لم تقع هذه الأحداث في عام واحد بمحض الصدفة، من حديث رئيس الجمهورية حول ضرورة رفع سعر الخبز المدعم، إلى قرار وزارة التموين بزيادة أسعار زيوت الطعام المُباعة على البطاقات، ولكن قراءة أحوال الاقتصاد العالمي تقدم لنا التفسير، إذ شهد العالم في 2021 موجة من التضخم المرتفع، جاءت مدفوعة بزيادة في أسعار الطاقة وأسعار الأغذية الأولية، ومن المتوقع أن تستمر معنا هذه الموجة على الأقل حتى منتصف العام المقبل.
نسعى في هذا التقرير لتتبع أثر التضخم العالمي على مصر، هل ستسهم الأزمة في نقص السلع الأساسية أو زيادة أسعارها بقوة داخل مصر؟ وهل سيتفاقم عجز موازيننا الخارجية بسبب ارتفاع تكلفة الواردات؟ أم أن صادراتنا قد تحقق استفادة من هذا الغلاء العالمي؟
من أين بدأت الأزمة؟
يبدو مؤشر أسعار خام برنت هذا العام أشبه بجبل بدأ بقمة صغيرة ثم ارتفع في نهايته إلى جبل شاهق، ففي يناير/ كانون الثاني 2021 كان سعر الخام يرتفع بالكاد عن 50 دولارًا للبرميل، وخلال الربع الأخير من نفس العام كان السعر يقترب من ضعف هذه القيمة عند نحو 90 دولارًا للبرميل.
وتبدو هذه القفزة أمرًا استثنائيًا في التاريخ القريب لأسعار الخام، فهو لم يتجاوز الـ 70 دولارًا منذ صيف 2019، وهو ليس أسوأ المؤشرات في مجال الطاقة، فتعاقدات الغاز الأمريكية زادت بأكثر من الضعف هذا العام وبلغت مستويات لم تصل إليها في آخر خمس سنوات.
هذه القفزات جاءت مدفوعة بعودة الطلب العالمي للانتعاش مع تطور أساليب مواجهة وباء كورونا والقدرة على التعايش معه، في مقابل ذلك فإن الاستثمارات في مجال استخراج الطاقة كانت تكاسلت بشكل واضح منذ 2020 بسبب القيود التي فرضها الوباء في هذا العام، والعديد من المواقع الإنتاجية أجلت أعمال الصيانة من 2020 إلى 2021، وهي العوامل التي أثرت مجتمعة على المعروض من الطاقة.
"نحن نسير في اتجاه تصاعدي لأسعار الوقود حتى نهاية العام، والجميع سيتضرر، ربما يقل الضرر على كبار المنتجين الذين سيعوضون ارتفاع تكاليف الطاقة من أرباح بيع المواد الخام، لكن بلدان مثل مصر ليست من هؤلاء، فالضرر الواقع عليها من زيادة الأسعار أكثر تأثيرًا من النفع المتحقق" كما قال أسامة كمال، وزير البترول الأسبق، في حديث للمنصة.
وبحسب بيانات البنك المركزي، فإن وارداتنا من المواد البترولية خلال العام المالي المنتهي في يوليو/ تموز الماضي كانت تفوق صادراتنا بـ 6.7 مليون دولار، رغم من صادراتنا القوية في مجال الغاز الطبيعي التي تتجاوز 1.3 مليارًا فإن وارداتنا النفط الخام والمنتجات البترولية تغطي على هذه الصادرات بقيمتها الضخمة التي تقترب من 8 مليارات دولار.
"نستورد بترولًا خام، إضافة إلى البوتاجاز والسولار، ولا يمكن أن نعوّل على الاستكشافات الجديدة في مجال الغاز لتحسين صادراتنا البترولية، لأن جزء ضخم مما يتم استشكافه نقوم باستهلاكه محليًا"، كما يضيف كمال.
ويبلغ الإنتاج اليومي من الغاز في مصر حاليا، نحو 7.2 مليار قدم مكعب يوميًا، وحصة مصر في هذا الإنتاج 4.8 مليار قدم مكعب، أما الباقي فيذهب إلى الشريك الأجنبي الذي قام باستخراجه. ولأننا نحتاج محليًا حوالي 6.2 مليار قدم مكعب يوميًا، نضطر أن نشتري نحو 1.5 مليار قدم مكعب من حصة الشريك الأجنبي، بحسب كمال.
ويتمثل الضرر الأساسي من ارتفاع أسعار الطاقة عالميًا في استنزاف احتياطاتنا من النقد الأجنبي لتمويل هذه الواردات، لكن هذا ليس هو الضرر الوحيد، حيث يمتد الأمر أيضًا إلى ارتفاع أسعار العديد من السلع الأساسية والتي تتأثر بتكلفة الطاقة.
"التصاعد المتوالي في أسعار الطاقة، خاصة الفحم والغاز، ساهم في زيادة مدخلات الإنتاج الزراعية بشكل حاد. ومنها الأسمدة التي ارتفعت بأكثر من 55% منذ يناير"، كما يقول البنك الدولي في تقريره الأخير عن أسعار السلع العالمية.
وفي مصر كان صدى هذه الأحداث متمثلا في قرار حكومي نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي برفع سعر الغاز لمصانع الحديد والأسمنت والأسمدة، والذي سينعكس بطبيعة الحال على سعر المنتجات النهائية ربما باستثناء الأسمدة التي تتدخل الحكومة بشكل مباشر في تسعيرها.
القمح.. أزمة التكلفة والجودة
هذا بجانب ارتفاع أسعار السلع الغذائية التي نستوردها من الخارج، فخلال الشهر الجاري، نشرت وكالات الأنباء أخبارًا عن إلغاء مصر مناقصة لشراء القمح، وعادة ما تقوم الحكومة بهذا الإجراء عندما تجد أن الأسعار المعروضة عليها أعلى بكثير من حدود توقعاتها، المفارقة أن هذا الإلغاء كان الرابع من نوعه هذا العام، ما يعكس طبيعة الضغوط التي تواجهها الدولة لتوفير قمح بتكلفة معقولة.
"ألغيت العديد من المناقصات نتيجة رفع روسيا، وهي المورد الأكبر لمصر، أسعار التوريد بنسب كبيرة وفلكية" كما قال مصدر بوزارة التموين للمنصة.
وتعد هيئة السلع التموينية أكبر مستورد في مصر للقمح، في ضوء الكميات الضخمة التي يتم استهلاكها في صناعة الخبز المدعوم، وكان أكبر مورد للهيئة خلال العام المالي الماضي روسيا، تلتها أوكرانيا وفرنسا ورومانيا.
"ما اعتدنا عليه في السنوات السابقة هو أن ترتفع أسعار القمح ما بين 5 إلى 10% لكن القفزة الأخيرة رفعت الأسعار بنحو 40% خلال شهر واحد، بسبب ارتفاع أسعار النفط وزيادة تكلفة الشحن، وصعوبة النقل مع تجمد البحار في فصل الشتاء، إضافة إلى تأثر محاصيل عدد من الدول ما خفض من حجم المعروض"، كما قال إيهاب إدريس عضو غرفة الحبوب باتحاد الصناعات المصرية، للمنصة.
وبحسب بيانات البنك الدولي، التي تأخذ أسعار القمح الأمريكي كمؤشر على اتجاهات هذه السلعة، ارتفع سعر الطن المتري من 227.7 دولارا في 2020 إلى 263.6 دولارًا في سبتمبر/ أيلول الماضي، ويتوقع إدريس، أن يواصل القمح ارتفاعه خلال الشهرين المقبلين.
وقدرت الحكومة في موازنة عام 2022 كميات القمح المطلوب استيرادها في إطار منظومة الدعم لتوفير رغيف الخبز ودقيق المستودعات بنحو 5.1 مليون طن قمح، على أساس توقعاتها لأن يكون سعر طن القمح الأمريكي في هذا العام عند 255 دولارًا.
لكن في نهاية أكتوبر الماضي، بلغ سعر طن القمح في صفقات لهيئة السلع التموينية من روسيا ورومانيا وأوكرانيا بما يتراوح بين 328.05 دولارًا للطن و360.03 دولارًا للطن.
الارتفاع في التكلفة على الأرجح هو ما دفع الحكومة لدراسة كيفية تمرير شيء من الزيادة في التكلفة إلى مستهلكي الخبز المدعوم، ولكن حتى يتم اتخاذ هذا القرار الذي يكتسب طابعًا سياسيًا بالغ الحساسية، سيكون أمام الحكومة تحديات لتدبير احتياجاتها في ضوء التضخم العالمي.
"الحكومة تلجأ للقمح الروسي بسبب ارتفاع جودته، ولكن في ظل الظروف الحالية من الممكن أن تتجه لشراء حصص مختلفة من قمح بجودة مختلفة بمعنى أن تشتري 10% مثلًا من احتياجاتها من القمح درجة ثانية أو ثالثة لتخفيض التكلفة، وتشتري الباقي بجودة مرتفعة" كما يضيف إدريس.
أما عن توقعاته للقطاع الخاص يقول إدريس "القطاع الخاص يستورد 30% من احتياج السوق المحلي، لكنه سيضطر لتقليل وارداته خلال فترة الأزمة، أي دولار زيادة في سعر القمح يتبعه دولاران زيادة في الدقيق، ما يعني الارتفاع في سعر الطن الدقيق من 5500 جنيه إلى 7 آلاف للطن، مع توقعات أن يصل إلى 8 آلاف، ما سيحد من طلب المصانع، العاملة في قطاعات المكرونة والحلويات ومخابز الخبز السياحي، وهذا سيدفع المستورد لتقليل وارداته وانخفاض طاقة تشغيل المطاحن، خوفًا من الخسارة".
ولا يتوقع إدريس، انفراجة قريبة في أسعار القمح، لكنه يرى أن حركة الأسعار بداية من العام المقبل ستتحدد بناء على عدة عوامل، بينها انخفاض أسعار النفط، وإن كان أثر الزيادات الحالية في أسعار المدخلات الزراعية سيستمر في الانعكاس على القمح خلال العام المقبل.
وتتكرر الأزمة نفسها بشكل واضح في حالة زيوت الطعام، حيث يرصد البنك الدولي القفزات الكبيرة التي شهدتها أسعاره، على سبيل المثال زاد سعر الطن المتري لزيت النخيل من 752 دولارًا في 2020 إلى 1181 دولارًا في سبتمبر الماضي. ويمثل هذا النوع من زيوت الطعام المكون الأكبر بين واردات مصر من الزيوت، وخلال الفترة من 2017-2020 استوردت البلاد 3.2 مليون طن متري من زيت النخيل.
التحوط للحد من الأزمة
هناك تداخل قوي بين أزمة التضخم العالمي والمالية العامة في مصر، بالنظر إلى أن الحكومة هي المشتري الوحيد للمستخرجات البترولية، وتبيع هيئة البترول هذه المستخرجات وفق سياسة تسعيرية تضمن وصول الوقود للمستهلك عن سعر محدد، كذلك فهي المشتري الأكبر للقمح وتبيع رغيف الخبز بسعر مدعوم لفئات واسعة من المواطنين.
لذا عندما ترتفع الأسعار تكون الدولة بين خيارين، إما الاستدانة واستنزاف احتياطات النقد الأجنبي للحفاظ على دورها الاجتماعي أو ترك أسعار السلع الأساسية للارتفاع في مواجهة المستهلك النهائي.
لحسن الحظ هناك حل ثالث، إذ لجأت وزارة المالية خلال السنوات الأخيرة لاتباع آليات التحوط ضد تقلب الأسعار، وهو ما سيساهم في الحد من هذا الضرر.
والتحوط نوع من التأمين ضد ارتفاع الأسعار، ولجأت وزارة المالية لهذا التأمين خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة في مجال الطاقة، وتدرس الحكومة الاعتماد على نفس الآلية في عقود شراء القمح.
لكن وزارة المالية لم تعلن مع تفاقم أزمة التضخم مدى تغطية تعاقدات التحوط للزيادة الأخيرة في أسعار البترول، حتى يتبين مدى نجاح تلك الآلية في الحد من آثار هذا التضخم، ويقول وزير البترول الأسبق "لا يمكن توقع سعر معين نشتري به البترول حاليًا لأن هذه بيانات لدى وزارة المالية، لكن إذا كنا تحوطنا ضد ارتفاع الأسعار إلى 80 دولارًا للبرميل وكنا نتوقعه عند 60 دولارًا، تتحمل جهة التحوط الفرق، وإذا ارتفع السعر عن 80 دولارًا تتحمل الحكومة قيمة الزيادة فوق عقود التحوط، أما إذا كان التحوط دون حد أقصى تتحمل مؤسسة التحوط أي زيادة مهما كانت، هذا كله يتوقف على الاتفاقات التي تبرمها وزارة المالية".
وفي مراجعتها الأخيرة للأسعار أكتوبر الماضي، رفعت وزارة البترول أسعار البنزين 25 قرشًا، جاء ذلك بعد زيادات متوالية لأسعار الوقود خلال السنوات الأخيرة كان الهدف منها الاقتراب قدر الإمكان من التكلفة الحقيقية.
ويرى كمال أن أسعار الوقود الحالية مدعومة بالنظر إلى التكلفة العالمية "القرار يكون لوزارة المالية من حيث المبلغ الذي يمكنها تحمله من زيادة التكلفة والجزء الذي تمرره للمستهلك، لأن كل دولار زيادة في سعر البترول يكلف الموازنة 4 مليارات جنيه في فاتورة الدعم، وهذا يعني أن المالية تنظر إلى التكلفة النهائية وتقارنها بمخصصات الدعم وتعكس الباقي في صورة زيادة 25 قرشًا يتحملها المستهلك".
لكن من الواضح أن الدولة ترى جدوى كبيرة في آلية التحوط، حيث أعلنت في أكتوبر أنها تدرس تطبيقها أيضًا على مشتريات القمح والزيوت، "سيكون مهمًا تحديد حجم الزيادة التي سيتحملها الأطراف بما فيها فاتورة الدعم، والقطاع المصرفي والمواطن، وما سينتج عن هذه الزيادات على كل طرف، وتم تشكيل لجان لدراسة التحوط، هذه اللجان تعمل حاليًا وسط اهتمام من مجلس الوزراء"، وفقًا للمصدر بوزارة التموين.
وحتى تتضح الرؤية بشأن مدى فعالية سياسات التحوط، تظل الأزمة الراهنة تفرض ضغوطا على وضع النقد الأجنبي في البلاد. في هذا السياق تبدو خطوة المملكة السعودية الأخيرة بإيداع ثلاثة مليارات دولار في البنك المركزي مع مد أجل وديعة سابقة بـ 2.3 مليارًا نوع من الدعم غير المباشر لمصر في مواجهة الأزمة.
"ارتفاع التضخم العالمي من المحتمل أن يؤثر بشكل غير مباشر على الاحتياطي النقدي لمصر، خاصة إذا ارتفعت أسعار الفائدة عالميًا كرد فعل على ارتفاع التضخم، ما قد يسبب خروجًا لبعض المستثمرين الأجانب من محافظ استثمارات مالية في الدول الناشئة مثل مصر، وبالتالي فإن مصر قد تفقد جزءًا من احتياطياتها" كما قالت رضوى السويفي، رئيسة قسم البحوث بشركة الأهلي فاروس لتداول الأوراق المالية، للمنصة.
وتضيف "وديعة السعودية هي دعم له أثر إيجابي أكيد على مصادر الدخل الأجنبي، لكنه لن يغني عن برنامج السندات الحكومي، لأن قيمة الوديعة 3 مليارات دولار، في حين تبلغ الفجوة التمويلية بين 8 إلى 10 مليارات دولار سنويًا".
لكن السويفي، لا تتوقع أزمة كبيرة في الوضع المالي الخارجي لمصر، في ظل صادرات الغاز وعودة السياحة العالمية وصمود تحويلات المصريين العاملين بالخارج، والثقة التي تحظى بها مصر في الأسواق الدولية في الوقت الراهن والتي تمكنها من إصدار السندات الدولية والحصول على التمويل اللازم لعبور مثل هذه الأزمات الطارئة، خاصة "أن تكلفة التمويل الدولي ستكون أقل من تكلفة الاقتراض المحلي، وليس متوقعًا أن تواجه مصر أزمة في سداد أقساط الديون ومدفوعات الفائدة على الديون الخارجية فهناك خطة وبرنامج وتواريخ محددة، وهذا يحدث كل عام، هذا أمر مؤكد".