كثيرًا ما يخطر على ذهني ما قاله عبد الرحمن الأبنودي في قصيدته أحزان عادية "ربنا رازقه بجهل غانيه عن كل العلم"، خاصة حين يتعلق الأمر بالرؤية الذكورية للنساء من قريب أو بعيد. لم أفهم أبدًا سر الغضب الشديد من عنوان مسرحية ولا أرى سببًا منطقيًا لأن يكون الانطباع الأول عن المومس الفاضلة هو أنها فيلم بورنو؛ سوى أن أصحاب تلك الذهنية لا يمكنهم تصور أجساد النساء سوى ميدان لمتعة الرجال.
تلك العقلية نفسها هي التي تعرف كل أماكن الجنس التجاري في مصر وترتادها أو تسعى لاستغلال أجساد النساء كعشيقات ومحظيات في السر دون معرفة الزوجات المغلق عليهن جيدًا في بيوت محكمة الأبواب والنوافذ وتحت طبقات متعددة من الأقمشة لطمس أي معالم لأجسادهن.
في كثير من قرى مصر كانت بيوت الدعارة معروفة ومتاحة حتى بعد تجريم الجنس التجاري، في قريتي كنت أعرف بيتين اشتهرا بعمل نسائهن في الجنس التجاري، أحدهما كان يديره رب الأسرة، والثاني امتهنت نساؤه هذا النوع من العمل بعد وفاة الأم وتدهور الأحوال المعيشية للأسرة. البيوت كانت كباقي بيوت القرية فقيرة ومتهالكة مبنية بالطوب اللبن, وطالها التغيير، كباقي البيوت، وأعيد بناؤها بالطوب الحراري والأسمنت لاحقًا. لم يكن زي النساء في تلك البيوت يختلف عن باقي النساء في القرية هو الجلباب الفلاحي والطرحة، ثم لاحقا العباءات والحجاب. كل الاختلاف كان معدل تردد الرجال من القرية ومن خارجها على المنزلين وعزوف النساء عن صداقة أهل البيتين. الجنس التجاري إذن هو جانب من الواقع، فلماذا يرفض كثيرون الحديث عنه وكأنهم يخشون افتضاح أمرهم وسقوط عباءة التقوى المزيفة عن رغباتهم التي تنتهك أجساد النساء وتستغلها؟
صديقتي الأوروبية تغضب كثيرًا من عاملات الجنس التجاري لأنهن اخترن مهنة لا تلزمهن بمواعيد عمل طويلة ويمكنهن العمل بضعة ساعات يوميًا في الأوقات التي يقررنها ومع الأشخاص الذين يختارونهن ويحققن في نهاية الشهر دخلًا أكبر من ضعف الدخل الذي تحصل عليه من عملها. وكأن الغيرة منهن أو الحقد عليهن هو السبب الأساسي لرفض الجنس التجاري.
على المستوى الشخصي أرفض الجنس التجاري ليس لأسباب أخلاقية، ولا لأسباب تتعلق بالغيرة المهنية أو القدرة المالية، ولكن لأنني أراه ضد الإنسانية أن يتحول جسد الإنسان إلى سلعة تباع وتشترى، هو بالنسبة لي أقرب إلى تجارة الأعضاء البشرية.
تلك التناقضات بين الغيرة من الجسد الأنثوي والرغبة في الاستمتاع به وامتلاكه، وأيضًا العمل على تشويهه وقمعه يصعب تفسيرها دون رؤية نسوية تعيد تفسير طريقة التفكير المتشددة التي تسعى دومًا لنيل المتعة الجسدية وتحتقر من يقدمن هذه المتعة ولو على حساب أرواحهن. من يعلنون مواقف متشددة أخلاقيًا وفي الخفاء يفعلون كل ما يعلنون رفضه.
مومس سارتر وراقصة إحسان عبد القدوس
قامت الدنيا ولم تقعد بعد تصريحات الفنانة إلهام شاهين بخصوص فكرة إعادة تقديم مسرحية المومس الفاضلة، ووصل الأمر إلى البرلمان الذي انشغل على يد أحد أعضائه برفض الفكرة بعدما اعتبر أن المسرحية ليست أكثر من فيلم جنسي دون أن يزعج نفسه بالبحث عن معلومات عن المسرحية ولا فكرتها ولا أحداثها. فقط ضرب عرق الذكورية وقرر أن يصنع مشهدًا يبدو فيه وكأنه حامي حمى الأخلاق والفضيلة لأن كلمة "مومس" دليل على الانحلال والفساد. وما أسهل المشاهد التي يتم صنعها على حساب أجساد النساء وعبر الترويج لنموذج الأخلاق المعتمد والمتعارف عليه ذكوريًا الذي لا يتعدى الحكم على النساء دون الرجال والتشهير بالنساء دون الرجال.
هو رد الفعل والضجة التي جعلت الفنانة الكبيرة سميحة أيوب تتعجب وتقول خلال مداخلة هاتفية ببرنامج حديث القاهرة، أن الذين هاجموا اسم المسرحية طبقوا قاعدة "لا تقربوا الصلاة"، مضيفة "فيه مسرحيات الاسم عادي والمحتوى حقير، ونفسي الهيجان يبقى لشيء نافع للبلد. أنا حزينة من اللي حصل على اسم المسرحية، وأنا عملت المسرحية دي في أواخر خمسينات القرن الماضي".
لم يعرف السيد البرلماني ومن تبعوه في شطحاته الغريبة أن المومس الفاضلة هي مسرحية تعبر عن مدى بؤس الواقع والظلم الذي كان واقعًا وما زال جانبا منه، على الأمريكيين من أصل أفريقي والعنصرية المستمرة ضدهم. المسرحية التي صدرت عام 1946، استوحى أحداثها الأديب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر من واقعة حقيقة اشتهرت إعلاميا باسم فتية سكوتسبورو، حيث تم اتهام 9 من المراهقين السود الذين تصادف وجودهم ضمن ركاب أحد القطارات، بالاعتداء على عاملتي جنس من البيض، وتم إنزالهم في منتصف الرحلة والقبض عليهم في مقاطعة سكوتسبورو.
واعترفت واحدة من الفتاتين أمام القاضي أن التسعة متهمين لم يعتدوا عليها، رغم الضغوط الشديدة التي مورست ضدها كي تعترف على الشباب لمجرد كونهم من أصحاب البشرة السوداء. لكن المحلفين والمحكمة رفضوا شهادتها وحكم على ثمانية متهمين بالإعدام، فيما عاش المراهق التاسع ونشر شهادته في كتاب استوحى منه جان بول سارتر رواية المومس الفاضلة.
القصة إذن لا علاقة لها بالجنس ولكنها عن العنصرية والتمييز والظلم وسوء استغلال السلطة والنفوذ وكيف أن المومس التي رفضت المساعدة في إعدام مجموعة من البشر هي أفضل كثيرًا من القضاة والمحلفين الذين يدّعون الشرف والفضيلة بينما هم فاسدون وعنصريون حتى النخاج وقرروا قتل مجموعة من الشباب لا لشيء سوى لون بشرتهم.
القصة تتعلق بكيف يمكن للبشر الحكم على المظاهر بينما الأشخاص الذين اعتاد المجتمع تصنيفهم باعتبارهم أقل درجات وأدنى أخلاقيًا يمكن أن يكونوا أفضل وأنقى وأكثر إنسانية ممن يصدرون الأحكام من أبراجهم العالية التي يملؤها العفن والعنصرية والفساد. هي فكرة تتقاطع في السينما المصرية مع فيلم الراقصة والسياسي المأخوذ عن رواية إحسان عبد القدوس، الذي كتب له وحيد حامد السيناريو والحوار. في الفيلم تدفع الراقصة ثمن فساد السياسي الذي يحتمي بموقعه الاجتماعي وبنفوذه السياسي رغم أنها في الحقيقة أفضل منه فهي لم تخدع أحدًا ولم تكذب على أحد فهي ترقص بوسطها والجميع يعرف ذلك بينما هو "يرقص بلسانه" وينمق الأكاذيب لتدعيم نفوذه وزيادة ثروته عبر خداع الناس.
مشهد من فيلم الراقصة والسياسي
السينما والجنس التجاري
عالجت السينما المصرية الكثير من القضايا التي لها حساسيتها في المجتمع ولعقود كانت أكثر تقدمية وتحررًا من الوقت الحالي وخاصة قبل صعود تعبير "السينما النظيفة" و"الفن النظيف" الذي لا يمكنني تفسيره إلا باعتباره تعبيرًا شكليًا استخدمه الإسلاميون لأسلمة الفنون وقمعها وانجر خلفهم الأصوليون والتقليديون والذكوريون لأن هذه الدعوات تتوافق مع طريقتهم المزدوجة للتعامل مع الحياة ومع النساء على وجه الخصوص. فهناك آلاف المشاهد السينمائية التي تناولت الجنس التجاري بل وأفلامًا تدور أحداثها في بيوت الدعارة واستقبلها الجمهور بعقل منفتح وانتبه للفكرة التي ينقلها العمل الفني ولم يكتف بالتوقف عند أجساد النساء أو الجنس.
ففي فيلم اللص والكلاب تظهر شخصية فتاة الليل الفقيرة التي تحب بطل الفيلم، ويتم تقديم شخصيتها باعتبارها إنسانة في المقام الأول تحب البطل وتحاول مساعدته وتخاطر بنفسها من أجله، ولم يحولها الفيلم ومن قبله الرواية إلى شيطانة فهي إنسانة قبل أي شيء آخر. في فيلم ليلة ساخنة تلعب لبلبة دور عاملة الجنس ويتعاطف معها المشاهد لأن الفيلم بالأساس يتعامل مع أزمات الفقر الذي يدفع البشر إلى مسارات غير متوقعة ولا يختارونها بمحض إرادتهم. وبالتالي انفعل المشاهد مع الأزمات الإنسانية للبطلين لبلبة التي تبحث عن تكاليف تنكيس البيت الذي تسكن فيه ونور الشريف الذي يحاول تدبير تكاليف عملية حماته.
وفي فيلم درب الهوى يقوم حسن عابدين بدور وزير ورئيس لحزب الفضيلة والشرف. وقدم الفيلم بوضوح شخصية السياسي المنافق الذي يعلن شيئًا ويفعل عكسه تماما، فكان الوزير في القصة ينادى بغلق بيوت الدعارة نهارًا ويرتادها ليلًا. واليوم يتذكر المشاهد الفكرة التي يقدمها الفيلم والرفض للنفاق السياسي والفساد أكثر من أجساد عاملات الجنس التجاري في الفيلم.
وحين نتذكر فيلم طيور الظلام، قبل تذكر سميرة (يسرا) التي عملت بالدعارة في الفيلم، يتبادر إلى الأذهان أزمة التيارات والجماعات الدينية وطريقة تعاملها مع المجتمع وطريقة تعامل الدولة معها. الأبطال في الفيلم هم ثلاثة أصدقاء: فتحي نوفل (عادل إمام) الذي يتخلى عن مواقفه ويتحول إلى شخص انتهازي يسعى للتقرب من مواقع السلطة، وعلي الزناتي، الذي ينضم إلي الجماعات المتطرفة، ومحسن الموظف الذي يقرر الاحتماء بالبيروقراطية ويبتعد عن معركة الدولة مع الجماعات الدينية. وحين نتذكر سميرة (يسرا) نستعيد كيف أن عاملة الجنس أحبت فتحي لكن انتهازيته جعلتها تستعيد مهنتها السابقة بعدما عملت بالتجارة وأصبحت سيدة أعمال.
العودة إلى الكهف
العودة إلى الكهف هي ما يريده دعاة الفضيلة الغاضبين من طرح عنوان مسرحية المومس الفاضلة، ففي جانب من تعليقها على الضجة التي اندلعت بعد الحديث عن التفكير في إعادة انتاج القصة للمسرح، قالت سميحة أيوب في مداخلتها السابقة " عايزين يرجعونا الكهف تاني". وفي الحقيقة ذلك هو جوهر المشكلة، فسيادة النائب ومن هم على شاكلته من حاملي رايات الأخلاق والفضيلة يريدون إعادة النساء للكهوف مرة أخرى، ولا يمكنهم التفكير في أن أجساد النساء ليست سبة وأنها ليست ملكية عامة ولكنها تخص صاحباتها فقط.
النائب الذي انتفض بسبب عنوان مسرحية تمت كتابتها قبل خمسة وسبعين عامًا يحاول رسم العالم وفق رؤيته الشخصية ضيقة الأفق، بحثا عما يسميه "موضوعات هادفة" للفن وكأنه يعيد إنتاج ظاهرة "السينما النظيفة" مرة أخرى، محاولًا استبعاد كل ما يخالف تفكيره لدرجة أنه يعترض على الكلمة فلم يبق سوى المطالبة بحذف الكلمات من معاجم اللغة العربية وتجريم النطق بها.
السيد النائب يسعى لقمع حرية الإبداع والرقابة على الأعمال الفنية مستخدما تعبيرات من نوعية "ثقافة المجتمع" و"بناء الإنسان المصري" و"تشجيع الإبداع" لمجرد سماع اسم مسرحية لم يرق له، ولأن بطلة المسرحية اشتهرت ببعض الأدوار الجريئة، فلو كان ممثلًا رجلًا هو من صرح بأنه يفكر في إعادة إنتاج المسرحية لما ثارت كل تلك الضجة.