها المدمر على التوازن الفكرى لمثقفى البرجوازية الصغير فى أوروبا".
محكمة الحداثة ومعنى الأدب الرفيع
لم تكن مقولات النقاد السوفييت ومناصري الرؤى الستالينية نقدية في جوهرها، بل انعاكسًا لطغيان البيروقراطية وغياب النظرة "الجدلية" على المستوى السياسي والنظري. فأي فاشية في حاجة دائمة إلى بروباجندا قائمة على الترويج إلى مباديء بعينها، وكذلك اليقين التام بجملة من المسلمات والحقائق النهائية. وأبطال دوستويفسكي على النقيض من كل ذلك. إنهم المادة الخام للشك وغياب اليقين.
لذلك فإن آراء إنجلز وتروتسكي لا تكتسب أهمية كونها الآراء المنفردة/الوحيدة المدافعة عن دوستويفكي، أو من كونها الأعمق نقديًا، وإنما لأنها الأكثر ملائمة للسجال السياسي والأحكام الحدية بين الثوري والرجعي.
أما المفاهيم النقدية التي اهتمت بنصوص ولغة وخطاب دوستويفسكي الروائي، فموضعها الأنسب هو سجال الحداثة والأسلوبية وأسئلة الأدب "العظيم".
كانت النبرة الأكثر هجائية وعدائية تجاه دوستويفسكي موجهة من كاتب روسي الأصل، فلاديمير نابوكوف، المولود في في سانت بطرسبرج، المدينة الأثيرة في أدب دوستويفسكي، ومدينة وفاته كذلك.
كتب نابوكوف باللغتين الروسية والإنجليزية. وفي روايته الأشهر لوليتا يصل نابوكوف إلى حدٍ مدهش من البراعة اللغوية والأسلوبية، بل إن نابوكوف يفوق بلاغيًا على كثير من الروائيين الإنجليز المرموقين في لغتهم الأم.
يرى نابوكوف أن الابتذال سمة أساسية في أدب دوستويفسكي. وأن رواية مثل الجريمة والعقاب يشوبها "المط" والعاطفية الرهيبة، أما الأبله فهي خليط مخبول وحوارات لا تقول شيئا دون "ترنح واهتياج".
لماذا يجب أن تقرأ الجريمة والعقاب- Ted-Ed
ما لم يدركه نابوكوف أنه مدين بشكل غير مباشر إلى دوستويفسكي. لولا بعض شخصيات دوستويفسكي المضطربة اللا أخلاقية لما استطاعت شخصية البروفسير همبرت أن تجد مكانها في عالم الأدب الرفيع. بالطبع يمكن أن تتحول شخصية مثل همبرت، صاحبة الولع البيدوفيلي تجاه القاصرات، على يد دوستويفسكي إلى شخصية قلقة معذبة، تكابد ألم السقوط، ترفض الحياة وتُقدم على الانتحار.
الفارق الحداثي في اختيار نابوكوف أن تتخذ الرواية شكل الدفاع الذاتي في أسلوب سردي منمق، ونثر بديع، يحاول من خلاله الراوي التلاعب بالقارئ كما تلاعب بالطفلة من قبل.
يخلق النص من خلال لغته البديعة وبلاغته الخلابة تفاعلًا بين الخيالات اللاواعية والدفاعات الواعية ضدها. يُعري انحياز القارئ حين يجد نفسه متعاطفًا مع الراوي، أو آملًا في نجاح مخطط هامبرت الإجرامي.
لذلك، فالعمل لا يطمح إلى تأكيد التعامل مع الأطفال بوصفهم موضوعات جنسية، لكنه يُقوِّض مركز الغواية داخل البالغ، لا برسم صورة ملائكية ساذجة للضحية، ولا بخطاب أخلاقي نادم عن البيدوفيليا (اشتهاء الأطفال جنسيًّا)، وإنما بتصويره لامتلاك جسد لوليتا، والسخرية الشيطانية التي يخلعها على الملائكة، كمجاز للفتيات الحوريات، فيكشف عن واقعية الراوي الشرسة التي اجتهد في إخفائها خلف لغة شعرية وأسلوبية متعالية.
لم يكتب دوستويفسكي سردا في براعة لوليتا اللغوية. لكن في الوقت الذي يجعلك نابوكوف تستكشف إمكانات وتراكيب لغوية غير محدودة، كان دوستويفسكي لينفقه في استكشاف وسبر أغوار النفس البشرية المجهولة، كما فعل مع ميشكين وراسكولينكوف وإيفان كارامازوف. وعظمة الأدب في أنه يمنحك الفرصة كي تستكشف بنفسك كلا الطريقين، وتستمع برحلتك فيهما.
من ضمن إهانات نابوكوف الشهيرة، ثمة واحدة يغلفها بالسخرية، إذ يقول"يبدو أن دوستويفسكي قد اختارته أقدار الأدب الروسي ليكون أعظم كاتب مسرح في تاريخ روسيا، لكنه أخذ المنعطف الخاطئ وكتب الروايات".
لا يدرك نابوكوف أن كلماته السابقة نفسها تتخذ منعطفًا خاطئًا رغم صحتها البالغة، فهي تحدد بوضوح أحد أسرار عظمة دوستويفسكي.
حدد الناقد جورج ستاينر طبيعة تلك العظمة في وصفه دوستويفسكي بـ "واحد من أهم العقول الدرامية منذ شكسبير".
تكتسب روايات دوستويفسكي تأثيرها البالغ من قوة العناصر الدرامية بها. الحكاية الدرامية قادرة على البقاء عبر الزمن. منذ مأساة أوديب والأوديسا إلى هاملت ثم راسكولينكوف وميشكين وديمتري كارامازوف. لا شيء يمكنه البقاء قدر الدراما العظيمة، ومنها تتخلق كل الأفكار والتنويعات والمعالجات. تتعدى رواية دوستويفسكي طبيعة الدراما المسرحية، وإن تحولت في أغلب الأوقات إلى مسرح لصراع الأفكار بين الشخصيات المتناقضة. لكن تناقضات الشخصيات وصراعاتها الداخلية أجبرت دوستويفسكي على اتخاذ ما يصفه نابوكوف بالمسار الخاطئ. الرواية هي الشكل الفني الأمثل الذي يمكن من خلاله تصوير المعاناة الداخلية والآلام النفسية المركبة، وأيضًا صياغة الهواجس والرغبات المتطرفة، والسخرية المبطنة والتعليقات المتهكمة واستطرادات الحبكة خلال السرد. الرواية كنوع أدبي ليست في قطيعة مع الدراما بمفهومها الكلاسيكي.
كما يذكرنا دوستويفسكي بالأهمية المركزية للدراما، فإن أعماله توضح طبيعة العلاقة الجدلية بين النص والأيديولوجيا، وأيضًا بين الفن والخطاب الأيديولوجي بشكل عام.
يرى المفكر الماركسي جورج لوكاش أن العلاقة بين موقف الكاتب بل "حتى الحلول الاجتماعية التي يطرحها في أدبه غير ذات شأن في تقييم العمل الأدبي"، كما يبين الباحث سامح نجيب (ⅰⅰ).
يوضح لوكاش عند قراءة دوستويفسكي أن الجوهري هو كيف تطرح الأسئلة والإشكاليات، أما "الإجابات والحلول التي تظهر بشكل طبيعي في الأعمال الأدبية فلها طابع عشوائي غير هام".
يقول لوكاش إن الكثير من الحلول الاجتماعية والسياسية التي يقدمها دوستويفسكي في كتاباته الصحفية والروائية رجعية وماضوية، و"تتمحور حول العودة إلى الكنيسة الروسية الأرثوذوكسية، ولكن صحة وعمق تساؤلاته الشعرية تجعله يتجاوز تلك الحلول الضيقة. ينتصر السؤال الشعري على الوعي والأطروحات السياسية لدى الأديب".
ويرى في تجارب الذوات الفردية داخل أعمال دوستويفسكي وأزماتها الوجودية العميقة نوعًا من "التمرد على التشويه الذي يحدثه التطور الرأسمالي للبنية الأخلاقية والنفسية للإنسان"، ووقوفها الأبدي على حافة الانهيار والتشوه والتفكك يمثل "أعنف إدانة لشكل تنظيم الحياة وتحولاتها في عصره".
هكذا يتجاوز أدب دوستويفسكي أيديولوجيته الخاصة نفسها. كأن الفن، في جوهره، ضد الأيديولوجيا، بمعنى أن الفن الأصيل يقوم دائما بتصعيد حدود الإيديولوجيا لعصره "مانحا إيانا تبصرًا بوقائع تعمل الأيديولوجيا على إخفائها عن ناظرينا"، كما يشرح آرنست فيشر.
أما الناقد الماركسي الآخر الذي يقدم تصورًا للعلاقة بين الأدب والأيولوجيا فهو بيير ماشيري. فبحسب ماشيري، "العمل الأدبي مقيد إلى الإيديولوجيا لا بما يقوله بالأساس وإنما بما لا يقوله. ويمكن أن نحس بحضور الإيديولجيا في لحظات صمت النص الدالة وفي فجواته وغياباته".
ربما تبدو روايات دوستويفسكي بلا لحظات صمت، كأنها ثرثرة بلا توقف. لكن كيف خلق دوستويفسكي تلك الثرثرة ؟ ومما تكونت؟
يصف ميخائيل باختين روايات دوستويفسكي بأنها "متعددة الأصوات" أو "بوليفينية". إنها ليست أحادية النبرة. ولا توجد في روايات دوستويفسكي أية محاولة للتنسيق أو التوحيد بين وجهات النظر المتباينة التي تعبر عنها الشخصيات المختلفة. تظل الشخصيات محتفظة بتكاملها واستقلالها، و"لا يمتزج وعي هذه الشخصيات بوعي المؤلف أو تذعن لوجهة نظره"، فهي "ليست موضوعات لكلمة المؤلف فحسب بل ذوات فاعلة لها كلماتها المباشرة الدالة في الوقت نفسه".
يؤكد باختين، سواء في مشكلات شعرية دوستويفسكي أو الخطاب الروائي، على التفاعل المتهيج المتوتر مع كلام الآخرين. ويقول إن "ملفوظات شخصيات دوستويفسكي هي ساحة لعراك يائس مع كلام الآخرين في جميع مجالات الحياة ومجالات العمل الإيديولوجي". وروايات دوستويفسكي هي أيضًا "حوارات يائسة وغير تامة للشخصيات فيما بينها، وفيما بين الكاتب نفسه وشخصياته. فكلام الشخصية لا يصل إلى نهايته ويظل حرًا مفتوحًا، واختبارات الشخصيات وأقوالها تظل غير تامة داخليًا، وبدون حل"، حد تعبير باختين.
هكذا يمكن أن نقول مع هيرمان هيسه أن الأمير ميشكين يماثل المسيح ولا يماثله في آن.
وربما من خلال هذا الحوار المفتوح اللانهائي يصل دوستويفسكي إلى ما أطلق ميلان كونديرا عليه لاحقًا "حكمة الرواية".
في سياق متصل، فإن كونديرا نفسه انتقد دوستويفسكي والمكانة الكبيرة التي يوليها للمشاعر في مقاربته للعالم. وتناسى كونديرا حقيقة أن المعرفة الشعرية لا نستطيع الحكم عليها بواسطة المعرفة الفلسفية أو العلمية، وإنما نتفاعل معها من خلال الحدس والشعور، كما يوضح تودوروف. وكذلك وصف كونديرا أفكار الكاتب الروسي عن القومية الروسية بأنها مسؤولة عن الغزو السوفييتي لبلاده التشيك عام 1968.
كيف صار دوستويفسكي مُذنبا وحوكم بأثر رجعي؟
من أجل فهم تهمة كونديرا العجيبة، سننتقل إلى محكمة أخرى.
محكمة الصوابية السياسية والعلمية
مع تغير النظرة إلى منجز سيجموند فرويد، رائد التحليل النفسي، تغيرت مكانة أعمال دوستويفسكي في نظر البعض.
على مدار عقود، تعرضت نظريات فرويد إلى محاولات دحض مستمرة. منها انتقادات النسوية لتوظيف فرويد عقدة أوديب في تحليله النفسي، ونظرته إلى النساء بأنهن "حاسدات للقضيب"، إضافة إلى رغبة عصر علم الأدوية النفسية الجديد إلى تجاوز التحليل النفسي، مع محاولات المزج بين الطب النفسي وعلم الأعصاب.
يرى كثيرون أن أقصى تقريظ يمكن توجيهه إلى أعمال دوستويفسكي كونها سبقت فرويد والتحليل النفسي إلى اكتشاف أسرار اللاوعي أو اللا شعور، كإشارة إلى قوة الحدس الفني عند دوستويفسكي، وقدرته الفريدة على خلق المعرفة.
تكمن المشكلة في محاولة إخضاع الرواية، كعمل فني، لقراءة "قبل نصية"، تعول على مكتسبات العلوم الطبية والعلوم الإنسانية الحديثة (التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع...)، وتتخذ النص الروائى مجرد دال على سلامة منطلقاتها وعلى صحة ما توصلت إليه من نتائج، أو إخضاعها لقراءة تتعامل مع عناصر معينة من الرواية بمعزل عن العناصر والجوانب الأخرى فيها.
أي قراءة اختزالية للعمل الفني هي بالضرورة قراءة ناقصة.
وكما حاول تروتسكي أن يحرر مفهوم الجمالي من قبضة الاختزالية التاريخية، التي لا يمكنها مثلًا أن ترى القيمة في الكوميديا الإلهية لدانتي إلا من حيث قدرتها على إفهامنا سيكولوجية طبقة بعينها في زمن بعينه، فإننا يجب أن نحرر القراءة الجمالية من أي نزعة اختزالية، تاريخية أو علمية أو أسلوبية أو لغوية.
تقدم روايات دوستويفسكي تجارب إنسانية لا حالات طبية تقتضي العلاج. ولا يعني إسهامها في إثراء حقول معرفية أخرى كالطب النفسي أو التحليل النفسي خضوعها الدائم لتلك الحقول، وارتباط قيمتها الفنية بصلاحية مقولاتها العلمية.
كان إعجاب شخصية أخرى بأدب دوستويفسكي طريقًا لاستدعائه ومثوله أمام محكمة الصوابية السياسية. والشخصية المقصودة معاصرة وذائعة الصيت. إنه جوردان بيترسون، بروفيسور علم النفس الكندي، والمحاضر، وصاحب الجولات في الهجوم الحاد على خطاب وممارسات الصوابية السياسية، من خلال أسلوبه الكاريزمي ولهجته الحاسمة داخل جامعة تورنتو وعلى قناته بموقع يوتيوب.
بيترسون محق في بعض تخوفاته من "سياسات الهوية" وتحول الصوابية السياسية إلى أداة رقابة على حرية الرأي والتعبير. لكنه يجمع اليسار الماركسي مع مفكري ما بعد الحداثة مع النسويات، ويضيف إليهم بعض الاتجاهات الليبرالية المعاصرة في جعبة واحدة، ثم يسدد إليها سهام النقد المتهكم. كما يرفض بعض دعوات المساواة في الأجور والعدالة الاجتماعية. لذلك يُعتبر المثقف اليميني الأشهر والأكثر تأثيرًا.
كان بيترسون من رافضي القانون الكندي لعدم التمييز Bill C-16 الذي يحظر التمييز على أساس الهوية الجنسية. أتاح القانون حرية استعمال/استحداث ضمائر الإشارة اللغوية غير المرتبطة بثنائية الذكورية/الأنثوية، واحترام حق الفرد في إقرار أي الضمائر يمكن أن ينادى به/بها، واعتبار مخالفة ذلك إهانة/تمييز موجه ضده/ها.
دافع بيترسون عن حقه في معارضة هذا القانون لما يمثله، في رأيه، من قمع وتهديد لحرية الرأي والتعبير. هكذا أصبح العدو الأبرز لخطاب الصوابية السياسية. وصار دوستويفسكي الميت مسؤولًا عن حب بيترسون "اليميني"، مثلما أصبح فاجنر من قبله مسؤولا عن حب أدولف هتلر لموسيقاه. لاحقت دوستويفسكي بعض اتهامات الصوابية، فطالما أحبه "المفكر اليميني" فإن تجاهل أعماله يصير رد الفعل المطلوب.
إعادة هزلية لمحاكمة عبثية بأثر رجعي.
كاتب نسوي
منذ دراسة الناقدة النسوية باربرا هيلدت عن المرأة في الأدب الروسي، استقرت بعض الرؤى النقدية النسوية التي ترى دوستويفسكي كاتبا ذكوريًا، أو على أقل تقدير غير مهتم بكيفية تصوير النساء في أعماله.
لكن الرد جاء من الناقدة النسوية كاثرين جين بريجز، التي تحاجج عبر منظور نسوي بأن دوستويفسكي عمل بجدية على تقديم صورة المرأة في علاقاتها بالحياة اليومية والعمل، وموقعها من قضايا الإيمان المسيحي والعناية بتطورها الروحي، ورصد نضالها ضد شرور الأفراد والمؤسسات. بل إنها تذهب أبعد من ذلك في كتابها كيف يصور دوستويفسكي المرأة في رواياته.. تحليل نسوي. تقول بريجز إن شخصيات دوستويفسكي النسائية وثيقة الصلة بقضايا القرن الحادي والعشرين، وإنه يمكن اعتبار دوستويفسكي "كاتبا نسويًا".
القارئ الأبدي
أخيرًا، وبعد أن جُمعت في السطور السابقة مقولات لكتاب ونقاد من الشرق والغرب، وبعد فاصل من الثرثرة النظرية والاستطرادات والاستشهادات والسجالات النقدية أسوة بما يفعله دوستويفسكي، أو هكذا يُخيل إلينا، لا نصل إلى نهاية. وربما هذا هو المراد إثباته: أن تظل أعمال دوستويفسكي محملة بالشيء ونقيضه، وأن نظل غير قادرين على إصدار أحكام يقينية أو نهائية على أدبه مهما قدمنا من الحجج النقدية والفكرية.
وكما أن الموت هو اليقين الوحيد الذي أجمعت عليه البشرية، فإن اليقين الوحيد المتعلق بأدب دوستويفسكي هو أن قارئه الأخير لن يموت أبدًا.
ⅰ من مقدمة المترجم للمعالجة المسرحية "المجانين" لأبير كامي، روائع المسرحيات العالمية، فبراير 1967.
ⅰⅰ "قراءة نقدية لكتاب في الثقافة المصرية"، مجلة أوراق اشتراكية، العدد 21 – خريف 2009.
للعودة إلى الصفحة الرئيسية للملف.